أيها المسلمون: هذه الحدود والعقوبات جعلها الله مناسبة لجرائمها، وقد شرعها الله رحمة بالعباد، ليتحقق لكل فرد من أفراد المجتمع الأمن على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته، وإن كل عمل من شأنه أن يعطل، أو يؤخر إقامة الحدود، فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له؛ لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر والفساد، وتقتيل البشر لعدم إقامة الحدود، وفوات للحقوق، و...
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن من طبيعة البشر التي خلقهم الله عليها تفاوت نزعاتهم، وتباين إرادتهم، فمنهم من ينزع إلى الحق والخير، ومنهم من ينزع إلى الشر والباطل، فتارة يسمو ويرتفع، وتارة يتردى في حمأة الرذيلة، فيهبط وينحطّ، ويصل إلى الحضيض، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ)[التغابن: 2].
وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[الشمس: 7-10].
ولما كانت النفوس النازعة إلى الشر والفساد بحاجة إلى ما يكبح جماحها، ويخفف من حدة الشر فيها، حتى تقلع عن غيّها، وتثوب إلى رشدها، فقد فرض ربّ العالمين العليم الحكيم الرحيم الخبير: حدودًا وعقوبات متنوعة، بحسب الجرائم، لتردع المعتدي، وتصلح الفساد، وتكفر عن المجرم جريمته، فينجو في الآخرة؛ لأن الله لا يجمع له بين عقوبتي الدنيا والآخرة، ذلك تقدير العزيز العليم.
ولما كانت الحدود في الشرع عقوبة مقررة لأجل حقّ الله -تعالى-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ لا تَقْرَبُوهَا)[البقرة: 187].
فكذلك، فهي لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد، ولا من الجماعات، وإنما هي مقررة لصالح الجماعة، وحماية للنظام العام، ويخرج من هذا التعزيرُ لعدم تقديره، وفرَض أمرَه لرأي الحاكم، وكذلك يخرج القصاص؛ لأنه حقّ الآدمي، متعلق أداؤه بأولياء الدم.
ومن هذه الجرائم التي فرض الله لها عقوبات محدّدة: جريمة الزنا، والتي هي من أفحش الجرائم وأبشعها، فهي عدوان على الشرف والكرامة، ومقوّضة لنظام الأسر والبيوت، وضياع للأنساب، وانتهاك للأعراض، وتذهب بكيان الأمة، وقد قرر الشارع لهذه الجريمة النكراء عقوبة الجلد للبكر والرجم للثيب من الرجال والنساء.
ومن هذه الجرائم أيضًا: جريمة القذف للمحصنين والمحصنات، وهي من الجرائم التي تحل روابط الأسر، وتفرق بين الرجل وزوجه، وتهدم أركان البيت، فقرر الشرع عقوبة القاذف ثمانين جلدة بعد عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، وذلك كي لا تخدش كرامة إنسان، أو يجرح في سمعته، فالشرع يحافظ على سمعة المسلم، وعدم إهانة كرامته.
وأما السرقة، والتي هي اعتداء على أموال الناس، وهي من أحب الأشياء إلى النفوس، فقد قرر الشرع لهذه الجريمة عقوبة القطع، حتى يكون عبرة لغيره بالكف عن اقتراف هذه الجريمة، فيطمئن كل فرد في المجتمع على ماله ونفسه وأهله.
والخمر، جريمة تفقد الشارب عقلَه ورشده، وتحمله على ارتكاب كل حماقة وفحش قبيح ومنكر.
وكفى بها أنها أم الخبائث، ولذا كانت عقوبته الجلد والضرب بالنعال ليكون ذلك رادعًا له، ولغيره؛ من اقتراف مثل هذه الجريمة المفسدة للدين والأخلاق، تصل بصاحبها ومتعاطيها إلى التخنث والدياثة، وكفى بها من ضعة وهوان.
وكذلك المحاربون الساعون في الأرض بالفساد، المضرمون لنيران الفتن، والمثيرون للاضطرابات، العاملون على قلب نظام الحكم القائم بأمر الله، ولذلك كانت عقوبة هذه الجريمة أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض؛ كما قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ الآية)[المائدة: 33].
أيها المسلمون: هذه الحدود والعقوبات جعلها الله مناسبة لجرائمها، وقد شرعها الله رحمة بالعباد، ليتحقق لكل فرد من أفراد المجتمع الأمن على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته، وإن كل عمل من شأنه أن يعطل، أو يؤخر إقامة الحدود، فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له؛ لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر والفساد، وتقتيل البشر لعدم إقامة الحدود، وفوات للحقوق، وضياع للأوامر الشرعية.
فاتقوا الله -يا عباد الله-: وتغلبوا على عواطفكم الجامحة بإخضاعها لأمر الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحذار من الشفاعة لإسقاط حد من حدود الله، ففي ذلك سخط الله.
وترفعوا -أيها المسلمون-: عن إيذاء الناس، واسألوا الله العصمة من كبائر الإثم والفواحش، قال الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من دعا إلى الخلق الفاضل والنهج القويم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: صح الحديث عن الصادق المصدوق من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله إلا أسامة بن زيد حب رسول الله، فكلمه أسامة، فقال رسول الله: "أتشفع في حد من حدود الله؟!"ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذ سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[أخرجه البخاري في الحدود، باب: إقامة الحدود على الشريف والوضيع (8/16)، ومسلم في الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره (1688)].
فالله أكبر -أيها المسلمون-: هكذا يكون الحق، فلا نامت أعين الجبناء، وأين الثرى من الثريا بين هذا وبين ما عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود، والتعليلات السخيفة، والمحاولات الباطلة لمنع إقامة الحدود؟!
ونبي الله يقسم وهو البار بقطع يد أشرف نساء الأرض، وسيدة نساء أهل الجنة، لو أنها ارتكبت جريمة السرقة، وحاشاها من ذلك -رضي الله عنها وأرضاها-.
وقد قال رسول الله مبينًا خطورة الشفاعة في حدود الله: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله -تعالى- فقد ضاد الله -عز وجل-، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال[أي: عصارة أهل النار] حتى يخرج مما قال"[رواه أحمد (2/70)، وأبو داود في الأقضية، باب: فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها (3597)، والحاكم (2/27) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي].
-أعاذنا الله من ذلك-.
وقد يحدث -أيها الناس-: أن يغفل الإنسان عن الجريمة المرتكبة، وينظر إلى العقوبة الواقعة على الجاني، فيرقّ قلبه ويعطف عليه.
ومن أجل هذا يقرر القرآن الكريم: أن ذلك مما يتنافى مع الإيمان الذي يتطلب دومًا الطهر والتنزه عن الجرائم، والسمو بالفرد والجماعة إلى الأدب العالي، والخلق المتين، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (الزَّانِيَةُ والزاني فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النور: 2].
فاتقوا الله -عباد الله-: واعلموا أن الإسلام ليس مجرّد القول باللسان، ولكنه الاستسلام والإذعان الشامل الكامل لكل ما جاء في الإسلام من فروض وحدود، وأحكام وفضائل، دون اتباع للهوى في الأخذ والترك، وفي المنشط والمكره، أو الضياع للآخرين، أو محاباة للأقارب، ومن كان له جاه، أو مال، أو وساطة، يقول الله -تعالى-: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
فالمؤمن يتقبل هذا الأمر بصدر رحب، ونفس مؤمنة، لا يخالجه في ذلك أدنى شكّ ولا ريب، ويلازم ذلك التقبل بالاستسلام الكلّي لا الجزئي، ثم الرضا والقناعة التامّة، والمضي قدمًا ودومًا وأبدًا في التحاكم إلى كتاب الله -تعالى- وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في كل كبيرة وصغيرة، وذلك في معاملاته مع الخلق أجمعين، وذلك يشمل التعامل بين الحاكم والمحكوم، الأمير والمأمور، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والفقير والغني، والكبير والصغير، وفي كل ما نأتي ونذر، فإذا حققنا ذلك سدنا العالم وأصبحنا قمة الأمم وقادة الشعوب.
اللهم حقق فينا ذلك.
ونحن نعيش في هذه البلاد وقد أعلن حكامها التزامهم شرع الله -تعالى- وسنة رسول الله --صلى الله عليه وآله وسلم-، كما أن المحاكم الشرعية في هذه البلاد قامت على كتاب الله -جل وعلا- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في كل شؤون الدولة.
فنسأل الله -تعالى- أن يعينهم على ما التزموا بكتاب الله -تعالى- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفق الله الجميع لذلك، وحقق للجميع الآمال والخيرية، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي