إنهم يمشون على هذه الأرض مشية المؤمن الذي تعلوه السكينة، ويزينه الوقار لا يتكبر ولا يتجبر لا يريد علواً في الأرض ولا فسادا، وإذا بسط إليهم الجاهلون ألسنتهم بالسوء لم يقابلوا ذلك بمثله، بل بالعفو والصفح والمغفرة والإغضاء عن الزلات، والتجاوز عن الهفوات؛ فهم كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: "حلماء لا يجهلون، وإن جُهِل عليهم لم يجهلوا"
الحمد لله بيده الملك وهو على كل شيء قدير، أحمده -سبحانه- هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو اللطيف الخبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: في الاقتداء بالأخيار وفي التأسي بالأبرار، وفي اقتفاء آثار المتقين والسير على منهاجهم؛ فوزٌ عظيم، وسعادة لا نظير لها، ونجاح لا حدود ولا منتهى له.
وفيما ذكره الله -تعالى- في كتابه من توجيه الأنظار إلى مسلك الصفوة، ونهج عباد الرحمن وسبيل البررة - ما يحقق هذه الغاية ويبلِّغ هذا المراد؛ إذ هو المثال الذي يحتذى من ذلك قوله -عز اسمه-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) [الفرقان:36].
إنهم يمشون على هذه الأرض مشية المؤمن الذي تعلوه السكينة، ويزينه الوقار لا يتكبر ولا يتجبر لا يريد علواً في الأرض ولا فسادا، وإذا بسط إليهم الجاهلون ألسنتهم بالسوء لم يقابلوا ذلك بمثله، بل بالعفو والصفح والمغفرة والإغضاء عن الزلات، والتجاوز عن الهفوات؛ فهم كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: "حلماء لا يجهلون، وإن جُهِل عليهم لم يجهلوا".
هذا نهارهم -عباد الله- فكيف ليلهم؟ إنه خير ليل، إنه ليل أبيض مضيء بألوان الطاعة يزدلفون بها إلى ربهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:64]، صفوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، واتصل نشجيهم يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ضارعين إليه: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً) [الفرقان:65]؛ أي لأنه كان هلاكاً دائماً، وخسراناً ملازماً (إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) [الفرقان:66].
وفي هذا من المدح لهم والثناء عليهم ما لا يخفى؛ ذلك أنهم مع حسن معاملتهم للخلق، وشدة اجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له؛ يخافون أن ينزل بهم عذابه؛ فيبتهلون إليه أن يصرفه عن ساحتهم غير آبهين ولا ملتفتين إلى جميع أعمالهم وعظيم رصيدهم منها.
وأما في إنفاقهم على أنفسهم وأهليهم؛ فلقد سلكوا فيه أعدل السبل، ونهجوا فيه أقوم الطرق؛ فكان وسطاً عدلاً لا تبذير فيه ولا تقتير؛ فلم يكونوا مبذرين شأن أولئك الذين يولعون بمظاهر البذخ في المطاعم والمشارب، والملابس والمراكب والأثاث، وفي الموائد والأفراح.
ولم يكونوا كذلك مقترين شأن أولئك الذين يقبضون أيديهم عن واجب النفقات، ويشحون بالمعروف، ويبخلون بما آتاهم الله من فضله؛ لأن من شأن الإسراف استنفاذ المال في غير مواضعه؛ فينقطع الإنفاق وتذبل زهرته، ولأن من شأن الإقتار؛ إمساك المال فيحرم مستحقه.
ولقد كان من صفات عباد الرحمن -أيضاً-: التخلي عن المفاسد، والتجافي عن الشرور التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين غالبة عليهم؛ حيث تنزهوا عن الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله قتلها والزنا؛ جاء ذلك في قوله -عز من قائل-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) [الفرقان:68].
إنه إخلاص الدين لله، وصرف جميع أنواع العبادة له وحده؛ فلا يدعون في الشدائد إلا إياه، ولا يسألون العون ولا يرجون الغوث ولا يطلبون المدد إلا من الله، ولا يعتمدون في كل شأن من شئونهم إلا عليه - سبحانه- ولا يخافون أحداً سواه.
وذلك هو التوحيد الخالص والإيمان الكامل الذي رفع الله به أقواماً؛ فجعلهم في الخير قادة منهم بلال الحبشي وصهيب الرومي، وخفض به أقواماً؛ نبذوه واتخذوه وراءهم ظهريا كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من أئمة الكفر وصناديده، وأولياء الشيطان الذين حق عليهم وعيد الله لهم بقوله: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة:72].
وكما تنزهوا عن الشرك؛ فقد تنزهوا عن الفساد في الأرض الذي يتجلى باستباحة اقتناء المحرمات، وقتل الأنفس المعصومة، وعن العدوان على المجتمع بانتهاك الأعراض المتمثل في أقذر وأفحش صوره في جريمة الزنا.
فإن مَنْ تلوث بأرجاس الشرك، أو استباح قتل النفس التي حرم الله قتلها، أو اقترف فاحشة الزنا؛ فسوف يلقى جزاء إثمه، وما اقترف من الذنب عذاباً مهيناً مضاعفاً في نار جهنم يوم القيامة، إلا إن تقدمت منه توبة نصوح في الدنيا؛ فأقلع عن ذنبه، وندم على ما فرط منه، وعقد العزم على ألا يعود إليه، وأد المظالم وأعاد الحقوق إلى أهلها، وزكى نفسه بالصالحات؛ -فإن الله يقبل توبته ويعفو ويتجاوز عن عقابه، بل ويتفضل بثوابه رحمةً منه وجوداً وإحساناً كما قال عز اسمه: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [الفرقان:70].
فتنقلب السيئات الماضية بنفس هذه التوبة النصوح حسنات، وذلك كما قال العلامة الحافظ ابن كثير - رحمه الله-: "لأنه كلما تذكر ما مضى؛ ندم واسترجع واستغفر؛ فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف -رحمهم الله-".
فاتقوا الله -عباد الله- واعملوا عل الاقتداء بالصفوة، والتأسي بالأخيار وسلوك مسالكهم، واقتفاء آثارهم، والتخلق بأخلاقهم؛ فإنهم كانوا على هدى وطريق مستقيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:17-18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد قسّم أهل العلم الصفات التي وصف الله بها عباد الرحمن في ختام هذه السورة العظيمة (سورة الفرقان) قسمها إلى أربعة أقسام:
قسم منها هو من التحلي بالكمالات الدينية، وهي التي بدء بها من قوله -سبحانه-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان:63]
وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك، وهو من قوله -عز اسمه قائل-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) [الفرقان:68]
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام، وهو قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:64]، وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان:67]، وقوله: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ) [الفرقان:68] إلى قوله -عز اسمه-: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان:72]
وقسم من طلب الزيادة في صلاح الحال في هذه الحياة، وهي قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان:74].
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من التأمل في هذه الصفات الكريمة والسجايا العظيمة، ومن دوام الحرص على التحلي بها والتخلي عما يضادها؛ ففي ذلك الفلاح والفوز والنجاة: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) [الفرقان:75-76]
واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله محمد بن عبد الله؛ فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء، اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافتيك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخط، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]. وصلى اللهم وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي