هذه القصة التي تكررت أحداثها ومشاهدها في القرآن العظيم في سور عديدة من كتاب الله -عز وجل-، فهي بحق قصة جديرة بالتأمل وأخذ المواعظ والدروس والعبر منها، وبخاصة في هذا العصر الذي يشهد...
الحمد لله الولي الحميد، أظهر دينه، وأتم نعمته، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- وأطيعوه، وتزودوا في سفركم إلى الدار الآخرة بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، فما قدم العباد على ربهم بتجارة أنفع من الطاعات، ولا زاد أحسن من القربات، وما استعد لظلمة القبور، وضيق اللحود بمثل الإكثار من الأعمال الصالحات، والمسارعة إلى الخيرات.
جعلني الله وإياكم ممن لم تزده الأيام إلا قربا من مولاه، وبعدا عن معاصيه.
ولن تنال الخيرات إلا بطاعة الله -عز وجل-، والاستقامة على دينه وشرعه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96] وأما المعاصي والمنكرات والمجاهرة بها، فليس وراءها إلا مقت الله وعذابه ونكاله: (وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
أسأل الله -عز وجل- أن يمنحنا تقوى تحجزنا عن مخالفة أمره، وتمنعنا عن معارضة شرعه، إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة المسلمون: في شهر الله المحرم يتذكر المسلمون قصة عظيمة من قصص القرآن الكريم مثلت أحداثها ومشاهدها جانبا من الصراع بين الحق والباطل؛ إنه قصة نبي الله وكليمه موسى -عليه السلام- مع فرعون المستبد الطاغية.
هذه القصة التي تكررت أحداثها ومشاهدها في القرآن العظيم في سور عديدة من كتاب الله -عز وجل-، فهي بحق قصة جديرة بالتأمل وأخذ المواعظ والدروس والعبر منها، وبخاصة في هذا العصر الذي يشهد صراعا مريرا بين الحق وأهله والباطل وجنده في أماكن عديدة من عالمنا اليوم.
ولعلنا نلم بشيء من الدروس المستفادة من قصة نبي الله موسى -عليه السلام-.
إن من أعظم ما تدل عليه أحداث القصة، بل هو المحور الرئيسي لها في كل مشاهدها: الغاية التي من أجلها بعث الله الأنبياء والمرسلين إلى أقوامهم.
لقد بعث الله موسى -عليه السلام- إلى فرعون وقومه لدعوتهم إلى عبادة الله وحده، وأنه سبحانه المستحق؛ لأن يعبد وحده، ويطاع وحده، ويعظم وحده؛ لأن الخالق المالك للكون كله، المدبر لشؤونه، القائم عليه سبحانه وتعالى، وكل من ادعى الربوبية أو الإلوهية فقد نازع الله أعظم منازعة في أهم خصائص الله وحقوقه -جل وعلا-.
لقد كان ادعاء فرعون للربوبية أعظم منكر، وكان اعتقاد قومه فيه بأنه ربهم أعظم منكر كذلك فأرسل الله إليهم موسى -عليه السلام- لبيان ضلالهم العظيم، وانحرافهم وعظيم افترائهم، ودعوتهم إلى الحق المتمثل في الإيمان بالله ربا وخالقا ومدبرا للكون كله ومعبودا وحده لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره وإلوهيته وعبادته: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء: 23 - 29].
فما كان من فرعون إلا أن سخر واستهزأ بكلام موسى -عليه السلام-، وقال بكل تبجح وغطرسة وكبر: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38].
لقد كان من كبرياء فرعون وطغيانه واستبداده استعباده لبني إسرائيل يقتل الرجال ويستحيي النساء: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4].
فأرسل الله موسى -عليه السلام- لينقذ بني إسرائيل من حياة الذل والهوان، من استعباد فرعون واستبداده وتخليصهم من جبروت فرعون وإذلاله، وهكذا أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- ابتعثهم الله لتحقيق عبادة الله وحده، وأنه ليس هناك أحد مهما عظم ملكه، وقويت سطوته، واشتد جبروته، يستحق أن يستعبد الناس ويذلهم، ويأمرهم بطاعته وعبادته.
لقد كان الكبر الذي ملئ على فرعون جوارحه وشغاف قلبه، لقد كان الكبر أعظم سبب لصد فرعون عن الحق، وأعظم باعث لكفره وفجوره وظلمه وطغيانه: (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 51 - 52].
وهكذا ما ابتلي أحد بداء الكبر والغطرسة وجنون العظمة إلا منعه ذلك من قبول الحق وإتباعه والانقياد له.
لقد أنعم الله على فرعون ووزرائه كقارون وهامان بالمال الوفير، والثراء العظيم، لكن ذلك لم يقدهم إلا إلى الطغيان والأشر والكبر والغرور، والصد عن الحق، وعدم الانقياد له؛ فها هو فرعون يخاطب وزيره: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) [غافر: 36 - 37] يقول هذا ساخرا مستهزئًا متكبرا متجبرا: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) [غافر: 36 - 37].
إن المال والغنى والثراء إذا لم تقد صاحبها لشكر المنعم -جل وعلا-، والاعتراف بفضله، والقيام بحقه فيما ائتمن المكلف عليه، صار المال والثروة وبالاً على صاحبه، ومدعاة للتمرد والتكبر: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6 - 7].
في قصة موسى -عليه السلام-: بيان لحقيقة مهمة ينبغي ألا تغيب عن المسلم دائما، وهي: أن الله -جل وعلا- إذا أراد كونا وقدرا شيئا من الأشياء هيأ له من الأسباب المادية ما من خلالها يقع، ولم تستطع أي قوة على وجه الأرض مهما عظمت أن تمنع وقوع ما قدر الله وقضى.
لقد دبر فرعون وخطط من أجل الحيلولة دون خروج من بني إسرائيل يكون زوال ملكه على يديه حتى قتل من ذكور بني إسرائيل من قتل، ولم يكن ذلك مانعا من خروج موسى -عليه السلام-، بل كان من عظيم قدر الله أن يتربى موسى -عليه السلام- في كلف فرعون، ويعيش في قصره، ويشب تحت ناظره، حكمة عظيمة للمولى -جل وعلا وعز- بأن ما قدره وقضاه واقع لا محالة، ولا تستطيع أي قوة بشرية مهما عظمت أن تحول دون وقوعه.
وفي قصة موسى مع فرعون: مظاهر عظيمة من حلم الله -عز وجل-، فهاهو فرعون ينازع الله في ربوبيته وإلوهيته، ويستعبد الخلق بدعوى الربوبية، فيحلم الله ويمهله، ويرسل الله له موسى بالآيات العظيمة، والبراهين القوية، والحجج الساطعة، مع علم الله -عز وجل- بكفر فرعون، وعدم قبوله للحق، لكن حتى يظهر ذلك للخلق، وتقام الحجة على فرعون ومن معه، بل يأمر الله -جل وعلا- موسى وأخاه هارون أن يذهبا إلى فرعون، ويتلطف في القول، ويستعين باللين والرفق في مخاطبة فرعون مدعي الربوبية: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44] وفي هذا درس للدعاة والمصلحين بانتهاج أسلوب الرفق واللين مع المخالفين والمعاندين مهما كانت مخالفتهم.
لقد كانت الآيات التي جاء بها موسى -عليه السلام- من ربه -عز وجل- من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى، وأن ما قاله حق لا مرية فيه، آيات بينات، وحجج ساطعات، لكن فرعون وقارون وهامان أعماهم ما أنعم الله به عليهم من الملك والوزارة والمال، فلم ينقادوا للحق، ولم يستجيبوا له، ولم تزدهم تلك الآيات والمواعظ إلا صدودا وإعراضا وسخرية من موسى -عليه السلام-، وتهديدا ووعيدا لكل من آمن به بالسجن والقتل.
أما أصحاب النفوس التي لم تتعلق بالملك والوزارة والمال فلم يملكوا بعد سماع الآيات، ومشاهدة الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة الدالة على صدق موسى، وأن ما جاء به الحق، بل دلت على كذب فرعون في ادعائه الربوبية ما كان منهم إلا أن آمنوا وأذعنوا، ولم يبالوا بما كان يمنحهم فرعون من الأوسمة، ويغدق عليهم من العطايا والأموال: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [طه: 70 - 71].
لكن سحرة فرعون -رحمهم الله- ضحوا بذلك كله، وتحملوا الأذى والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من أجل إيمانهم بالله -عز وجل-: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 72 - 73] الله خير مما عندك، الله خير من ملكك، الله خير من مالك وأعطياتك، الله خير وأبقى.
لكن ذلك كله لم يزد فرعون إلا طغيانا واستكبارا، ومزيد استبداد وظلم وقلب للحقائق، فهو المصلح، وموسى -عليه السلام- مفسد، وهو الذي يريد الخير لهم، وموسى لا يريد سوى الشر بهم، بل ويحملهم هذا المستبد فرعون على أن يروا رأيه ويأخذوا بقوله، ولا يلتفتوا إلى غيره مما يقوله موسى، أو ممن آمن بموسى، حتى ولو كان من غير بني إسرائيل، حتى ولو جاءهم بالحق والصواب، ففي الوقت الذي يخوفهم الرجل المؤمن من عذاب الله ونكاله وبأسه وأليم عقابه، إن هم استمروا على طغيانهم وتمردهم وكفرهم بموسى، وردهم للحق الذي جاء به، ودعا إليه، يرفع فرعون صوته قائلا لهم بكل كبر وغرور: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29].
ولهذا كان الاستبداد في الرأي أعظم مرض تصاب به المجتمعات يوم يتولى التفكير عن الأمة كلها رجل واحد، فرأيه هو الصواب، ورأي غيره الخطأ، وقوله الحق وقول غيره الباطل.
ولهذا كان من مقاصد بعثة موسى -عليه السلام-: تحرير بني إسرائيل من استعباد فرعون: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 5].
ورحم الله ربيعي بن عامر لما وصف حقيقة ما بعث به محمد -صلى الله عليه وسلم- للناس أمام قائد الفرس رستم، فلما قال له: ما الذي جاء بكم؟ فأجابه ربيعي بن عامر بكل ثقة واطمئنان وعزة: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؟، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
ولهذا سادوا وحصل لهم العز والتمكين، ونقلوا رسالة الإسلام التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد إلى العالم كله.
فنسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه الذي نجا موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه نسأله سبحانه وتعالى أن يعلي دينه، وأن يظهر كلمته، وأن ينصر كتابه وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وعباده الصالحين إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ذو القوة والجبروت، له الملك وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه في جميع ما تأتون وتذورن، ففي طاعته سبحانه وتعالى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
جعلني الله وإياكم من أهل طاعته ومحبته وولايته إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة في الله: يستمر موسى -عليه السلام- في دعوته بكل ثبات وعزيمة، ولا تييئسه حالات الصدود والإعراض من فرعون وقومه، ولا تثني من عزيمته التخويفات والتهديدات بالسجن والقتل من فرعون، حتى إذا أراد الله تحقيق وعده أمر الله -عز وجل- موسى ومن آمن معه بالخروج من مصر باتجاه البحر، فخرجوا خفية، فلما علم فرعون بخروجهم عزم على ملاحقتهم لقتلهم، فسير جيشا عظيما كان هو على مقدمته، وانطلقوا في إثر موسى والمؤمنين به، فالتفت قوم موسى إليهم فإذا فرعون وقومه ورائهم يعدون للحاق بهم، فأيقن قوم موسى حينئذ بالهلاك لا محالة، فالبحر أمامهم، وفرعون وجنده خلفهم، فقالوا لموسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61] فما كان من موسى نبي الله وكليمه الواثق بربه وبنصره إلا أن قال لهم: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
إنها ثقة المؤمن بربه مهما اشتدت الأمور، وعظمت الخطوب، مهما ضاقت الأمور، وتعثرت واشتدت الكروب والبلاء؛ فإن المؤمن الواثق بربه لا ييأس من فرج الله ورحمته: (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) [الشعراء: 61 - 67].
فتجمد الماء في البحر كالجبال، وصار بينها طرق عبر موسى ومن معه البحر، فلما عبروا إلى الضفة الأخرى لحقهم فرعون وقومه، فلما استووا جميعهم في منتصف اليم؛ أطبق الله عليهم البحر فأغرقهم عن بكرة أبيهم.
آية عظيمة من آيات الله، وعبرة بليغة، حينها لما أيقن بالهلاك شعر بالندم على عصيان موسى، وعدم اتباعه للحق، وأخذه بنصيحة الناصحين، ولكن أن ينفع الندم وقد وقع ما قدر الله وقضاه.
وكم هي الحسرة والندامة مؤلمة يوم تكون في الوقت الضائع، لقد كان في إمكان فرعون أن يستجيب لموسى، وينصاع للحق، وينقاد للهدى، ويجيب صوت الحق، لما قال الرجل المؤمن لفرعون وقومه: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا) [غافر: 29] من ينصرنا من عذاب الله إذ حل بنا؟ إذ أعرضنا عن طاعته؟ إن لم نتبع رسوله؟ إذا تنكبنا الصراط المستقيم ولم نستمع لوعظ الواعظين، ونصح الناصحين، وأمر الآمرين، وإنكار المنكرين: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 90 - 92].
فكان في هلاك فرعون أعظم آية لكل طاغية على وجه الأرض يتمرد على دين الله وشرعه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا ملك فرعون نفعه، ولا ظلمه وطغيانه نفعه، ولا ماله وقصوره وأنهاره التي تجري من تحته نفعته، ولا حشمه ولا خدمه، كل ذلك ذهب أدراج الرياح، ولم يكن مانعا من حلول العذاب بفرعون لما أراد الله وقوعه.
لكن (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101] إننا ننتظر مصيرا أسود لطاغية الشام واليمن، وغيرهم من طواغيت الأرض الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقتلوا الدم الحرام: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم: 20].
لقد كان اليوم العاشر من محرم اليوم الذي نجا الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه، يوما مشهودا من أيام الله -عز وجل-، ونعمة عظيمة أنعم الله -عز وجل- بها على موسى ومن معه، فصام موسى -عليه السلام- يوم عاشوراء، يوم العاشر من محرم صامه، وصامه قومه معه شكرا لله -عز وجل-.
ولما قدم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر، فسألهم عن سبب صيامهم اليوم العاشر من محرم، فقالوا: ذلك يوم نجا الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى ونحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، وأمرهم بمخالفة اليهود بصيام يوم قبل اليوم العاشر أو يوم بعده، وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن حييت إلى قابل لأصمن التاسع مع العاشر".
وأخبر أن صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية.
فاحرصوا -رحمكم الله- على الاقتداء بنبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- في صيام اليوم العاشر من محرم القادم، وصوموا يوما قبله أو يوما بعده، وإن صمت الأيام الثلاثة فلا حرج، فإن شهر الله المحرم من الأشهر التي يستحب فيها الإكثار من الصيام.
نسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي