المحافظة على السر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. طبيعة العلاقة بين الناس .
  2. تعريف السر   .
  3. أضرار إفشاء السر .
  4. حفظ السر أمانة وإفشاؤه خيانة .
  5. أنواع الأسرار التي ينبغي حفظها .
  6. السلف وحفظهم للأسرار. .

اقتباس

إن إفشاء الأسرار معناه هدم القيم، وذهاب الأمانة، وفشو الخيانة، والسماح للقيم الإنسانية بالزوال والتصدع، وذهاب الحياء من قلوب الناس، وتتحول حياتهم الاجتماعية إلى فوضى لا تطاق...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، الذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى، أحصى على العباد أعمالهم وقدر آجالهم، ويوم القيامة يجزي كلَّ نفس بما تسعى، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الفضل والثناء والنِّعمُ التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى, اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.

أما بعد:

عباد الله: لقد خلق الله الناس بعضهم لبعض، وجعل بينهم من الأواصر والعلاقات الشيء الكثير، وحثهم على التآلف والتراحم والتقارب، وأمرهم بنصرة بعضهم بعضا على الحق، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي فيما بينهم بالخير والمعروف، كما قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر 1: 3].

ومن هنا فالناس يخدم بعضهم بعضاً، ويسر بعضهم لبعض بأسرار وخفايا؛ يحب الإنسان أن يبوح بها لمن يثق به، ويعطيه مما تكنه نفسه من هموم وأحزان.

إن السر هو: الحديث المكتم في النفس, الذي يكتمه المرء في قلبه ويخفيه في صدره، ولا يحب أن يطلع عليه أحد إلا شخصاً يقوم بإعطائه أسراره بمحض إرادته.

وهو نوع من العهد الذي يدخل تحت قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء : 34] وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون : 8]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان" [سلسلة الأحاديث الصحيحة (1453)].

إن الشخص لايعطي سراً إلا لشخص يحبه ويثق فيه، ويرى أنه أهلاً لتحمل المسؤولية واستيعاب الكلام والمحافظة على الأسرار التي أعطاه إياها، فليكن على قدر المسؤولية وليحافظ على أسرار الناس محافظة تامة.

إن إفشاء الأسرار معناه هدم القيم، وذهاب الأمانة، وفشو الخيانة، والسماح للقيم الإنسانية بالزوال والتصدع، وذهاب الحياء من قلوب الناس، وتتحول حياتهم الاجتماعية إلى فوضى لا تطاق.

يقول الإمام الماوردي -رحمه الله-: "إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق" [أدب الدنيا والدنيا، (296)].

إن الواجب على كل من استودع سراً أن يحفظ هذا السر ولا يفشيه لأحد كائناً من كان، لأن السر إذا تعدى شخصين وانتقل إلى الثالث؛ فانتقاله للثالث يعني انتقاله للرابع والخامس وهكذا.. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ" [ الترمذي (1959 )]، قال المباركفوري -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث:  "تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها على ما يقع فيها من قَول وفعل، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه ويراه".

ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: "إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا" [التحفة في شرح جامع الترمذي، (6/93)] .

ومن هنا؛ فإن حفظ الأسرار أمانة كبرى يجب رعايتها، والحذر من إفشاء ما يُدار في المجالس من أمور وأخبار مهمة رُبَمَا يُعَدُّ كشفُها خيانة صغرى أو كبرى. يقول أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه" [أدب الدنيا والدين، ص (296)].

ويقول الشاعر:

إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ ***  فَصَدر الذِي يستودع أَضيَق

وحكي أن رجلاً أَسَرَّ إلى صديق لَهُ حديثاً، ثم قال: "أفهمتَ؟ قال: بل جهلتُ، قال: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ" [أدب الدنيا والدين، ص (296)]، وهو بهذا يُكَنّي عن نفسه بأنه لن يبوح بالسر لأي أحد.

أيها الناس: إن كشف السر وإفشاءه يختلف حكمه بحسب السر نفسه، فهناك أسرار يعد إفشاؤها جريمة كبرى وخيانة عظمى، وربما يوصل الإنسان إلى الكفر والردة -والعياذ بالله- إذا أفشى بعض الأسرار كإفشاء أسرار المسلمين للكافرين والمحاربين.

ولعلكم تعلمون جميعاً قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-، في نقله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة إلى زعمائها؛ إذْ إن حاطباً ممن أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجهته إلى مكة وفتحه لها، فلما حاول كشف السر وإيذاعه أنزل الله فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة : 1].

وقد يكون إفشاء السر جريمة صغرى وذنب أصغر، كما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال : 27]، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري -رضي الله عنه-، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فقالوا: يا أبا لبابة، ما ترى أَنَنْزِل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه -إنه الذبح فلا تفعلوا-. ثم ندم بعد ذلك وقال: والله! ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله"، فإن أبا لبابة -رضي الله عنه- كان يعلم الحكم في يهود بني قريظة بأنه الذبح! ولكنه أشار بيده إلى حلقه، فكان ذلك منه خيانة لأمانة المجلس وتفريط فيها.

فعليكم بحفظ الأسرار، ومراعاة حق من استودعك سراً بأن لا تفشيه ولاتظهر سره للآخرين، فإن ذلك خيانة للعهد، ونبذ للأمانة، وهدم للقيم الأخلاقية والأصول المجتمعية المتعارف عليها بين الناس.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

أيها المسلمون: من الأسرار التي يجب أن تراعى وتحفظ الأسرار التي بين الزوجين، فالرجل والمرأة مؤتمنان على حفظ أسرار كل منهما، ويجب عليهما أن يحرصا أشد الحرص على عدم إفشائها، ولا شك أن حفظ سر الزوجين من أخص خصائص كل منهما تجاه الآخر، ومن أكثرها إسهاماً في ديمومة الحياة الزوجية واستقرارها، ويدخل في المحافظة على الأسرار ستْر العورات في العلاقات الزوجية، كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أعظمِ الأمانَةِ عند اللهِ يوم القيامةِ، الرجل يُفْضِي إلى امرأتِهِ وتُفْضِي إليهِ ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا" وفي رواية: "إنَّ من أَشَرِّ النَّاس عند اللهِ مَنزِلَة يَوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها" [مسلم (1437)].

ومن أعجب ما ورد في حفظ أسرار الزوجين قول جرير وهو يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:

كَانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا *** خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ

لقد ضرب السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أروع الأمثال في المحافظة على الأسرار، فهذا حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره.

ويقول: أنس بن مالك -رضي الله عنه- الغلام الصغير الذي يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَسَرَّ إِلَيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِراً فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به" [البخاري (6289)].

فالله الله في حفظ الأسرار والاعتناء بها وعدم نشرها، وأن يكون الشخص أميناً على أسرار من أسر إليه بشيء, كأمانته على أموالهم وحقوقهم الحسية والمادية.

هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي