أحكام عدد النساء

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. معنى العدة .
  2. الحكمة من مشروعيتها .
  3. أقسامها .
  4. آداب وأحكام ومسائل تتعلق بالعدة .
  5. مسائل توجب الانتقال من قِسمِ عدةٍ لآخَر .

اقتباس

إن هذه الرابطة الوثيقة قد تتعرض إلى انفصامِ عُراها بطلاق الزوج أو موته، أو غيابه مدة طويلة لا يُدرى فيها أهو حي أم ميت، أو باختلاع المرأة أو فسخها لرابطة الزوجية، وحينما يحصل هذا الانفصام تنتج عنه أحكام وآداب في الإسلام، من أهمها: عدة المرأة عقب الفراق الاختياري أو غير الاختياري، فكان لا بد من تبيين هذا الحكم الشرعي العظيم؛ لما يترتب عليه من أحكام شرعية أخرى، ولعموم الحاجة إلى معرفته في الحياة الزوجية، ولجهل بعض الناس بعضَ مسائله المهمة.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: ما أحسن أن يكون المسلم ذا معرفة بدينه، ودراية بشريعة ربه، فيعلم الحلال والحرام والمباحات والمحظورات في أبواب العبادات، وفي أبواب المعاملات؛ حتى يعبد الله -تعالى- على علم وبصيرة، ويسلك طريق الحق على نور وهداية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيراً يفقهه" متفق عليه.

ألا وإن من أعظم مجالات الحياة التي نحتاج إلى تعلم أحكامها، ومعرفة شرع الله فيها، مجالَ الحياة الزوجية؛ لما لها من آثار كبيرة على الحياتين: الدينية والدنيوية، على الزوجين، وعلى الأولاد، وعلى الأسرة وعلى المجتمع؛ ولذلك ضبطتها الشريعة الإسلامية بأحكام وآداب منذ عقدها إلى حلها بالفرقة أو الموت.

إن هذه الرابطة الوثيقة قد تتعرض إلى انفصامِ عُراها بطلاق الزوج أو موته، أو غيابه مدة طويلة لا يُدرى فيها أهو حي أم ميت، أو باختلاع المرأة أو فسخها لرابطة الزوجية، وحينما يحصل هذا الانفصام تنتج عنه أحكام وآداب في الإسلام، من أهمها: عدة المرأة عقب الفراق الاختياري أو غير الاختياري، فكان لا بد من تبيين هذا الحكم الشرعي العظيم؛ لما يترتب عليه من أحكام شرعية أخرى، ولعموم الحاجة إلى معرفته في الحياة الزوجية، ولجهل بعض الناس بعضَ مسائله المهمة.

عباد الله: إن العدة معناها: مدة واجبة حددها الشارع الحكيم عقب الفراق الزوجي، تبقى فيها المرأة بدون زواج حتى تنقضي تلك المدة.

وقد شرع الإسلام هذا الحكم الشرعي للمرأة لحكم كثيرة، منها: معرفة براءة رحمها؛ حفظًا للأنساب، ومنعًا من اختلاط المياه، ومراعاة لمشاعرها بفراق زوجها، وإظهارَ عظمِ التفجع بحل هذه الرابطة المقدسة، وغير ذلك من الحِكم.

ويجب على المرأة أن تمكث هذه المدة التي وجبت عليها بقدرها المحدد شرعًا؛ طاعة لله -تعالى-، فإن لم تفعل فقد خالفت ما أمرها الله -تعالى- به، وترتب على المخالفة بطلان بعض الأحكام، كالزواج أثناء العدة.

أيها المسلمون: إن عدة المرأة التي أوجبها الشرع عليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عدة بالأقراء، وهي جمع قُرْء، والمراد بالقرء: الحيض، على القول الرَّاجِح من قولي العلماء، قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": لفظ القُرْء لم يستعمل في كلام الشَّارِع إلا للحيض، ولم يَجِئ عنه في موضع واحد استعمالُه للطُّهْر"، والقسم الثاني: عدة بالأشهر، والقسم الثالث: عدة بوضع الحمل لمن كانت حاملاً.

وتحت القسمين الأولينِ أنواع من العِدد. فممن تعتد بالأقراء: المطلّقة إن لم تكن حاملاً، فإذا طلقت المرأة طلاقًا رجعيًا، أو طلاقًا بائنًا؛ فإن عدتها ثلاث حيضات كاملات تتمهن حتى تخرج بذلك من العدة، قال -تعالى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) [البقرة:228].

ومن حكم إيجاب العدة على المطلقة البائن: معرفة خلوّ الرحم من الحمل، ومن حكم العدة على المطلقة رجعيًا: إعطاء فرصة زمنية للزوجين للمراجعة بعد أن تذهب عنهما ثورة الغضب، ويحصل التفكير العميق بعواقب الفراق، ومصالح عودة الزوجية.

فإذا طلقت المرأة وهي حائض -على القول بوقوع الطلاق أثناء الحيض- فإن بقية تلك الحيضة لا تحسب من العدة، بل تستأنف المطلقة ثلاث حيضات بعدها، وإن طلقها في حال طهرها فتنقضي عدتها بثلاث حيضات آتية.

ومن المسائل المهمة في معرفة العدة: أن من طلق زوجته ولم تعلم بالطلاق إلا بعد مدة فإن عدتها تبدأ من تاريخ إيقاع الطلاق، وليس من تاريخ وصول الخبر إليها بذلك.

أيها الأحبة الكرام: إذا حصل الطلاق وبدأت المرأة بالعدة فإن هناك آدابًا وأحكامًا أثناء العدة، منها:

أولاً: تحريم الزواج، فلا يجوز نكاح المعتدة حتى تنقضي عدتها؛ لقوله -تعالى-: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) [البقرة:235].

ثانيًا: يحرم التصريح بالخطبة لجميع المعتدات من وفاة أو طلاق، أما التعريض بالخطبة، وهو الكلام الذي تفهم منه الرغبة في نكاح المعتدة من غير تصريح كأن يقول: عندي رغبة في الزواج ولعل الله أن يهيئ لي امرأة صالحة، فالتعريض بالخطبة يُحَرَّمُ إن كان الطلاق رجعيًا؛ إذ قد تكذب المرأة في ادعاء انقضاء عدتها رغبة في الخاطب، كما أن فيه تفويتًا لمراجعة الزوج المطلق وهو أحق من غيره بردها، قال -تعالى-: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) [البقرة:228].

فإن عقد عليها الخاطب الجديد في العدة فالنكاح باطل، ويلزم أن يفرق بينهما بدون طلاق؛ لأن النكاح باطل، فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب.

وإن كان الطلاق بائنًا فيجوز التعريض بالخطبة أثناء العدة على قول الجمهور، كما أنه يجوز التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها بالاتفاق؛ لانتهاء عقد الزوجية بالوفاة، قال -تعالى-: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) [البقرة:235].

قال ابن كثير -رحمه الله- في التعريض: يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: "فإذا حللت فآذنيني"، فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزوجها إياه. فأما المطلقة الرجعية فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم. انتهى كلامه، رحمه الله.

ثالثًا: يجب على المعتدة أن تكون صادقة في انتهاء عدتها، وبيان ما في رحمها من حيض أو جنين، وهذا من الإيمان بالله واليوم الآخر، فلا تقل: إن عدتها قد انتهت ولم تنته بعد؛ حرصًا منها على الزواج، ولا يجوز لها أن تخفي حملها ولا أن تجهضه إن كان حمل، قال -تعالى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة:228].

رابعًا: على المعتدة من طلاق رجعي لزوم بيت زوجها حتى تنتهي عدتها؛ ليكون ذلك أدعى للمراجعة وإصلاح ذات بينهما، ولها أن تكلمه وتتزين له، وتظهر أمامه؛ لأنه مازال زوجها؛ لقوله -تعالى-: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق:1]، على خلاف ما يحصل اليوم من ذهاب النساء إلى بيوت أهلهن في الطلاق الرجعي.

خامسًا: على المطلقة -رجعيًا أو بائنًا- لزوم بيت العدة، ولكن يجوز لها الخروج من المنزل نهاراً لقضاء حوائجها، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: طُلِقتْ خالتي، فأرادت أن تجدَّ نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "بلى، جدّي نخلك؛ فإنك عسى أن تَصدّقي، أو تفعلي معروفاً" رواه مسلم.

سادسًا: ليس على المطلقة -رجعيًا أو بائنًا- إحداد كالمتوفى عنها زوجها، بل يجوز لها أن تتجمل، وتلبس ما شاءت من اللباس المباح.

وهذه الأحكام والآداب تتعلق بالمرأة إذا طلقت بعد الدخول بها، أما إذا عقد عليها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها فلا عدة عليها؛ لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب:49].

عباد الله: وممن تعتد بالأقراءِ المرأةُ التي خالعت زوجها، فقد تضيق الحياة الزوجية على زوجة ما في عصمة رجل لا تحبه، أو لا يؤدي إليها حقوقها المشروعة، فيسيء عشرتها، ويأبى طلاقها، فجعل الله لها مخرجًا تخرج به من جحيم هذه الحياة، ألا وهو الخلع الذي معناه: مفارقة الزوجة لزوجها على عوض تدفعه له، سواء كان هذا العوض مثل مهرها، أم أكثر، أم أقل، قال -تعالى-: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة:229]، فإذا حصل الخلع بأي لفظ يدل على الفراق اعتدت المرأة بحيضة واحدة على الراجح؛ بدليل حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدتها حيضة" رواه أبو داود والنسائي وهو صحيح.

فإذا حاضت بعد الخُلع ثم طهرت فقد انقضت عدّتها، وحلّ لها الزواج، كما يحل لزوجها كذلك أن يتزوجها بعقد جديد ولو في أثناء العدة برضاها، وترجع إليه بما تبقى من الطلاق إن كان هناك طلاق، ولا يحسب الخلع من الطلاق، بل هو فسخ على القول الراجح، وعلى من يكتب ورقة الخلع أن لا يقول: طلق زوجته على عوض قدره كذا وكذا، بل يقول: خالع زوجته، كما قال ذلك بعض العلماء.

معشر المسلمين: وممن تعتد بالأقراء: المرأة الموطوءة بشبهة، كأن تزف إليه امرأة غير زوجته فواقعها ولم يدرِ أنها غير زوجته، فيجب عليها حينئذ أن تعتد ثلاثة قروء؛ كيلا تختلط الأنساب. أما المرأة المزني بها برضاها أو باغتصابها فقد ورد عن أبي بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- أنه لا عدة عليها ولا استبراء، إلا إذا كانت حاملاً فبوضع الحمل، ولا يصح العقد عليها حتى تضع حملها.

وممن تعتد بالأقراء كذلك: المرأة غير المسلمة من أهل ذمة إذا طلقها زوجها المسلم فإنها تعتد كما تعتد المسلمة بثلاثة قروء؛ لعموم الأدلة الآمرة بالعدة؛ لأن العدة تجب حقاً لله -تعالى-، ولحق الزوج.

أيها المسلمون: وأما القسم الثاني من أقسام المعتدات فهن اللاتي تكون عدتهن بالأشهر، فممن تعتد بالأشهر عند الطلاق: المرأة الآيسة، وهي التي انقطع عنها الحيض لكبر سنها، والمرأة الصغيرة، وهي التي لم تر الحيض وهي مطيقة للوطء؛ فالآيسة والصغيرة متى طلقتا فإن كل واحدة منهما تعتد ثلاثة أشهر؛ لقوله -تعالى-: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق:4].

وممن تعتد بالأشهر كذلك: المرأة المتوفى عنها زوجها وليست من ذوات الحمل، وقد كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها أقامت في مكان سيء، ولبست شر ثيابها، ولا تقرب ماء ولا زينة، وتمنع من الزواج كل ذلك سنة كاملة، فلما جاء الإسلام رفع عنها هذه المشقة، وجعل عدتها سنة في أول الأمر، من غير تلك الأعمال الجاهلية السابقة، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:240]، ثم خفف الله عنها عدتها -واستقر الأمر على ذلك- من سنة إلى أربعة أشهر قمرية -يعني هجرية- وعشرِ ليال، مع وجوب الإحداد ولزوم البيت، فنُسخت الآية السابقة بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:234].

وتجب هذه العدة على المتوفى عنها زوجها، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخول بها، وسواء أكانت ممن تحيض أم ممن لا تحيض.

وتبدأ عدة المتوفى عنها زوجها من تاريخ الوفاة لا من بلوغ الخبر، فإن مات زوجها وهو غائب عنها فإن عدتها تبدأ من حين الموت، فإن لم تعلم بالموت إلا بعد مضي أربعة أشهر وعشر ليال فقد انقضت عدتها، فإن علمت قبل انقضاء عدتها كشهر أو شهرين أتمت ما تبقى من العدة من حين الموت، فإن بلغها خبر وفاته ولم تدرِ تاريخ الوفاة ابتدأت العدة من بلوغ الخبر.

عباد الله: وعلى المعتدة من وفاة أن تلزم بيت الزوجية فتعتد فيه، ولا تنتقل عنه إلى غيره لتعتد فيه، إلا إذا خافت على نفسها، أو ليس عندها إيجاره إذا كان البيت بالإيجار، أو وجد في بيت الزوجية ما لم يتيسر معه البقاء، ولا تخرج عن بيت العدة ليلاً إلا لضرورة، ولا نهاراً إلا لحاجة، كأن تكون مريضة أو طالبة أو موظفة، أو تشتري لها طعامًا أو شرابًا أو دواء وليس لها من يقوم بذلك.

وعليها أن تحد على زوجها في بيت العدة بتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، وأن تترك الحلي بجميع أنواعه، والأصباغ المزينة للوجه والبدن، ولها أن تلبس ما شاءت من الثياب غير ثياب الزينة من أي لون كانت، ولا تتقيد بلون معين كالأسود.

وممن تعتد بالأشهر -أيضًا- المرأة إذا انقطع حيضها وهي من ذوات الحيض، ولم تصل إلى سن اليأس، فإذا طلقها زوجها فإنها تعتد سنة كاملة اثني عشر شهراً، تسعة أشهر احتياطًا من وجود حمل، وثلاثة أشهر عدة الآيسة، وهذا قضاء عُمَر -رضي الله عنه- بين المهاجرين والأنصار من غير إنكار منهم على ذلك، وهذا في حال عدم علمها بسبب انقطاع حيضها، أما إذا علمت سبب انقطاع حيضها وكان يمكن زوال ذلك المانع كمرض أو رضاع أو استعمال دواء فإنها تنظر: فإن عاد الدم اعتدت بالأقراء، وإن لم يعد الدم اعتدت سنة كاملة، وهناك من العلماء من ألحقها بالآيسة والصغيرة فتعتد ثلاثة أشهر فقط، خاصة مع وجود الأجهزة الحديثة التي تبين وجود الحمل من عدمه.

وممن تعتد بالأشهر: المستحاضة، وهي المرأة التي يسيل دمها في غير أوقاته المعتادة بسبب مرض أو غيره، فإذا طلقت المستحاضة وكانت تستطيع أن تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فإنها تعتد بالأقراء؛ لعموم الأدلة كقوله -تعالى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228]، أما إذا لم تستطع التمييز بين الدمين، أو نسيت قدر عادتها فإنها تعتد ثلاثة أشهر؛ بناء على أن الغالب نزول الحيض مرة في كل شهر، أو لاشتمال كل شهر على طهر وحيض غالبًا، ولعظم مشقة الانتظار إلى سن اليأس، ولأنها في هذه الحالة مرتابة، فدخلت في قوله -تعالى-: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق:4].

أيها المسلمون: وممن تعتد بالأشهر: المرأة المفقود زوجها، والمفقود: هو الغائب الذي لم يُدْر: أحي هو فيتوقع قدومه، أم ميت أودع القبر، وقد بحث عنه بالطرق الممكنة فلم يعرف له خبر، فزوجةُ مَن هذه حالُه إذا أرادت الزواج فإنها تنتظر أربع سنين منذ فقده، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لما روي عن عمر -رضي الله عنه-: "أن رجلاً غاب عن امرأته، وفقد، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: تربصي أربع سنين، ففعلت، ثم أتته، فقال: تربصي أربعة أشهر وعشراً، ففعلت، ثم أتته فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاؤوا به، فقال: طلِّقْها، ففعل، فقال عمر: تزوجي من شئت" رواه الدارقطني وغيره.

فإن جاء زوجها بعد ذلك فهو بالخيار: إن شاء أخذ زوجته بالعقد الأول، وإن شاء أخذ مهرها، وبقيت على نكاح الثاني، فإن اختار المرأة وجب عليها أن تعتد من الثاني قبل أن يطأها الأول، وإن اختار تركها فإن على الزوج الثاني أن يدفع للزوج الأول ما دفعه من المهر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: أيها المسلمون، بقي من أقسام المعتدات القسم الأخير وهو الاعتداد بوضع الحمل، فمن فارقها زوجها بموت أو طلاق أو غياب أو فسخ أو خلع وهي حامل، سواء كان الحمل في أوله أم في آخره؛ فإن عدتها بوضع حملها، قال -تعالى-: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:4]. وهذا حكم عام في كل حامل، فمتى ولدت فقد خرجت من عدتها، ولو بعد الفراق بيوم، فإذا طهرت من دمها حل لها الزواج، ففي الصحيحين عن سبيعة الأسلمية -رضي الله عنها- أنها حينما تُوفي زوجها وأُنكر عليها تجملُّها سألت رسول الله عن ذلك، قالت: "فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي".

أيها الإخوة الفضلاء: هذه أحكام العدة بالأقراء والأشهر ووضع الحمل، لكن قد يحصل تحول للعدة في -بعض الأحوال- من الأقراء إلى الأشهر أو وضع الحمل، ومن الأشهر إلى الأقراء، فإذا كانت المطلقة قد بدأت العدة بالأقراء فظهر حملها من زوجها المطلق فإنها تنتقل إلى العدة بوضع الحمل، وإذا طلقت المرأة التي كانت تحيض، فحاضت مرة أو مرتين، ثم أيست، انتقلت عدتها من الحيض إلى الأشهر، وإذا طلق الرجل زوجته وهي من ذوات الحيض، ثم مات وهي في العدة فينظر: إن كان الطلاق رجعيًا فعليها أن تعتد عدة وفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وتبطِل ما مضى من عدتها بالأقراء؛ لأن الرجعية ما زالت زوجة؛ ولذلك يثبت التوارث بينهما إذا مات أحدهما أثناء العدة، وإن كان الطلاق بائنًا فإنها لا تتحول عدتها؛ لأن البائن لم تعد زوجة.

وإذا كانت المطلقة قد شرعت في العدة بالأشهر؛ لكونها صغيرة، أو آيسة ثم حاضت أثناء العدة؛ فإنه يلزمها الانتقال من العدة بالأشهر إلى العدة بالأقراء.

هذا وصلوا وسلموا على الهادي البشير...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي