أيها الإخوة المسلمون: في مرور الأيام والليالي، وتعاقب الشهور والأعوام؛ عبرة وعظة، عبرة في سرعة انقضاء الأعمار، وعظة في قرب حلول الآجال. أليست هذه الأيام والشهور مراحل نقطعها من أعمارنا؛ فمع غروب شمس كل يوم وانتهاء كل شهر، وانصرام كل عام تنقص الآجال، ويقترب حلول الموعد المجهول؟
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- وأطيعوه، وتزودوا في سفركم إلى الدار الآخرة بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، فما قدم العباد على ربهم بتجارة أنفع من الطاعات، ولا زاد أحسن من القربات، وما استعد لظلمة القبور وضيق اللحود بمثل الإكثار من الأعمال الصالحات، والمسارعة إلى الخيرات.
جعلني الله وإياكم ممن لم تزده الأيام إلا قربا من مولاه وبعدا عن معاصيه.
أيها الإخوة المسلمون: في مرور الأيام والليالي، وتعاقب الشهور والأعوام؛ عبرة وعظة، عبرة في سرعة انقضاء الأعمار، وعظة في قرب حلول الآجال.
أليست هذه الأيام والشهور مراحل نقطعها من أعمارنا؛ فمع غروب شمس كل يوم وانتهاء كل شهر، وانصرام كل عام تنقص الآجال، ويقترب حلول الموعد المجهول؟
ألسنا في كل يوم نودع غال، ونشيع حبيبا، ونودع الثرى عزيزا، وفي ذلك إنذار لنا بأن المصير واحد، ولكل أجل كتاب؟
أيها الإخوة في الله: هذه الدنيا على حقارتها وخستها ودناءتها هي -والله- مكسب عظيم للمتاجرة والمرابحة مع الله -عز وجل-.
إن في شروق شمس كل يوم، واستهلال كل عام منحة يسوقها الله -عز وجل- لمن شاء من خلقه، والناس ما بين مستثمر لها ومضيع، فمن الناس من أيقن بسرعة مرور الليالي والأيام وانقضاء الأعمار، فتراه في سباق مع الزمن، يستثمر كل مناسبة، ويبذل كل جهد في الطاعة، لا يحقر من المعروف شيئا، ولا يستهين من محقرات الذنوب ذنبا، همه في صباحه ومسائه، كسب مزيدا من الحسنات، والإكثار من القربات، غايته يسعى لنيل رضا مولاه، ويسعى للفوز بجنته وكرامته.
إذا استيقظ من نومه حمد ربه الذي رد إليه روحه، وشمر عن ساعد الجد ليستثمر هذا اليوم الذي أنعم الله عليه به، فتراه يتنقل من عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى طاعة، لسانه لا يفتر من ذكر الله في جميع أحواله، وقلبه يعمره الخوف والرجاء من مولاه، تترآى له مساكن أهل الجنة، وما هم فيها من نعيم وحبور، فتهفو نفسه لئن يكون من أهل تلك الدار، ويدعوه حادي الشوق للمسير إلى الجنة، وتخطو له جهنم بزفيرها وزمهريرها وزقوموها وعذابها ونكالها، فيستعيذ بالله منها ومن عذابها، ويتحرك داعي الخوف والحذر في قلبه، فيبتعد عن عمل أهلها وصفات أهلها.
ومن الناس من هو مسوف، من هو مفرط غافل سادر عابث لاهٍ، همه في نهاره البحث عن لقمة عيشه، وملء بطنه، وغايته من دنياه المسابقة والمسارعة في نيل أكبر قدر من متع الدنيا وشهواتها.
لا يعتبر برحيل الراحلين، ولا يتعظ بفراق الأحباب والأقربين، بالله عليكم -أيها الإخوة في الله- أي الفريقين أهدى سبيلا وأقوم طريقا وأحمد عاقبة ومآل؟
إخوة الإسلام: إن من الواجب على كل مسلم وهو يعيش نهاية عام، ويستقبل عاما جديدا أن يكون له حظا وافرا من المحاسبة الجادة، والنقد الهادف البناء، والمراقبة اليقظة المستمرة، والتوبة النصوح الصادقة الدائمة.
إن المؤمن يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك شريكه، يحاسب نفسه عن كل خطوة ولحظة: يا نفس إلى متى هذه الغفلة؟ إلى متى الإعراض والتسويف؟ يا نفس كم من طاعة ضيعتها؟ وكم من واجب فرطت فيه؟ تمر عليك مواسم الخير والفضل والجود ولا يكن مع المتسابقين مشاركة؟
يا نفس أأنت في غنى عن جنة الله ونعيمه؟ يا نفس أأنت في أمن من نار الله وعذابه؟ أبا بالتفريط والتسويف والغفلة والإهمال تنال ولاية الله ويحصل على رضاه وتدخل جنته؟ أبذنوب والمعاصي والمجاهرة والمبارزة بها تقابل نعم الله ومننه؟ يا نفس أما لك في السابقين أسوة؟ أما لك في الراحلين عبرة؟ أم لك في القبور عظة؟ أين الوالدة والوالد؟ أين الحبيب والصديق؟ أين القريب والبعيد؟ أليس مصيرك مصيرهم؟ أليست نهايتك نهايتهم؟
ويستمر في توبيخها وتذكيرها حتى تستقيم على طاعة الله ومراده، يقول محمد بن المنكدر -رحمه الله-: "جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت على طاعة الله".
أيها الإخوة في الله: إن السعيد -والله- حقا من انتقد نفسه، وتعرف على جوانب النقص والخلل فيها، فحرص على تلافيه وسده، واشتغل بعيوبه عن عيوب الآخرين ما دام في زمن المهلة والإمهال.
جعلني الله وإياكم من أهل ولايته، ومن أهل كرامته، ووفقنا جميعا لعمل الصالحات، واجتناب السيئات، ومن علينا بالتوبة النصوح والإنابة الصادقة إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 18 - 20].
ألا فاتقوا الله -عباد الله- تسعدوا وتفلحوا، تزودوا في رحلتكم إلى الله والدار الآخرة بزاد التقوى، فنعم الزاد التقوى لمن تزود بها: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
جعلني الله وإياكم من عباده المتقين وأوليائه الصالحين إنه سميع مجيب.
الحمد لله أحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عز جاره، وجل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: ما أحسن أن نختم عامنا هذا بتجديد التوبة الصادقة، وتجديد الاستغفار الحقيقي، فإن التوبة وظيفة العمر لا تفارق المسلم في ليله ونهاره، ولا في شهر من شهوره، ولا في عام من أعوامه.
إن المسلم يعيش مع التوبة كما يعيش مع استنشاق الهواء، يجدد التوبة في كل حين، توبة فيها ندم وبكاء وحسرة على ما بدر منه من تفريط وإهمال في طاعة الملك العلام، توبة فيها ندم وبكاء على ساعات وأوقات مضت من أعمارنا في غير طاعة الله، على أوقات تقضت من حياتنا في غير ذكر الله -عز وجل-.
إن من رحمة الله -عز وجل- أن فتح أبواب التوبة لعباده، بل هو سبحانه برحمته، وهو التواب الرحيم يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها، وذلك كل يوم وليلة.
بل إنه سبحانه يحب التوابين من عباده، ويعدهم على التوبة النصوح، يعدهم الثواب الجزيل، والأجر الكبير، يقول الله -عز وجل-: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان: 70].
فيا من عصى ربه ليلا ونهارا، يا من عصى الله سرا وجهارا ، يا من فرط في الواجبات، يا من اقترف المحرمات: أقبل على ربك تجد ربك قريبا، تب إليه من كل ذنب وخطيئة تجده توابا رحيما.
إن من أعظم ما يصيب العبد أن يسوف في التوبة، ويؤخر في الأوبة، فلربما أدركه الموت على حين غرة وهو مقيم على المعصية، معرض عن الطاعة، فيبوء حينئذ بخسارة الدنيا والآخرة.
وهب أن الشخص مد في عمره، ووفق لتوبة نصوح في آخر حياته، أليس مغبونا إذ مضت عليه أيام الشباب، وفترات القوة والنشاط، وهو لم يستثمرها في طاعة الله؟
فالبدار البدار -أيها الإخوة في الله- البدار بالتوبة النصوح، البدار إلى الإنابة إلى الله -عز وجل- والانطراح والانكسار بين يديه، البدار بتجديد التوبة، فإن بابها مفتوح -ووالله- لن يجد العبد المقبل على ربه التائب إليه لن يجد من ربه إلا كل خير وهناء وسعادة وطمأنينة، وشتان بين حياة اللهو والغفلة والعصيان، وحياة العبادة والطاعة والاستقامة.
من الله علي وعليكم بالتوبة والإنابة، ووفقنا لسلوك طريق أهل الولاية، وختم لنا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه إن ربي سميع قريب.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي