الحجَ مسيرةُ أمنٍ وسلام، فلا نِداء إلا بتوحيدِ الله، ولا دُعاء إلا لله، ولا هُتافَ إلا بالتكبير، جلَّل ذلك صِدقُ القائمين على الحجِّ ورعايةِ الحُجَّاج، والحبُّ المبذولُ لكل المسلمين، أيًّا كانت أجناسهم ولغاتهم، وهو رسالةٌ لكلِ العالم أن هذا الدين وشعائِرَه رحمةٌ وعدلٌ وأمنٌ وسلام، وأنَّ الإسلامَ والمسلمين بُرآءُ من مسالكِ العنفِ والإرهاب، والإقصاء والعداء.
الحمدُ لله وعدَ ببلوغِ دينِه مبلغَ النهارِ والليل، وتكفَّل بحفظِ شريعتِه عن كلِّ تحريفٍ ومَيل، ووَعَدَ الداعين إلى نورِه بالمثوبةِ عن كلِّ نصَبٍ أصابَهم أو نَيل، وأوعَدَ المُعرضين عن هديِه والصادِّين عن سبيلِه بالثُّبورِ والوَيل، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ الدُّعاة، وسيِّدُ الهُداة، وأرحمُ الرُّعاة، صلَّى الله وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
اللهم أقِلِ العَثرَة، واعفُ عن الزَّلَّة، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة، واختِم لنا بخيرٍ، واجعَل مُستقبلَ أيامِنا خيرًا من ماضِيها.
أيها المسلمون:
بيتُ الله وحَرَمُه، وشعائرُه ومُقدساتُه، لم تزَلْ من الله في مأمَن، وعليها منه لاحِظٌ وحافِظ، يُسخِّرُ الله لحفظِها الإنسَ والطيرَ والجماد، وفي الحديثِ المتفقِ عليه: "أنه في آخرِ الزمان تخسِفُ الأرضُ بجيشٍ يغزو الكعبة".
ومن آياتِ اللهِ السالفات، وأيامهِ الخالِدات: حِمايتُه لبيتِه من غزو أبرهة وأفيالِه، وقد خلَّد اللهُ ذكرَ الفيل، وأهمَلَ صاحبَه هوانًا له، وإطفاءً لذكره.
ولم يزَل في كل عصرٍ أبرهة، كما أنه لم يزَل لحمايتها في كلِّ وقتٍ أبابيل، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
وكان صاحبُ الفيلِ قبل غزوتِه المشؤومة قد بنَى بيتًا ليصرِفَ الناسَ عن بيتِ الله، وكذلك فعَلَ أشباهُه والمتَّبِعُون سبيلَه؛ فقد بَنَوا الصوارِفَ عن بيتِ الله؛ من مشاهدَ ومقاماتٍ وأضرِحة، واصطَنَعُوا لها فضائِل، واختَرَعُوا لها أُجورًا، ولم يستجِب لهم إلا من أضلَّه الله على علمٍ أو على جهلٍ، واستنُّوا بسُنَّةِ أبرهة في بَعثِ البُعوثِ للإلحادِ في الحرَم، وتخريبِ ما يمكن تَخريبُه.
فانقطَعَت بهم السُّبُل، وأعجزَتهم الحِيَل، وردَّ الله كيدَهم إلى الوسوسةِ والتَّهديد، والإشاعةِ والتخويفِ، ولم تَثْنِ تلكَ الهجماتُ الإعلامية حُجَّاجًا ومُعتمرين، ولم يصرِفُوا بها زائِرِين ولا مُتعبِّدين.
وللهِ في تلك التصاريفِ حكمةٌ؛ فقد أظهَرَ الله منهم ما كانت التقيَّةُ تُخفِيه، ووعَى من كان يُجادِلُهم عن غفلةٍ، وتمايَزَ صفُّ الحقِّ من الباطلِ.
وإننا إذ نحمدُ اللهَ على الدوام لَنلهَجُ بحمدِه وشُكرِه في هذه الأيام، على ما أكرَمَ ضيوفَه وحُجَّاجَ بيتِه من الأمنِ والتيسير، والحفظِ والعون، فأدَّوا مناسِكَهم تحُوطُهم عنايةُ الله، وتكلَؤُهم ألطافُه.
فالحمدُ للهِ كثيرًا، ثم الشكرُ لمن جعَلَهم اللهُ أسبابَ هذا الأمن، وأكرَمَهم بهذا الشرفِ، والشكرُ لمن خَدَم حُجَّاجَه في الحرمَين، وفي منافِذِ البلاد وسُبُلِها.
عباد الله:
نجاحُ موسمِ الحجِّ نصرٌ يفرحُ به المؤمنون، ولا يكرَهُه إلا المنافقون، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: 58].
إنَّه نعمةٌ من الله لها أسبابُها الشرعية، وسُننُها الإلهية، لا بدَّ من التوقُّفِ عندها ذِكرًا وتدبُّرًا واتِّباعًا؛ فأولُ ذلك:
هو إخلاصُ مقصدِ الحجِّ لما شُرعَ له، وهو التوحيدُ، وإعلاءُ ذِكرِ الله تعالى دون سواه، وإخلاصُ الدعاء والعبادةِ له - سبحانه - وحده، ففي آياتِ الحج: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة: 198]، (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة: 200].
وفي قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:«إنما جُعلَ الطوافُ بالبيتِ، والسعيُ بين الصفا والمروةِ ورميُ الجمارِ، لإقامةِ ذكرِ الله»، و«خير الدعاءِ: دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير».
أما شِعارُ الحج فهو التكبيرُ والتلبِية، وكلُّها تعظيمٌ لله وتوحيد، فلا يُذكَر مع اللهِ أحدٌ، ولا يُدعَى من دونه أحدٌ، وإن الإصرارَ على إخلاصِ الحجِّ من كل شائِبةٍ تُناقِضُ هذا المقصِدَ هو من توفيقِ اللهِ تعالى، وحِفظِه لهذا البيتِ وقاصِدِيه.
فلا دعوةَ لغير الله، ولا تعظيمَ إلا لما عظَّمَه الله، وليس الحجُّ ميدانًا للمُزايَداتِ السياسية، والمُناكَفَاتِ والخصومات، وسيظلُّ موسِمُ الحج هانِئًا، ما دام سالِمًا من تلك الشوائبِ والمُحدَثات.
حُجَّاجَ بيت الله .. ويا أيها المسلمون:
وثانيَ تلكَ الأسبابِ الحافظة للحج: هو اتِّباعُ سنةَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي قال الله عنه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31]، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7].
لقد أدَّى الحَجيجُ مناسِكَهم، وأمرُ النبي - عليه الصلاة والسلام - يُطيفُ بهم في كلِّ مَشعر: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم».
فلا طوافَ إلا كما طافَ، ولا سعيَ إلا كما سعَى، ولا وقوفَ ولا رميَ ولا إقامةَ ولا نَفرَة إلا كفعلِه - عليه الصلاة والسلام -، وهذا ليس مُختصًّا بالحجِّ فحسب؛ وإنما يشمَلُ الدينَ كلَّه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، وقال: «عليكم بسُنَّتي»، وقال أيضًا: «من أحدَثَ من أمرِنا ما ليس منه فهو رَدٌّ»، وقال: «إياكم ومُحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار».
أيها المسلمون:
لقد ترَكَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحجَّةِ البيضاءِ ليلُها كنهارهِا، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، وكتابُ ربِّنا وسُنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - قائِمةٌ بيننا، إليهما المرجِعُ والتحاكُم، وقد مضَى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه الكرامُ عليها بعد خَتم الرسالة وتمام الدين، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]. فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس هو اليومَ بدِين، وما لم يشرَعه النبي - صلى الله عليه وسلم - مُبلِّغًا عن ربه فليس بشريعةٍ.
وفي زمن تعدُّدِ أدعِياءِ الحق، وتبايُنِ المزاعمِ بالتِزامِ السنة، وفي وقتِ كثرةِ الجماعاتِ والطوائفِ والمناهج، والتي فرَّقت ولم تجمَعْ، وبدَّدَ أكثرُها الجهودَ ولم تنفَعْ أو تدفَعْ؛ فإن الإسلامَ وهو دينُِ الوسطِ واليسر، قد علِقَ به من الشوائِبِ ما غطَّى بهاءَه وصفاءَه، وفرَّقَ المسلمينَ وشتَّتَهم، والأدهَى من ذلك: إثارةُ الغُبارِ على عامَّةِ المسلمين، بتمزيقِهم وتحزيبِهم، وجَعلِهم فِرقًا وشِيَعًا، مما يُؤكِّدُ أن في داخل الأمةِ أدواءً لا تقِلُّ خطورةً عن ضررِ أعدائها من الخارج.
إن على العلماءِ أن يُبيِّنُوا حقيقةَ ومُقتضَى قولِ الله - عز وجل -: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52]، وقوله - سبحانه -: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31، 32].
وأنَّ تَنَقُّصَ علماء الأمة، السائِرِين على منهجِ سلفِها الصالح هو طعنٌ في صحابةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتابِعِيهم، وفي علماءِ الإسلام، وأئمةِ الفقه وتلامِذَتهم، والذين لم يتَّخِذُوا لهم اسمًا إلا الإسلام، ولا وصفًا إلا المسلمين، ولا منهجًا إلا اتِّباعَ السنة، وكلُّهم قد صحَّ النقلُ عنه بذمِّ الابتداع في الدين، والحَيدَة عن سُنَّة سيِّد المرسلين.
والحمدُ لله على أن الوعيَ والحذَرَ يتنامَى لدَى المسلمين بما يُحاكُ ضدَّهم، إلا أن جَمعَ كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم فريضةٌ شرعية، وأوامرُ إلهية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
إنَّ الواجبَ هو وَأدُ كلِّ خلافٍ يشُقُّ صفَّ المسلمين، ويُفرِّق جمعَهم، فليست الأمةُ في حال رَفاهٍ يسمَحُ لها بمزيدٍ من التدابُرِ والتقاطُع، ومن سعَى في تفريقٍ وعَزلٍ فهو المعتزِلُ لوحده، وهو النادُّ عن جماعةِ المسلمين، ويبقَى عمومُ المسلمين في دائرةِ الإسلام والوحدة، يجمعُهم كتابُ الله وسُنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قِبلتُهم واحدة، ودينُهم واحد، وكتابُهم واحد.
وفي موسِمِ هذا الحجِّ بانَ - بفضل الله - مظهرُ الاجتماع والائتلاف، والوحدة والاجتماع، وهو السببُ الثالثُ من أسبابِ النجاحِ؛ فاجتماعُ الحجِّ هو أعظمُ مُؤتمرٍ على وجهِ الأرض، يظهَرُ فيه سَعةُ أفقِ أهلِ السنةِ والجماعة، في احتِواءِ المسلمين كلهم دونَ تفْرِقَةٍ؛ بل هو تحت شِعارِ الإسلام، وقَصدِ رِضا الرحمن، والناس سواسِية في لباسهم وهيئتهم وقصدهم، لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوَى. والحمدُ لله الذي نزَّه الحجَّ عن اللغو والجدال، والخلاف والتفرُّق.
وعلى أمةَ الإسلام أن تعِيَ هذا الموقِفَ، وأن تعلَمَ أن التحدِّي الذي يُواجِهُ الأمةَ أكبرُ من الإغراقِ في التفاصيلِ، (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
عباد الله:
ومما أحاطَ الله بيتَه الحرام، وحُجَّاجَه الكرام: الأمنَ والطمأنينةَ والسلامَ، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]، حرَمٌ يأمَنُ فيه الحيوانُ والحجرُ، والطيرُ والشجرُ، وتُعظَّمُ فيه حُرمةُ المؤمن، دمُه ومالُهُ وعِرضُه.
الحجَ مسيرةُ أمنٍ وسلام، فلا نِداء إلا بتوحيدِ الله، ولا دُعاء إلا لله، ولا هُتافَ إلا بالتكبير، جلَّل ذلك صِدقُ القائمين على الحجِّ ورعايةِ الحُجَّاج، والحبُّ المبذولُ لكل المسلمين، أيًّا كانت أجناسهم ولغاتهم، وهو رسالةٌ لكلِ العالم أن هذا الدين وشعائِرَه رحمةٌ وعدلٌ وأمنٌ وسلام، وأنَّ الإسلامَ والمسلمين بُرآءُ من مسالكِ العنفِ والإرهاب، والإقصاء والعداء.
وموقِفُ شكرٍ وإكبار لرجالِ الأمنِ الساهِرِين على أمنِ الديارِ المُقدَّسة، وأرضِ الحرمين الشريفين، في حُدودِها وثُغورِها، حمايةً للديار وحِفظًا للثِّمار، وفي كلِّ وقتٍ تتكشَّف بُطولاتُهم في صدِّ عُدوان، أو إحباطِ مُخطَّطاتٍ إرهابية، أو كشفِ خلايا سوءٍ وخيانة.
فلله خالصُ الدعاء أن يحفظَهم ويُسدِّدَهم ويُعينَهم، وأن يتولَّى مثوبتَهم.
إن هذا الأمنَ الذي امتَنَّ الله به على ساكِنِي حرمِه، فأطعمَهم من جُوعٍ، وآمَنَهم من خوفٍ هو سببٌ رئيسٌ لنجاحِ الحجِّ وسلامتِه، وكما أنه نعمةٌ من الله ومِنَّة، فهو أيضًا واجِبٌ يقومُ به المؤمنون، ومن حقِّهم أن يُدافِعُوا عنه بكل ما أُوتُوا من قوةٍّ؛ إذ أن أي تهديدٍ يطَالُه هو تهديدٌ لكل مسلمٍ في رَمز دينِه، وقِبلةِ صلاته.
وسيبقَى الحجُّ، وتبقَى شعائِرُ الله شِعارًا للتوحيدِ، ومُوافِقةً سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشِعارًا للوحدة والأمن، والرحمة والسلام، وعبادةً خالصةُ لله ربِّ العالمين.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200- 202].
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الحمدُ لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحات، له الحمدُ ملءَ الأرضِ وملءَ السماوات، اللهم لك الحمدُ على ما يسَّرتَ من تمامِ الحجِّ وكمالِه، وما أسبَغتَ من النعمةِ والتوفيقِ والتيسيرِ والتسديدِ، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد .. أيها المسلمون:
وإذا أراد الحاجُّ أن يرجِعَ إلى بلدِه، فيجِبَ عليه أن يطُوفَ بهذا البيتِ طوافَ الوداع، ولا يلزَمُه سَعيٌ له ولا حَلقٌ، وكذلك في خِتام الأعمار، وخِتامِ الأعوام، يستحضِرُ المؤمنَ قُربَ الوداع، وأن هذه الدنيا لا تدُوم، وأنها دارُ ابتلاءٍ وعملٍ، وفي أي لحظةٍ قد يُباغِتُك الأجلُ.
ولئِن انقضَت هذه الأيامُ الفاضِلةُ، فإن عُمرَ المؤمن كله خيرٌ، هو مزرعةُ الحسنات، ومَغرِسُ الطاعات، والمؤمنُ لا يزيدُه عمرُه إلا خيرًا، وعبادةُ الله لا يحُدُّها زمانٌ ولا مكانٌ، ومِعيارُ القبول هو إخلاصُ العامل لله، ومُتابعتُه رسولَ الله، وفضلُ اللهِ واسع.
ومن علامة قبول الحسنة: الحسنةُ بعدها، وعلامةُ الحجِّ المبرُور أن تعودَ خيرًا مما كنتَ، ومن طهُرَت صحيفةُ عمله بالغفران، فليحذَر العودةَ إلى دنَس الآثام؛ فالنكسةُ أشدُّ من الجُرح، وليكن من الخيرِ في ازدِيادٍ، فإن ذلك من علامة القبول.
ثم الصلواتُ الزاكيات، والتسليماتُ الدائِمات على أشرفِ خلقِ الله محمدٍ رسول الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغرِّ الميامين.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن الأئمةِ المهديين، والخلفاءِ المرضِيِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نَهجِهم واتَّبعَ سُنَّتَهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدَة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكَر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمُسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فِلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، وفي العراق، وفي اليمن، وفي فِلسطين، وفي كل مكانٍ، اللهم اجمعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِنْ دماءَهم، وآمِن رَوعَاتهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائبَيه وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ، اللهم جازِهم بالخيراتِ على ما يبذُلُونَ من خدمةِ الحُجَّاج وخدمةِ الحرمين الشريفَين وقاصِدِيهما.
اللهم كافِئ كلَّ من خدَمَ الحَجيجَ، واجزِ خيرًا من قام على رعايةِ ضُيُوفِك، اللهم ثقِّل موازِينَهم بالحسنات، وبارِك لهم في أعمالهم وأعمارِهم، وذُريِّاتهم، وأهلِيهم.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليلِ والنهار.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]،
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.
اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم احفَظ الحُجَّاجَ والمُعتَمرين، ورُدَّهم إلى أهلِيهم سالِمِين غانِمِين، وتقبَّل منَّا ومنهم ومن جميعِ المسلمين.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي