الحقد منفق الحسنات ومحرق القلوب

سعد بن عبد الله السبر
عناصر الخطبة
  1. ألا أنبئكم بشراركم؟ .
  2. أطوار الحقد .
  3. أفضل الأعمال سلامة الصدر .
  4. كيف ينشأ الحقد؟ .
  5. من أسباب الحقد .
  6. علاج الحقد. .

اقتباس

إن الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكف أخرى, وهذه هي الطامة التي لا تدعُ لهم قرارا, وقديما رأى إبليس أن الخطوة التي يتشهاها قد ذهبت إلى آدم، فآلى ألا يترك أحدا يستمتع بها بعدما حُرمها...

الخطبة الأولى:

الحمد لله شارح الصدور, وميسر الأمور, وكاشف الكروب, ومفرج الغموم, أحمده –سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه وسابغ عطائه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, تنزه عن الأشباه والأمثال والنظائر والأنداد, وتقدس أسمائه وعلت صفاته, وأشهد أن محمد عبده ورسوله رسول الهدى وهادي الورى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي الشفاء والدواء (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أيها الناس: إن الله خلق الخلق لعبادته, وجعل من عبادته حب المؤمنين وترك أذيتهم والحقد عليهم, فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71], وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يُحب لنفسه".

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "ألا أنبئكم بشراركم؟". قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: "من يبغض الناس! ويبغضونه". قال: "أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟". قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: "الذين لا يُقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا". قال: "أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟", قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "من لا يُرجى خيره, ولا يؤمن شره".

الأصناف التي أحصاها هذا الحديث، أمثلة لأطوار الحقد, عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته، ولا غرو؛ فمن قديم أحس الناس -حتى في جاهليتهم- أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق!, وأن ذوى المروءات يتنزهون , قال عنترة:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب

أيها المؤمنون: إن أفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها, وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع, التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وعلى المؤمنين, وبغضهم و الحقد عليهم.

قال الغزالي -رحمه الله-: "ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها؛ الداء الدفين في الباطن وهو الحقد, فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث, ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالا, وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء, ويترشح الباطن بخبثه الدفين, ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى, قال بعض الحكماء: "ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد, ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه, ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف, وأمره مخطر, وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله".

أيها المتقون: إن الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكف أخرى, وهذه هي الطامة التي لا تدعُ لهم قرارا, وقديما رأى إبليس أن الخطوة التي يتشهاها قد ذهبت إلى آدم، فآلى ألا يترك أحدا يستمتع بها بعدما حُرمها, (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].

كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه, ويقول: "اليوم تعرض أعمالنا على الله -عز وجل-, يا من يبهرج بعلمه على من تبهرج؛ والناقد بصير, يا من يسوف بتطويل أمله إلى كم تسوف؛ والعمر قصير".

أيها لإخوة: إن من علامة صدق التقوى مجانبة الحقد، ولزوم الصفح، والعفو عن الإخوان. قال هلال بن العلاء: "جعلت على نفسي ألا أكافئ أحداً بشرٍ ولا عقوقٍ؛ اقتداءً بهذه الأبيات:

لمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ *** أَرَحتُ نَفسِيَ مِن غَمّ العَداواتِ".

وقد قال بعض الحكماء: "لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه, وعند طمعه وهواه".

إخوة الدين: إن أشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة؛ فإنها عين التدابر والتقاطع, فإن التقاطع يقع أولا بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان, وقال -عليه السلام-: "لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا, وكونوا عباد الله إخوانا, المسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله, بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

قال أبو حاتم -رحمه الله-: "ومن الحسد يتولد الحقد, والحقد أصل الشر, ومن أضمر الشر في قلبه؛ أنبت له نباتا مرا مذاقه نماؤه الغيظ وثمرته الندم".

ومن أسباب الحقد: قلة العتاب والمحاسبة بين الإخوان والأصدقاء, قال العتابي: "ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد, وصرفة الناصح خير من تحية الشانئ".  وقال بعض الحكماء: "من كثر حقده قل عتابه".

أيها الأحبة: وأما علاج الحقد الدعاء؛ بأن يذهبه الله, وكظم الغيظ, قال الإمام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: "اعلم أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال؛ رجع إلى الباطن فاحتقن فيه فصار حقداً, وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه, فالحقد ثمرة الغضب, والحسد من نتائج الحقد".

قال أبو حاتم -رحمه الله-: "لا يمتنع من التواضع أحد, والتواضع يكسب السلامة, ويورث الألفة, ويرفع الحقد, ويذهب الصد". وقال: "أغنى الناس عن الحقد من عظم عن المجازاة, وأجل الناس مرتبة من صد الجهل بالحلم".

قال الشاعر:

ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا *** وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

قال أبو حاتم: "الاعتذار يذهب الهموم, ويجلى الأحزان, ويدفع الحقد, ويذهب الصد, والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة, والذنوب الكثيرة".


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي