إنك -أيها الإنسان- مركب من أعضاء، وكل عضو منك خلق لعمل خاص، فإذا مرض ذلك العضو تعطل عمله أو اختل؛ فإذا مرضت اليد تعذر منها البطش، وإذا مرضت العين تعذر منها الإبصار، وإذا مرض القلب بالمعاصي تعذر منه فعله الخاص الذي خلق من أجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله وعبادته. ومرض القلب هو الداء العضال، وهو مرض خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه ..
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم. وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. ووهب له العقل الذي امتاز به عن البهائم ليعرف به ربه ويدرك به مصالحه. فإن أحسن العمل في هذه الدنيا كان تكريمه موصولاً في الدنيا والآخرة. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21] وإن أساء العمل وألغى عقله رده الله أسفل سافلين (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء:72]
أحمده على نعمه التي لا تحصى. وأشكره. وحقه أن يطاع فلا يعصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -كان يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله تعالى، هو الذي خلقكم وصوركم فأحسن صوركم: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الإنفطار 6: 8]
نعم إنك -أيها الإنسان- مركب من أعضاء، وكل عضو منك خلق لعمل خاص، فإذا مرض ذلك العضو تعطل عمله أو اختل؛ فإذا مرضت اليد تعذر منها البطش، وإذا مرضت العين تعذر منها الإبصار، وإذا مرض القلب بالمعاصي تعذر منه فعله الخاص الذي خلق من أجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله وعبادته.
ومرض القلب هو الداء العضال وهو مرض خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه؛ لأن دواءه مخالفة الهوى..
إن القلب هو ملك الأعضاء، ومصدر سعادتها أو شقائها، ومصدر صلاحها أو فسادها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" ففي هذا الحديث دليل على أن صلاح أعمال العبد بحسب صلاح قلبه، وأن فساد أعمال العبد بحسب فساد قلبه؛ فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع عند الله غيره؛ قال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 88: 89]
فالقلوب على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قلب سليم وهو سالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته، وخشية ما يباعد عنه.
النوع الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده فهو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فلا يستجيب للناصح بل يتبع كل شيطان مريد.
النوع الثالث: القلب المريض وهو قلب له حياة وبه علة.
فالقلب الأول: قلب مخبت واع لين حي. القلب الثاني: قلب يابس ميت. والقلب الثالث: قلب مريض؛ فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى.
عباد الله: ولحياة القلوب وموتها ومرضها أسباب يفعلها الإنسان؛ فمن أسباب حياتها: الإقبال على الله وتلاوة كتابه وتدبره والاشتغال بذكره؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28] وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال:2] وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد :16]
ومن أسباب حياة القلوب: مجالسة الصالحين ومخالطتهم والاقتداء بهم.
ومن أسباب حياة القلوب: الاستماع إلى المواعظ والتذكير والمحافظة على صلاة الجمعة والجماعة.
ومن أسباب حياة القلوب النظر والتفكر في مخلوقات الله وما فيها من الحكم؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190]
ومن أسباب حياة القلوب: النظر في عواقب الظَلَمة والمفسدين وما أحل الله بهم من العقوبات. قال تعالى:(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج 45: 46]
أما أسباب موت القلوب؛ فمنها: إعراضها عن قبول الحق بعد معرفتها له؛ قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف:5] وقال تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة:127] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24]
والقلب الميت يكون صاحبه أحط من البهائم ويكون مآله إلى جهنم؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179] فيصبح هذا القلب مطموساً منكوساً مختوماً عليه لا ينتفع به غذاءه. والضلال طريقة والجحيم مصيره، نعوذ بالله من الخذلان.
وأما أسباب مرض القلوب؛ فمنها: أكل الحرام فإن المطعم الخبيث يغذي تغذية خبيثة. قال -صلى الله عليه وسلم- في الذي يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك. وما أكثر أكل الحرام في وقتنا هذا مما سبب مرض القلوب وفساد التصرفات وانحطاط الأخلاق، كما ترون ذلك ظاهراً في مجتمعنا.
ومن أسباب مرض القلوب: فعل المعاصي؛ فإن المعاصي تؤثر في القلوب وتمرضها قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين14] وقد ورد في الحديث أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقلت تلك النكتة، وإلا تزايدت وعظم خطرها على القلب.
ومن أسباب مرض القلوب: استماع ما لا يجوز استماعه من الكلام المحرم، واستماع الملاهي من الأغاني والمزامير، وقد كثر هذا البلاء في هذا الزمان وتنوعت مفاسده وتعددت طرق ترويجه بيننا في الإذاعات والتلفاز والأشرطة. فظهر أثر هذا السماع المحرم، فأفسد سلوك كثير من النساء والصبيان بل وكثير من الرجال. فالأغاني من أكبر ما تطرق به إبليس إلى فساد القلوب، وقد فُسر قوله تعالى لإبليس: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) [الإسراء 64] بأن المراد بصوته الغناء.
ومفاسد الغناء كثيرة لا يتسع هذا المقام لشرحها، وقد بينها العلماء في كتبهم وشخصوها؛ فعلى المسلم أن يراجع تلك الكتب خصوصاً ما كتبه شمس الدين ابن القيم في إغاثة اللهفان - ليعرف إلى أي مدى تنتهي تلك الأغاني بأصحابها.
ومن أسباب مرض القلوب: النظر المحرم -قال -صلى الله عليه وسلم-: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" وقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:30] فالنظرة المحرمة تورث شهوة في القلب تمرضه.
ومن أسباب مرض القلوب مطالعة الكتب الفاسدة التي انتشرت في هذا الزمان فشغلت كثيراً من الناس عن مطالعة الكتب النافعة، وكذلك مطالعة الصحف والمجلات الخليعة وما أكثرها في أسواقنا وبيوتنا ومكاتبنا، وقد رتع فيها الناس رجالاً ونساء وأطفالاً.. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله: إنه لا شفاء لأمراض القلوب إلا بالدواء الذي أنزله الله في كتابه وسنة نبيه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) [يونس:57] وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء:82] (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ).
فأقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله لتداووا قلوبكم منهما؛ ففيهما الشفاء والرحمة، وفيهما النور والهداية، وفيهما الروح والحياة، وفيهما العصمة من الشيطان ووساوسه، وليأخذ كل منا بنفسه فيبعدها عن مواطن الفتن ويقطع عنها وسائل الشر.
وكذلك أبعدوا أولادكم وبيوتكم عن وسائل الشر ودواعي الفساد؛ إن كنتم تريدون الشفاء لقلوبكم والخير لمجتمعكم، وأكثروا من هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى 52: 53]
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي