قد يحصل من بعض الأبناء أو الطلاب الانحراف اليسير والخلل السهل الذي يحتاج فيه إلى التنبيه والإشارة الخفيفة التي تناسب حجم هذا الخلل وتقوم بمعالجته بكل بساطة وهدوء، ولاداعي عند ذلك للضرب أو التشهير أو المحاسبة الدقيقة فإن البشر خطاء بطبيعته...
الحمد لله الذي جعلَ الشباب قوَّةً، وزينة وفتوة، وزيَّن بالثبات منهم من شاء، وحلى بالاستقامة منهم من أراد، أحمده -سبحانه- وأشكره والشكر له على جزيل نعمه، وعظيم مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له, وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله أرسله ربه بالهدى والنور، فلبَّى دعوته شبابٌ نفع الله بهم الإسلام وأمَّته، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته، المتفانين في دعوته، والممتثلين لأوامره، والمجتنبين لنواهيه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: من الظواهر اللافتة التي أصبحنا نراها اليوم في مجتمعاتنا المسلمة؛ ظاهرة تساقط الشباب وانحرافهم، وكثرة الانتكاسات التي تحدث في صفوفهم، وانتشار مظاهر الانحراف بشكل واضح للعيان.
فكم من شاب كنا نراه ملتزماً مصلياً خلوقاً مع أهله ومع الناس من حوله؛ ثم إذا به أصبح قاطعاً للصلاة، مرتكباً للفواحش، مجاهراً بالسوء، سيء الأخلاق مع أهله ومع الناس.
وكم من فتى كان في صغره خلوقاً فاضلاً؛ فلما شبَّ وكبُر سنه انتفش وانتكس، وقام بتقليد أهل السوء والانحراف، وأصبح واحداً منهم إن لم يكن تجاوزهم أو أصبح من كبرائهم!!.
وكم من أولاد يأتي أهلهم يشكون منهم، ويجأرون إلى الله من سوء تصرفاتهم وقبح أفعالهم، وقد كانوا يتوسمون فيهم الخير، ويرونهم من خيرة أولادهم وأفاضل شبابهم.
إن هذا كله يستدعي منا الوقوف مع هذه الظاهرة، وماهي أسباب انتشارها في مجتمعاتنا المسلمة؟ ولماذا وقع كل هذا الانحراف الهائل في وقت قياسي؟ وما هي السبل لمعالجة هذه الظاهرة وهذا التفلت؟.
الشباب هم ركن المجتمع، وركيزته القوية، وعمدته الأساسية، وبوابته الرسمية، ولا خير في مجتمع انحرف شبابه، ولا مستقبلاً يُرجى إذا ضاع الشباب وانحرفوا.
وما قام الدين ولا انتشر الخير وانتصر المسلمون -في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي غيره من العهود الإسلامية الناصعة- إلا بتضحيات الشباب وانتصاراتهم، ومواقفهم التي أعلى الله بها منار الدين، وفتح بها بلدان العالمين رغم الفقر والقلة والضعف. (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر 8: 9].
أيها الناس: إن من أعظم الأسباب التي أدت إلى ذلك هو التخلي عن تربية الطفل والاهتمام به إذا شبَّ وكبر، حيث يظن كثير من الأهالي أن ابنهم إذا كبر أصبح قادراً على تسيير نفسه، وأنه في مأمن من الوقوع في الانحراف والسوء، ولهذا يتركون له الحبل على الغارب، ويُظهرون له اللامبالاة، وهو في الحقيقة لازال بأمس الحاجة إلى النصح والتوجيه والتربية، فحينما يفتقدها من أهله ويشعر أنهم لم يعد يعتنون به ويوجهونه كما كانوا يقع في الانحراف، ويحصل منه الانفلات والوقوع في المهاوي والرذائل.
لذا يجب الانتباه لهذا الأمر، وأن يعلم الأب والمربي أنه مسؤول عن أبنائه في مختلف مراحل حياتهم، وأن لايتخلى عنهم يوماً من الدهر بحجة أو بأخرى، فإن التربية مشوار طويل ومنهج متكامل يحتاج له الإنسان في عمره كله، وخاصة قبل سن الأربعين وهو ما يسمى بسن الرشد والاكتمال. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف : 15].
ومن الأسباب التي أدت إلى وقوع الشباب في الانحراف والتساقط تساهل بعض الآباء مع أبنائهم، وتساهلهم هذا بحجة أنه يخشى عليه من التعقيد النفسي أو الاضطراب العاطفي، أو بحجة أن المجتمع كله قد فسد وضاع، وأن من طبيعة الشباب التساقط والانحراف، بل ربما نسمع بعض الآباء يقول: اتركوه فقد مررت أنا بمرحلة أقبح منه واسوأ!!.
وكل هذه الذرائع والحجج الهزيلة هي في الحقيقة سبل من سبل التشجيع لهؤلاء الأولاد على السقوط والوقوع في الانحراف وإعطائهم الفرص للتمادي في ذلك، لأنه يرى أن أهله خائفين منه، أو مشجعين له، أو ساكتين عنه، أو واقفين في صفه عند الوقوع في الشر والجريمة.
فيجب على الأب أن يكون أهلاً للمسؤولية، راعياً أميناً على من ولاه الله المسؤولية عليهم، وأن يرعى ذلك حق الرعاية، وإذا عجز هو عن ذلك بدافع الخوف أو الانشغال أو اليأس فعليه أن يتخذ سبلاً أخرى تحفظهم وتعينهم على الالتزام والثبات.
فإذا كان مسافراً أو مشغولاً فليوجههم نحو من يتوسم فيه الخير والصلاح ليعتني بهم، ويقوم بتربيتهم ومتابعتهم والاشراف عليهم، ولا يتركهم عرضة وفريسة للشيطان.
وإذا كان الأب قد وصل به الأمر إلى اليأس من صلاح ابنه أو الخوف منه؛ فعليه أن يوجه شخصاً آخر من نفس العائلة أو من الأقارب أو من الأشخاص الذين يحترمهم هذا الابن ويستمع إلى كلامهم ونصحائهم فيوصيه بالاعتناء به، والجلوس معه، والاقتراب منه، دون أن يَعلم الابن أنه هذا الشخص أو الطرف الثالث مرسل إليه من جهة أبيه.
ولو فكر الأب تفكيراً صحيحاً لاستخرج ألف طريقة وألف حل لمعالجة الخلل الذي يراه في أبنائه, ويسد به النقص الموجود عندهم، والضعف التربوي الحاصل فيهم، بدلاً من اليأس والملل وإغلاق الأبواب معهم بحجة أنه لا خير فيهم ولا أمل يرتجى منهم.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف : 87]. انظروا إلى هذا الأب الصالح والنبي الكريم -سيدنا يعقوب عليه الصلاة والسلام- حينما حصل من أبنائه الذي حصل لم ييأس منهم، ولم يُغلق أبواب الأمل والرجاء فيهم بعد ما حصل منهم من أخطاء متكررة وأفعال متعمدة، ولكنه قال لهم: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف : 87].
فماذا كانت النتيجة؟ إنها كانت نتيجة إيجابية مشرقة ومشرفة ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في آخر السورة فقال: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف : 100].
فالله الله في تربية الأولاد والاعتناء بهم، والخشية عليهم من الوقوع في الانحراف، فإن سقوط الشباب سقوط للمجتمع، وانحرافهم انحراف للجميع؛ لأنهم عمدة المجتمع وركيزته الأساسية.
الحمد لله وكفى، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
عباد الله: من الوسائل التربوية للمحافظة على ثبات الأبناء واستقامتهم أن يقوم الأب بتشجيع ابنه، ومحاولة كسبه، وتقديم الترغيب على الترهيب، وتغليب التشجيع على التحطيم، فإن ذلك أصلح للنفوس وأجدى لها, ولهذا يذكر الله -سبحانه وتعالى- في أكثر الآيات الخير قبل الشر، والترغيب قبل الترهيب، ويُقدم ذكر الجنة قبل ذكر النار، ويذكر المتقين قبل الفجار؛ لأن النفوس جبلت على المحبة وحب الخير والوئام.
هذا هو المنهج الذي يجب على الآباء والمربين أن يسلكوه مع أبنائهم وطلابهم حفاظاً على استقامتهم، وتشجيعاً لهم على الثبات والاستمرار على الخير والمداومة فيه. ولهذا يقول الله -جلّ وعلا- موجهاً رسوله -صلى الله عليه سلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159].
أيها الآباء والمربون: قد يحصل من بعض الأبناء أو الطلاب الانحراف اليسير والخلل السهل الذي يحتاج فيه إلى التنبيه والإشارة الخفيفة التي تناسب حجم هذا الخلل وتقوم بمعالجته بكل بساطة وهدوء، ولاداعي عند ذلك للضرب أو التشهير أو المحاسبة الدقيقة فإن البشر خطاء بطبيعته, وواقع في الجهل والنسيان لا محالة. يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ " [ أحمد (6958) ].
هكذا الإنسان يمر في حياته بفترات عجز وتراجع وتخاذل، والسعيد من قام بعد سقوطه، وتراجع بعد تخاذله، ورجع إلى الحق والصواب بعد العجز والضعف، والهالك من ازداد سوء وهلاكاً وضعفاً وسقوطاً.
من أعظم الطرق لمعالجة الانحراف الواقع في صفوف الشباب أن يتم الاسراع في معالجة السبب أو الأسباب التي أدت بالشاب إلى الوقوع والسقوط، وإذا عرف السبب بطل العجب.
فإذا رأى الأب أن سبب انحراف ابنه الرفقة السيئة فليبعدهم عنه ويبعده عنهم، وإذا رأى أن المال سبب لانتكاسه وسقوطه؛ فليعطه بقدر يجعله يشكر ولا يبطر، ويستخدمه في الانفاق الضروري دون التوسع في الملذات والشهوات وهكذا. يقول الله -سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون : 9]، ويقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف : 46].
وصدق الشاعر إذ يقول:
إنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَهْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ
فالله الله في المحافظة على الشباب والاعتناء بهم، ورفع معنوياتهم، ومعالجة مشكلاتهم، والحفاظ عليهم، والخشية كل الخشية من تساقطهم وانحرافهم، والنأي بهم عن مستنقعات الفساد وسبل الضياع.
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي