أشرف سفر

عادل العضيب
عناصر الخطبة
  1. أشواق الأبرار في الأسفار لبيت الواحد الغفار .
  2. فضل الحج .
  3. البدار به وخطورة تأخيره مع الاستطاعة .
  4. حلول وقت زكاة الثمار .
  5. أخطاء مصاحبة لأداء زكاة الحبوب والثمار .

اقتباس

لكن أمرًا آخر حرك أقوامًا للسفر، لا لأجل الأنهار، ولا لأجل البحار والأشجار، بل ليرضى الواحد القهار. تحركوا إلى مهوى الأفئدة ومحط الأوزار، إلى أفضل البقاع وخير الديار، إلى البلد الحرام، يلبون نداء الملك الجليل، على لسان إبراهيم الخليل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الملك الأعلى الكبير، أحاط علمًا بالجليل والحقير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ سبحانه تعالى عن نظير، وتقدس عن وزير، قدر فهدى، وأغني وأقنى، الرحمن على العرش استوى، يعلم خائنة الأعين وما يخفي الضمير، أحمده على ما أولاه من الإنعام والخير الكثير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها لليوم العسير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الجد والتشمير، وسلم تسليمًا.

أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون، في زمن تطورت فيه وسائل المواصلات حتى أصبح الإنسان يصل إلى أبعد البلاد في ساعات، ظهرت ثقافة السفر عند الناس؛ حتى أصبح السفر ضرورةً من الضرورات، فالذي لا يسافر يضيع على نفسه قدرًا كبيرًا من السعادة التي يعيشها الكثيرون على ضفاف الأنهار، أو على شواطئ البحار، أو بين الغابات والأشجار، وقد اتصل نزول الأمطار؛ الهواء عليل، والمياه تنساب من قمم الجبال الخضراء في منظر بديع. هذه الأجواء الجميلة حركت أقدام الكثيرين إلى خارج البلاد، إلى تلك البلاد ليستمتعوا بالطبيعة التي أودعها الله تلك الديار.

لكن أمرًا آخر حرك أقوامًا للسفر، لا لأجل الأنهار، ولا لأجل البحار والأشجار، بل ليرضى الواحد القهار. تحركوا إلى مهوى الأفئدة ومحط الأوزار، إلى أفضل البقاع وخير الديار، إلى البلد الحرام، يلبون نداء الملك الجليل، على لسان إبراهيم الخليل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].

قال المفسرون: لما أمر الله إبراهيم بالنداء قال إبراهيم: يا رب، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال الله: ناد وعلينا البلاغ، فقام على الحجر أو على الصفا أو على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجاب كل من سمع من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة.

لبيك اللهم لبيك! لبيك اللهم لبيك! سافروا مشيًا على الأقدام، وراكبين على الرواحل، (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27].

سافَروا إلى بلد شديد الحرارة، لا يرون فيها من مناظر الطبيعة إلا الجبال السود، لكنهم سيرون ما هو أحلى وأبهى وأغلى، سيرون ما هو أحلى وأبهى وأغلى من الجبال الخضراء، سيرون البيت العتيق، شاهدًا أنه لا إله إلا الله، سيرون الركن والمقام والحطيم وزمزم؛ لقد هدهم الشوق إلى تلك البقاع الطاهرة.

يحنّ إلى أرض الحجاز فؤادي *** ويحدو اشتياقي نحو مكة حادي 

ولي أمل ما زال يسمو بهمتي *** إلى البلدة الغراء خير بلاد

بها كعبة الله التي طاف حولها *** عباد هم لله خير عباد

سافروا يؤملون أن ينثروا الدمع لرؤية البلدة التي نثر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دموعه حزنًا على فراقها لما أخرجه المشركون وهو يقول: "والله! إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".

سافروا وقد تركوا الدنيا خلفهم، تركوا الأهل والديار، يؤملون أن يطهروا من الذنوب ويغسلوا من الأوزار، أن يعودوا إلى بلادهم بذنب مغفور، وسعي مشكور؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه من حديث أبي هريرة. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس لها جزاء إلا الجنة" متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" رواه الترمذي والنسائي، وهو حديث صحيح.

سافروا، سافروا لا ليقفوا على شاهق البنايات، وعجيب الحضارات، ولا ليقفوا على بساط أخضر، لا يريدون إسعاد الجسد وراحته، وإنما ليقفوا على أرض جرداء، في حر شديد، وزحام شديد؛ ليقفوا على صعيد عرفات الطاهر، أجسادهم ستتعب، لكن قلوبهم ستحيا، فهم سيقفون في موقف يدنو الله من أهله ويباهي بهم ملائكته.

صح في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟" أرادوا الله والدار الآخرة، أرادوا مغفرة الذنوب ورفع الدرجات، فلا إله إلا الله! ما أحلى ذاك الموقف!.

سافروا لا يريدون المبيت في الأبراج العالية، ولا في فنادق النجوم الخمس، بل يريدون المبيت على أرض منى.

تالله ما أحلى المبيت على منى *** في ليل عيد أبرك الأعياد

لا يريدون أن يأكلوا في أفخم المطاعم، ولا من أشهى المأكولات؛ بل يريدون الأكل من هديهم الذي أراقوا دمه قربةً لله، هذا مقصد القوم، وهذا مرادهم، رضا الله، شتان -والله- بين الفريقين! من سافر للمتع واللذات، ومن سافر ليرضي رب الأرض والسموات.

عباد الله: من استطاع الحج ولم يحج فليسارع، فإن الحج ليس من المستحبات ولا من الواجبات، بل ركن من أركان الإسلام؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "بُني الإسلام على خمس"، وذكر منها: "حج البيت" رواه مسلم.

وقد قال الله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم" رواه مسلم.

الحج أمره عظيم، ومن فرط فيه مع القدرة عليه فهو على خطر، حتى قال بعض العلماء: إنه كافر. وبهذا قال بعض الصحابة –رضي الله عنهم-، قال فاروق الإسلام عمر: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة –أي: غنى- ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين". وقال علي –رضي الله عنه-: "من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا".

بادروا إلى الحج، ولا يقل أحدكم إني شاب، فكم تخطفت المنايا من شباب! بادروا إلى الحج ما دام أحدكم صحيحًا معافى، فكم من شاب صحيح معافى بالأمس هو اليوم على كرسي المرض أو على في فراشه.

يا أهل الأربعين، يا أهل الخمسين، لماذا أخرتم الحج؟ لماذا لم تحجوا إلى الآن وأنتم تنفقون الأموال لأجل الدنيا بلا حساب؟! وأنتم تسافرون كل عام إلى بلاد بعيدة، تنفقون الأموال وتتعبون الأجساد لأجل المتع واللذات، ما عذركم غدًا بين يدي الله إذا متم ولم تحجوا؟ حولوا المسار، حولوا المسار، حولوا المسار، واقصدوا خير الديار، قبل انقطاع الأعمار، واحذروا أن تكونوا من المحرومين؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله يقول: إن عبدًا صححت له في جسمه وأوسعت له في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يقصد إلي محروم".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا معاشر المسلمين، وإذا كان الحج الركن الخامس من أركان الإسلام فإن الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، وأنتم اليوم في وقت طابت فيه الثمار، فاحرصوا -رحمكم الله- على أداء زكاة الحبوب والثمار؛ امتثالًا لأمر الله -تعالى-: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام:141].

ومن الثمار التي يجنيها الناس اليوم، ويجب أن يؤدوا زكاتها: التمر والعنب، فهذه تزكى بإجماع العلماء، وكثير من الناس يكون عنده نخل أو عنب في بيته أو بستانه قد بلغت النصاب ولا يؤدي زكاتها، وهذا أمر خطير، فالزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، وقد قاتل الصديق من منع الزكاة؛ لأنها حق المال.

فاحرصوا على زكاة الحبوب والثمار، ولا يقل أحدكم: إني أعطي من تمري أو عنبي وأتصدق ولا آكل إلا القليل؛ فهذا لا تبرأ به الذمة، فالزكاة لها مقدار معلوم، ويجب أن تدفع بنية الزكاة، وأن تعطى للمستحقين، وهذا مما يفرط فيه كثيرون إذا دفعوا زكاة مال أو ثمار أو غيرها، فلا يحسبون الواجب عليهم كما أمر الله ورسوله، بل يعطون بالظنة، وبعضهم يحسب المقدار الواجب حسابًا دقيقًا، لكنه لا يحرص على إيصال الزكاة إلى مستحقيها، فيعطي الزكاة أقاربه أو أصدقاءه، مع أن الزكاة لا تحل لهم، وهذا ما كأنه زكى، فالزكاة ليست معروفًا منك تجود به على من شئت، بل لأشخاص وجهات محددة شرعًا؛ لذا تولى الله توزيعها في كتابه بنفسه، فقال -جل وعلا-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60].

فما عاد لأحد أن يجتهد في دفعها لغير هؤلاء أو يفرط في إعطائها من لا يستحقها، فأدوها إلى المستحقين، واسألوا العلماء وطلاب العلم عن الأشياء التي تجب فيها الزكاة، وعن مقدار الواجب فيها شرعًا، فأنتم أمام فريضة عظيمة من فرائض الإسلام، ولا تبخلوا بدفعها ترجون الزيادة، فإن الزيادة تكون بدفعها والنقص يكون بالبخل بها، بهذا جاء الكتاب والسنة. قال الله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ:39]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما نقصت صدقة من مال"، فمن أنفق بارك الله له وأخلف عليه خيرًا، ومن بخل فإنما يبخل عن نفسه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].

عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالًا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي