الوسوسة داء العصر

سعد بن عبد الله السبر
عناصر الخطبة
  1. أخطر مداخل الشيطان .
  2. حقيقة الوسوسة .
  3. أسباب الوسوسة .
  4. وسوسة الشيطان للعوام .
  5. وسوسة الوضوء والصلاة .
  6. مضار الوسوسة .
  7. علاج الوسوسة. .

اقتباس

ومن أصناف الوسوسة ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: آت آت، التحي التحي، وفي السلام: أسْ أسْ، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكبير المتعال، ذي الجمال والكمال والعزّة والجلال، لا يبلغ مِدحتَه مقال، ولا يُغني عن عطائه والحاجة إليه نوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، خير من عمل وقال, ومن أوتي الحكمةَ وجوامع المقال، صلى الله عليه وعلى إخوانه خير صحبٍ وآل، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المرجع والمآل.

أما بعد: فأوصيكم -أيها المسلمون- بتقوى الله -عز وجل- فهي وقاء من البأس, وطرد للخناس (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أيها الناس: الشيطان له مداخل عدة، وطرق شتى على بني آدم، تختلف باختلافهم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17]، ومن أخطر هذه المداخل، وأعظمها ضرراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً هي الوسوسة، التي هي طريقه لفريق من المسلمين الذين عجز عن إغوائهم بالطرق الأخرى، ولم تصدهم حبائله المختلفة.

عمد إليهم بهذه الوسيلة، وخدعهم بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب، لهذا أمر الله أن نستعيذ منه ومن وسوسته على وجه الخصوص، وأنزل سورة خاصة بذلك وهي سورة الناس، التي جاء فيها: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس: 4، 5].

الوسوسة من الأمراض القديمة والأدواء الخطيرة، ذات المجالات العديدة، والأضرار البليغة، والآثار السلبية الكثيرة.

وعلى الرغم من تحذير الشارع الكريم منها، وتشنيع السلف الصالح على الموسوسين، وتأليف الدواوين، وتخويف أئمة الدين من خطرها، وعظيم ضررها، إلا أنه لا تزال طائفة من المسلمين مبتلاة بذلك، وتسأل وتستفسر عن كيفية الخلاص منها، والفكاك من أسرها، والانعِتاقَ من كيد مدبرها ومتولي كبرها، , ولكن بعضَ الموسوسين يسال ولا ينفذ الجواب؛ لذا يظل يدور في فلك حبائل الوسوسة وكيد الشيطان.

أيها المؤمنون: الوسوسة هي حديث النفس وما يلقيه الشيطان في الصدر, الوسوسة هي من كيد الشيطان، وهي ناتجة من الغلو والتشدد في أمور نهى الشارع عن الغلو والتشدد فيها، ولهذا فإن مردها إجمالاً إلى أمرين لا ثالث لهما:

1- خبل في العقل.

2- جهل بالشرع كما قال الإمام الغزالي رحمه الله.

يضاف إليهما أسبابا أخر ترجع إلى هذين السببين، من ذلك: التفكر في ذات الله على الرغم من أن العباد نهوا أن يتفكروا في ذات الله، وفي حقيقة صفاته وكيفيتها، وأمروا أن يفكروا في مخلوقات الله الدالة على قدرته، إلا أننا نجد الشيطان يوسوس لبعضهم ويورد عليهم أسئلة تضيق منها صدورهم ويتحرجون منها، مصداقاً لما تنبأ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما حدث ذلك لبعض أصحابه.

فقد صح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "وقد وجدتموه؟", قالوا: نعم؛ قال: "ذلك صريح الإيمان". وفي رواية عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوسوسة؟, قال: "تلك محض الإيمان".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه: "تسألون حتى تقولوا: هذا الله خلقنا؛ فمن خلق الله" "، قال أبو هريرة: "فوا لله إني لجالس يوماً إذ قال لي رجل من أهل العراق: هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فجعلت إصبعي في أذني وصحت: صدق رسول الله، الله الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد".

وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله؛ فيقول: من خلق السموات والأرض؟ فيقول: الله؛ فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدُكم شيئاً من ذلك فليقل: آمنتُ بالله ورسوله".

قال الحافظ ابن الجوزي في تلبيس إبليس له تحت عنوان [تلبيس إبليس على العوام]: "قد بينا أن إبليس إنما يقوى تلبيسه على قدر قوة الجهل، وقد فتن فيما فتن به العوام، وحصر ما فتنهم ولبَّس عليهم فيه لا يمكن ذكره لكثرته، وإنما نذكر من الأمهات ما يستدل به على جنسه، والله الموفق.

فمن ذلك أنه يأتي إلى العامي فيحمله على التفكر في ذات الله -عز وجل- وصفاته، فيشكك، وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك... إلى أن قال: وإنما وقعت هذه المحنة لغلبة الحس، وهو أنه ما رأى شيئاً إلا مفعولاً".

ويدخل على الناس في جانب العبادات, قال ابن الجوزي تحت باب [ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات]: "اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبَّس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم؛ لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم، وقد قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل.

ومن ذلك أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء, ومنهم من يقوم يمشي ويتنحنح ويرفع قدماً ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي من البول وكلما زاد في هذا نزل البول.

ومنهم من يلبس عليه في النية، فتراه يقول: أرفع الحدث؛ ثم يقول: أستبيح الصلاة؛ ثم يقول: أرفع الحدث؛ وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع؛ لأن النية بالقلب لا باللفظ, حتى أن أحدهم قلتُ له القاعدة التي وضعها العلماء, وهي أن من علِمَ شيئا فقد نواه فلا بد تنتهي, قال أخاف على عبادتي أن تكون باطلة.

قلت له: هل أنت أتقى وأعلم من رسول الله؟ قال: لا. ولكن للأسف استمر؛ فيمكث يتردد للدخول في الصلاة ساعات ربما خمسا وستا والآخر استمر يوسوس حتى قال ل:ي أنا أعيد الوضوء والصلاة مرات عديدة تصل لثلاثين وأربعين مرة؛ حتى ترك الصلاة بالكلية. وهذا معاشر الأخوة قصدُ الشيطان من الوسوسة أن يُبعدَ العبدَ عن ربه.

ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به، فيقول: من أين لك انه طاهر؟, وفتوى يكفيه بأن أصل الماء الطهارة، فلا يترك الأصل بالاحتمال.

ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء, وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله وهو فضيلة، أو فاتته الجماعة. قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب [التبصرة في الوسوسة] كما نقل عنه النووي في [المجموع] في ذمه للموسوسين: "وهذه طريقة الحرورية الخوارج، ابتلوا بالغلو في غير موضعه، وفي التساهل في موضع الاحتياط، قال: ومن فعل ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين وسائر المسلمين".

وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشكُّ، هل صحَّ لي الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب، فقط سقطت عنك الصلاة؛ قال: وكيف؟ قال: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ"، ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا؟ فهو مجنون".

أيها الأحبة: لقد ورد التحذير من هذه الوسوسة وطرقها فعن أبَيّ يرفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوه"، وفي رواية: "فاحذروه". وسمع عبد الله بن مغفل ابنه يقول: "اللهم إني أسألك الفردوس، واسألك.." فقال عبد الله: "سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سيكون في هذه الامة قوم يعتدون في الدعاء والطهور".

وعن الحسن -رحمه الله- قال: "شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس في الوضوء", وكان الحسن يعرِّض بابن سيرين، يقول: "يتوضأ أحدُهم بقربة ويغتسل بمزادة صباً صباً، ودلكاً دلكاً، تعذيباً لأنفسهم، وخلافاً لسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-". روي عن أبي حازم التابعي الجليل -رحمه الله- أنه دخل المسجد فوسوس إليه إبليس؛ أنك تصلي بغير وضوء، فقال: ما بلغ نصحك إلى هذا.

وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلتُ: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ثلاثاً واتفل عن يسارك؛ ففعلت ذلك فأذهبه الله".

قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "إني لأستنجي من كوز الحب, وأتوضأ، وأفضل منه لأهلي", وقال أحمد -رحمه الله-: "من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء". وقال المروزي: وضأت أبا عبدالله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء"، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلُّ الثرى. قال ابن تيمية -: "ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع".

إخوة العقيدة للوسوسة مضار كثيرة ومفاسد عظيمة على الموسوس في سلوكه وعبادته، نشير إلى أخطرها، وهي:

1. طاعة الشيطان.

2. ضياع الوقت وهو أثمن ما يملكه الإنسان.

3. التقصير في العبادة.

4. مخالفة السنة.

5. من الوسوسة ما يفسد العبادة كالصلاة.

6. الإسراف في الماء وهو من أجل النعم وأعظمها.

7. إغراء الناس بذمه والوقيعة فيه.

8. الموسوس يشغل ذمته بالزائد عن الحاجة، ويقصر عما أوجبه الله ورسوله عليه.

قال العلامة ابن القيم: "ومن أصناف الوسوسة ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: آت آت، التحي التحي، وفي السلام: أسْ أسْ، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر.

وما لم تبطل الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له, وتغرير الجاهل الاقتداء به, كما قال أبو حامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خَبَل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب".

أيها المسلمون: ما من داء إلا وله دواء لمن يسره الله له، فالوسوسة من الأدواء المعضلة، والأمراض القبيحة، فينبغي للمصاب بها أن يسارع بعلاج نفسه، وأن لا يسترسل معها فيضيع عمره، ويشغل وقته فيما لا طائل وراء.

وعلاج الوسوسة والتخلص منها هو مقصودنا.

فأولاً: فيما يتعلق بالتفكر في ذات الله وصفاته، وتزيين المعصية:

1. استصحاب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تفكروا في مخلوقات الله, ولا تفكروا في ذات الله".

2. استشعار عظمة الله وجلاله والاجتهاد في شغل القلب بذلك.

3. التذكر بأن عقولنا البشرية مهما كانت لا يمكنها قط إدراك حقيقة وكيفية صفات الله -عز وجل-، وإذا كان الإنسان لا يدرك كنه نفسه فكيف بالذات العلية؟.

4. تذكر ما آل إليه أئمة علم الكلام من الندم والرجوع صاغرين إلى منهج أهل السنة، وهو التسليم المطلق وتمنيهم إيماناً كإيمان العجائز.

5. الإكثار من التعوذ خاصة من الشك والريب. قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 200], (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) [الناس: 4].

قال القرطبي في تفسير قوله: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ): "أي اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به وصحَّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- كما خرجه مسلم في صحيحه وغيره قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي الشيطان أحدَكم فيقول له: من خلق كذا وكذا، حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته". وفي رواية في الصحيح عنه -رضي الله عنه-: "ذلك صريح الإيمان".

وعن ابن مسعود عند مسلم قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان". قال القرطبي: "هذا ليس على ظاهره، إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى، أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم، فكأنه قال: جزعكم هذا هو محض الإيمان وخالصه، لصحة إيمانكم وعلمكم بفسادها، فسمى الوسوسة إيماناً، لما كان دفعها، والإعراض عنها، والرد لها، وعدم قبولها، والجزع منها صادراً عن الإيمان، وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان".

6. يكثر الموسوس من ترداد قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد: 3], خرج أبوداود في سننه بسنده إلى أبي زميل قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به؛ قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله -عز وجل-: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس: 94], قال لي: إذا وجدتَ في نفسك شيئاً فقل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

 7. الإكثار من ذكر الله، لقوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، فالإكثار من ذكر الله يطرد الشكوك, ويجلب اليقين, ويحرز صاحبه من الشيطان.

فالحرص على أذكار الصباح والمساء وفي كل المناسبات وعلى جميع الأحوال يحول بين وساوس الشيطان وخطراته ونزعاته، نحو: قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" عشر مرات أو مائة، فقد جاء في فضلها: "وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي" الحديث.

عندما يأوي المرء إلى فراشه يقرأ آية الكرسي، فكما صح من حديث أبي هريرة يرفعه: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية, وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح".

8. اللهو عن الوسوسة وعدم الاسترسال معها، والاجتهاد في طردها، هذا أنفع علاج لجميع أنواع الوساوس التي يتعرض لها الإنسان، وإهمال ذلك عامل أساسي يمكن الشيطان من الإنسان.

وهذا العلاج يحتاج إلى شيء من قوة الإرادة، وصادق العزيمة، أما من كان ضعيف الإرادة، خائر العزيمة، فلن تجدي معه هذه الوسيلة شيئاً.

9. الإكثار من الدعاء والتضرع إلى الله -عز وجل-، والاستعاذة من الشك والشرك.

10. تذكر المرء لعداوة الشيطان الأبدية لبني آدم، وقسمه وإصراره على ذلك، وأن كل ما يلقيه إلى بني آدم فهو الشر المحض وأن سيتبرأ منك وطاعتك له يوم القيامة, (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه..

أيها المؤمنون: ومن أسباب العلاج لوساوس الشيطان المتعلقة بالطهارة والصلاة والتشاغل عنها بجانب ما سبق ما يأتي:

1. استصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: "اليقين لا يزال بالشك"، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين. دليل ذلك ما صحَّ عن أبي هريرة عند مسلم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". فمن كان متيقناً أنه توضأ، ثم شك هل أحدث أم لا؟ لم يلتفت إلى هذا الشك، وبنى على ما هو متيقن منه.

لو استصحب الموسوسون هذه القاعدة وعملوا بها لتخلصوا من وساوسهم، ولأراحوا أنفسهم وأرغموا شياطينهم.

على الموسوس أن يلهو عن ذلك ويتشاغل عنه وإلا ازداد شكاً على شك، ووجد الشيطان فيه ضالته.

تذكر -أيها الموسوس- أن الحق هو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي جاء بالحنيفية السمحة، وما سواه هو الباطل.

الاقتداء والتأسي بمسلك السلف الصالح في هذا الجانب، حيث كانوا يتشددون ويحذرون مما يدخل في بطونهم، وما كانوا يغالون في مسائل الطهارة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

روى أبو داود في سننه عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال:" أوليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى؛ قال: فهذه بهذه".

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا لا نتوضأ من موطِئ"، أي موطوء، يعني إذا وطئ على المكان القذر الجاف لا يجب عليه غسل القدم. وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: "إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه".

الحرص على صلاة الجماعة والاقتداء بالعقلاء، رأيتُ موسوساً إذا فاتته صلاة الصبح في جماعة لم يصلها إلى شروق الشمس، وإذا فاتته صلاة العصر لم يتمكن من أدائها وحده إلى الغروب.

نضح الفرج والسراويل بالماء دفعاً للوسوسة قال العلامة ابن القيم: "قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضج فَرْجَه وسراويله بالماء إذا بال؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللاً قال: هذا من الماء الذي نضحته، لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بال توضأ وينضح", وفي رواية: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بال ثم نضح فرجه"، وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله".


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي