إنها الدعوة إلى التوبة، فإن الله يدعونا دائماً إلى التوبة إليه والإقبال عليه، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وما ترك الله باباً من أبواب التذكير والتحذير إلا فتحه أمامنا، داعيه ينادينا كل يوم: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، إلى أين يا عبدي؟ أولك ربّ غيري؟ إنني أتودد إليك بالنعم ثم أنت تتبغض إليَّ بالمعاصي، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد: فقد كان حديثنا في الخطبة الأخيرة عن الأسباب المنجية من فتنة المسيح الدجال، ثم قتال المسلمين لليهود، ثم خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض، وكيف يقضي الله عليهم رحمة بعباده المؤمنين. وبعد ذلك يموت عيسى عليه السلام والمهدي الصالح، وماذا بعد ذلك؟
بعد ذلك الانتشار العظيم للإسلام الذي يعم المشرق والمغرب، يضعف الإسلام مرة أخرى، ويترعرع الشر، فيرفع القرآن ويذهب العلم، وتعود البشرية إلى ما كانت عليه من الضلال والشرك.
فقد روى ابن ماجه عن حذيفة مرفوعاً: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: "لا إله إلا الله" فنحن نقولها".
وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت"، وفي صحيح مسلم عن عائشة مرفوعاً: "لا نذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى"، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9] أن ذلك تامّ!! قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" على هؤلاء تقوم الساعة.
وتُهدم الكعبة على يد الحبشة فيجعلونها خراباً، ولا يعمر بعده أبداً كما في مسند أحمد.
حين ينتشر الكفر والفسق والفاحشة تحدث أكبر ظاهرة غريبة في تاريخ البشرية، ألا وهي طلوع الشمس من مغربها، تطلع الشمس من مغربها فيراها الناس كلهم، فيؤمنون أجمعون، فذلك يوم (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [سورة الأنعام: 158].
كيف تطلع الشمس من مغربها؟ اعلموا أنه قد جاء في صحيح البخاري أن أبا ذر كان مع النبي –صلى الله عليه وسلم-: فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب؟" فقال: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38].
هنالك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، وروى أحمد عن عمرو بن العاص مرفوعاً: "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل".
وبعد ذلك مباشرة تخرج على البشرية جمعاء وقت الضحى دابة عظيمة، لا عهد للبشر بها، فتخاطب الناس وتكلمهم، قال تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ) [النمل:82].
وروى أحمد عن أبي أمامة مرفوعاً: "تخرج الدابة فتسم الناسَ على خراطيمهم" تسمهم أي: تضع على وجوههم علامات تميز المؤمن عن الكافر.
وبعدها تهب ريح طيبة ألين من الحرير من قبل الشام تقبض روح كل مؤمن، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتى لو كان أحدكم في كبد جبل لدخلته، فيبقى شرار الخلق لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟! فيقولون: بم تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، كما ثبت في الصحيح.
عندئذ لا يبالي الله بمن بقي من العباد، فتخرج نار من المشرق وتعمّ الدنيا، فتحشر الناس إلى الشام، تتبعهم وهم فارّون منها قاصدين الشام، تصبح معهم وتمسي معهم وتبيت معهم، عندئذ يؤذن للملك إسرافيل بالنفخ في الصور، ذلكم الملك الذي يمسك الصور، لا يرتد إليه طرفه -لا يرمش- خوفاً من أن يأتي الأمر الإلهي وهو غافل، هنالك ينفخ في الصور وتقوم الساعة على شرار الخلق.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فإننا قد رحلنا معكم منذ شهرين أو أكثر في رحاب آيات الله تعالى وسنة نبيه، رأينا فيها القيامة الخاصة وهي "الموت" والقيامة العامة بدءاً من علاماتها الصغرى إلى الكبرى ثم النفخ في الصور. فما الغاية من كل ذلك؟ وما الثمرة مِن كل ما سمعناه؟
إنها الدعوة إلى التوبة، فإن الله يدعونا دائماً إلى التوبة إليه والإقبال عليه، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وما ترك الله باباً من أبواب التذكير والتحذير إلا فتحه أمامنا، داعيه ينادينا كل يوم: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، إلى أين يا عبدي؟ أولك ربّ غيري؟ إنني أتودد إليك بالنعم ثم أنت تتبغض إليَّ بالمعاصي، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
ذكرك بالموت فأنت تشهده كل يوم، ولا تريد التذكر.
ندبك إلى النظر في خلقه وقرب قيامته، وأنت لا تريد التفكر.
فإني أذكركم -عباد الله- بالتوبة إلى الله ما دام بابها مفتوحاً أمام الجميع، وها هو شهر التوبة نعيش في كنفه، فأبشر يا من ازداد إيمانه ويقينه، وأبشر يا من هداه الله إلى طاعته وتقواه، فتح الله عينيك على هذا النور العظيم، ومتع أذنيك بسماع ذكره الحكيم، والله إن في هذا الشهر أناساً يتوبون إلى الله، لو وُزعت توبتهم على أهل الأرض لوسعتهم.
فأبشروا واستمعوا إلى قصة أخ لنا تاب في شهر رمضان وعاد إلى ربه الرحمن، وحسنت توبته، حتى إنه كان إذا تذكر ذنوبه ومعاصيه بكى بكاءً شديداً، فحسن أمره، وواظب على طاعة مولاه من صلاة وصيام وحسن قيام، حتى جاء يوم قرر أن يحضر فيه مجلساً من مجالس الذكر، وكان اليوم يوم اثنين، وبمجرد أن مشى خطوات صدمته سيارة مسرعة، فألقته ميتاً رحمه الله. هذه هي الخاتمة التي أرادها الله لهذا العبد الصالح، تكون آخر ساعاته أن يعود إلى ربه -عز وجل-.
فنسأل الله أن يجعله كذلك الرجل الذي أراد أن يسلم في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فأتاه ورسول الله يجهز جيشاً لمعركة كبيرة مع المشركين، فقال: لو أني تبعتك ما لي وما علي؟ قال –صلى الله عليه وسلم-: "لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم"، قال: لا والله ما لهذا اتبعتك، إنما اتبعتك لأرمى بسهم من ها هنا، وأشار إلى نحره، ويخرج من ها هنا، وأشار إلى قفاه.
فقال –صلى الله عليه وسلم-: "إن قتلت فأنت في الجنة"، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأبلى بلاءً حسناً حتى قتل، ثم جيء به إلى النبي وقد رُمي بسهم في نحره فخرج من قفاه، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "صدق الله فصدقه، بخٍ بخٍ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة وما سجد لله سجدة".
نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون من قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه التوبة:
تفكَّر في مشيبك والمآب *** ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه *** تقيم به إلى يوم الحساب
فلولا القبر صار عليك سترًا *** لأنتنت الأباطح والروابي
خلقت من التراب فصرت حيًّا *** وعلّمت الفصيح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيه *** كأنَّك ما خرجت من التراب
فطلق هذه الدنيا ثلاثاً *** وبادر قبل موتك بالمتاب
نصحتك فاستمع قولي ونصحي *** فمثلك قد يُدلُّ على الصواب
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي