حسن العمل

عبد العزيز بن محمد السعيد
عناصر الخطبة
  1. خلق الله للإنسان للابتلاء والاختبار .
  2. تفاوت الناس في حسن العمل .
  3. شروط حسن العمل وآثار ذلك .
  4. أسباب وبواعث حسن العمل .
  5. أثر الخرافات والبدع على القلب والعمل .

اقتباس

لم يخلق الله الخلق عبثا، ولم يتركهم هملا لا يؤمرون ولا ينهون، ولكنه خلقهم لعبادته وطاعته، وأرسل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لذلك. والناس متفاوتون في حسن العمل، ومناط ذلك: الصدق في الإخلاص لله، والكمال في الاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في...

الخطبة الأولى:

خلق الله السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها؛ ليختبر عباده أيهم أحسن عملا، وليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها، قال سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]، وقال جل ذكره: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف: 7].

وهو سبحانه لم يخلق الخلق عبثا، ولم يتركهم هملا لا يؤمرون ولا ينهون، ولكنه خلقهم لعبادته وطاعته، وأرسل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لذلك، قال سبحانه وتعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) [ص: 27]، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

والناس متفاوتون في حسن العمل، ومناط ذلك: الصدق في الإخلاص لله، والكمال في الاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في كثرة العمل؛ فإن الكثرة المتجردة عن الإحسان ليست بشيء؛ فوجب حينئذ على كل إنسان أن يلحظ هذا الجانب في العمل وهو إتقانه، بتحقيق شرطيه: الإخلاص لله والاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بأن يقصد بالعمل وجه الله، ويجرده من الشرك والرياء؛ فلا يجعل لمخلوق فيه حظا، قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ" [أخرجه مسلم].

وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَمَّع سَمَّعَ الله به، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى الله به".

وشرطه الآخر: الاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، بحيث يكون العمل موافقا لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصله وصفته، فنحن أمة دليل، فما جاءنا به النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقناه، وسلمنا له، وعملنا به على الكيفية التي ورد بها، فلا نرده، ولا نعرض عنه، ولا نجادل فيه، ولا نعارضه، ولا نزيد عليه، ولا ننقص منه، ولكن نقول: "سمعنا وأطعنا" امتثالا لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7].

وما لم يشرعه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا نتقرب به ولا نعمل، وما شرعه فلا نأتي به إلا على الكيفية المشروعة، وإلا كان الابتداع والغلو المذمومان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أحْدَثَ في أمرنا هذا ما لَيْسَ منهُ فهو رَدٌّ" [متفق على صحته].

وبهذين الشرطين: الإخلاص والاتباع، يكون صلاح العمل وقبوله؛ كما قال الحق -تعالى-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله تعالى- فِي قَوْله تَعَالَى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] قَالَ: "أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ".

ويتبع تحقيقَ هذين الشرطين: الرغبةُ في العمل، ومحبةُ الازدياد منه، واللذةُ به، وانشراحُ الصدر له، وحياةُ القلب به؛ ولهذا ترى المخلص لله في صلاته وزكاته وصيامه وحجه وسائر قرباته، المجتهدَ في موافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، أحرصَ الناس على العبادة، وأسعدَهم بها، وأكملَهم انتفاعا بها، خلافا لمن ضعف في إخلاصه واتباعه، قال الله -تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد: 17]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45]، (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22]، (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18].

وأهل الإخلاص والاتباع في الجنان، ومنازلهم فيها على قدر إخلاصهم واتباعهم، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112]، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30].

الخطبة الثانية:

مما يبعث على حسن العمل ليوافق رضى الله، ويترقى به العبد في مدارج المتقين: العلم بالله؛ فإن العلم إمام العمل: "ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"؛ كما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-.

والخشية من الله تبع للعلم به؛ ولهذا كان أشد الناس خشية أعلمهم بالله؛ كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].

وهذه الخشية تورث المراقبة لله في الخلوات والجلوات، والظاهر والباطن، والسر والعلانية حتى يكون من أهل الإحسان الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإحسان أن تعبد العبد ربه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

ومنها: أخذ الشرائع وتلقي التكاليف بجد واجتهاد وصدق وصبر وأمانة، وأطر النفس على ذلك؛ بعيدا عن التكاسل والتسويف والهزل؛ كما قال تعالى في شأن الكليم موسى -عليه السلام-: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145]، وقال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، وقال سبحان: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63]، وقال سبحانه في شأن القرآن: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 13 - 14]، وقال: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل: 5].

ومنها: إصلاح النفس والحال بمواعظ القرآن؛ فإنها أصدق المواعظ، وأعمقها أثرا، وأجلاها للرين، وأنفعها للقلوب، وأهداها للحق: (إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا) [النساء: 66 - 67].

وبهذا يعلم -يا عباد الله- أن صلاح القلوب، وحسن العمل بالكتاب والسنة، وليس في الأناشيد الملحنة، ولا في التمثيليات المأخوذة عن الرهبانية النصرانية، والطرق الصوفية، ولا في القصص الكاذب، ولا الحكايات الملفقة، ولا في محاضرات الضحك والقهقهة والغيبة، والسخرية باسم الدعوة إلى الله، فإن الله لم يجعلها طريقا للهداية، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل هذه الطرق -كما هو شاهد الحال- تفضي إلى رقة الدين، وضعف تعظيم رب العالمين، والتعلق بالخرافات والخزعبلات، والصدود عن ذكر الله، والحق -سبحانه- يدعو عباده: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد: 16 - 17].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي