الصدق خلق عظيم من أخلاق الأنبياء, ومن أهم أخلاق المسلم وصفات الداعية إلى الله تعالى, وهو الأساس الذي قام عليه هذا الدين العظيم, وهو ما عرف به عليه -الصلاة والسلام- في مكة, فما كان يُعرف حينئذ إلا بالصادق الأمين, وهو أيضاً ما يُعرف به الأنبياء والمرسلون -عليهم السلام-, وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه ووصفهم بالصدق...
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء خبراً، أحمده -سبحانه- وأشكره، نعمه علينا تترى، أسبل علينا من رحمته ستراً، وأفرغ علينا بفضله صبراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خُص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء:227].
عباد الله: مما لاشك فيه أن أعظم زينة يتزين بها المرء في حياته بعد الإيمان هي زينة الصدق، فالصدق أساس الإيمان كما أن الكذب أساس النفاق، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يدفع الآخر.
والصدق أشرف الفضائل النفسية، والمزايا الخُلقية؛ لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع؛ فهو زينة الحديث، ورمز الاستقامة والصلاح، وسبب النجاح والنجاة.
والصدق هو الطريق الأقوم, الذي به تميز أهل الإيمان عن أهل النفاق، وسكان الجنان من سكان النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضِع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أزاله وصرعه، وهو روح الأعمال ولبها.
ومن أجل ذلك أرشدنا ربنا -سبحانه- إلى التمسك بهذا الخُلق الطيب في كتابه الكريم، وحث على التزام الصدق رسوله العظيم -صلوات الله عليه وسلامه-، في نصوص أكثر من أن تُعد في القرآن والسنة، فقد أمر ربنا في كتابه الكريم في أكثر من آية بالصدق، ومدح الصادقين، ووعدهم بالخير الكبير في الدنيا والآخرة؛ لذلك مجدته الشريعة الإسلامية، وحرّضت عليه، قرآنًا وسنة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] وهذا أمر بملازمة الصدق بعد الأمر بالتقوى.
وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق, فقال: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء: 80]. فهذه خمسة أشياء؛ مدخل الصدق, ومخرج الصدق, ولسان الصدق, وقدم الصدق, ومقعد الصدق. وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان بالله ولله، من الأقوال والأعمال والنيات، ومداخله -صلى الله عليه وسلم- ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته.
وأخبر ربنا -سبحانه- عن خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين, فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]، وبشر ربنا عباده الصالحين بأن لهم عنده قدم صدق, فقال -سبحانه-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2]. وكذلك أخبر الله -سبحانه- أن للصالحين من عباده مقعد صدق عند ربهم، فقال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54، 55] وهذا كله يشير إلى أهمية الصدق قولاً وعملاً وسلوكًا ومنهجًا في الحياة.
وقد أخبر ربنا -سبحانه- أنه لا ينفع العبد ولا ينجيه من عذابه يوم القيامة إلا الصدق, كما قال -سبحانه-: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة: 119].
وأثنى الله -جل وعلا- على الصادقين بأنهم هم المتقون أصحاب الجنة؛ جزاء لهم على صدقهم، فقال: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة: 177]، وقال -سبحانه-: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة: 119].
أيها الإخوة: الصدق خلق عظيم من أخلاق الأنبياء, ومن أهم أخلاق المسلم وصفات الداعية إلى الله تعالى, وهو الأساس الذي قام عليه هذا الدين العظيم, وهو ما عرف به عليه -الصلاة والسلام- في مكة, فما كان يُعرف حينئذ إلا بالصادق الأمين, وهو أيضاً ما يُعرف به الأنبياء والمرسلون -عليهم السلام-, وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه ووصفهم بالصدق فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم: 41]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم: 54]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم: 56].
كما أن الصدق علامة صادقة لأولياء الله المتقين، وحبل من حبال العصمة متين، وبرهان واضح لعباده الصالحين، وقد أضافه -سبحانه- إلى ذاته، فقال- جل ثناؤه وتقدست أسماؤه-: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام: 146]، وقال -سبحانه- وتعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122]، وقال -تبارك اسمه-: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [آل عمران: 95]. وقد أكثر ربنا في القرآن العظيم من المدح والثناء الجميل على الصادقين، حيث يقول –سبحانه وتعالى-: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه,)، ويقول -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
عباد الله: وقد قسم الله -سبحانه- الناس إلى صادق ومنافق, كما قال -سبحانه-: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 24] فالإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر.
وكذلك جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصدق أعلى درجات البر ومفتاحها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقًا..." [مسلم(2607)].
وفي صورة جميلة تبين لنا أهمية الصدق وكيف أنه يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، صح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" [مسلم(2831)].
والصدق يؤدي إلى الثقة والطمأنينة, والكذب يؤدي إلى الشك والريبة، فعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "دع ما يريبك إلي ما لا يريبك, فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة" [الترمذي (2518) وصححه الألباني] فالصادق لا يقع في ريبة ويكون حاسمًا واثقًا من كلامه لا يخالف الصدق, ويحذر من الكذب وأحوال الكذابين.
أيها الإخوة: وأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول -صلى الله عليه وسلم- مع كمال الإخلاص للمرسل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69، 70]. والصدّيقية مرتبة عالية من مراتب الولاية والقرب من الله -سبحانه- وتعالى, والصدِّيق كثير الصدق، الذي لم يصدر منه الكذب أصلاً، الذي صدق بقوله واعتقاده وأعماله، والصديقون قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ودرجتهم تلي درجة النبيين.
ورسول الإسلام محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- كان يلقّب بالصادق الأمين في مكّة كما هو معروف ومشهور، وصاحبه ورفيقه وأول خلفاءه على المسلمين من بعده هو أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-. قال جل وعلا: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33].
أيها الإخوة: والصدق: هو مطابقة القول للواقع، وهو الوفاء لله بالعمل، والقول بالحق في مواطن الهلكة، ويطلق الصدق على معان كثيرة: منها الصدق في القول، فلا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وينبغي للعبد أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه، فإن كان قلبه منصرفاً عن الله، مشغولاً بالدنيا، فهو كاذب.
ومنها الصدق في النية والإرادة، وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن فقد ذلك بطل صدق النية، ومنها الصدق في العزم والوفاء به كأن يقول: إن آتاني الله مالاً تصدقت به ونحوه، ومنها الصدق في الأعمال، وهو أن تستوي سريرته وعلانيته في جميع أعماله، ومنها الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء، والزهد والحب، والتوكل على الله ونحو ذلك.
وكل من عامل الله بالصدق استأنس به، واستوحش من الخلق، ومن علامات الصدق: كتمان الطاعات والمصائب جميعاً, وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، ومقام الصديقين مقام رفيع، ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراده، وليس وقفاً على أفراد، ولا على طائفة، فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله فله حظ في هذا المقام الرفيع: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [الحديد: 19].
ولا ريب أن الصدق خصلة محمودة، وسجية مرغوبة، تألفها الفطر السوية، وتدعو إليها الشرائع السماوية, فهو فضيلة قلما تتوفر في إنسان إلا ورفعته إلى أوج السعادة النفسية, وذروة الكمال الذاتي, ومنتهى مراقي الإنسانية، وأن الناس جبلوا على الاقتداء والتأسي، فإذا رأوا شخصاً تقياً ورعاً صادقاً انتهجوا مناهجه واقتفوا أثره.
والصادق مطلوبه رضا ربه، وتنفيذ أوامره، وتتبع محابّه، فهو متقلب فيها يسير معها حيث سارت، فبينما هو في صلاة، إذ رأيته في ذكر، ثم في غزو، ثم في حج، ثم في إحسان إلى الخلق، ثم في أمر بالمعروف، ثم في نهي عن منكر، أو في عيادة مريض، أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم, أو غير ذلك من القرب والطاعات وأعمال البر المختلفة.
والصدق سجية كريمة تدل على سلامة الفطرة للمتصف بها، وثقته بنفسه وبُعده عن التكلف والتصنع، وقد اعتبر الإسلام الصدق أساس كل الخير وأن الإسلام يؤكد على الصدق أكبر تأكيد ويحث الناس على ملازمته ولو كان مظنة لإضرار يسير. وأقل الصدق هو استواء السر والعلانية والصادق من صدق في اقواله والصدّيق من صدق في جميع اقواله وأفعاله وأحواله.
ومن درجات الصدق: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان، ولا يلتفت إلى ترفيه الرُّخَص، فهو لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه، ويقوم بعبوديته لا لعلة من علل الدنيا وشهواتها، ولا يرى نفسه إلا مقصراً قليل الزاد.
ومن درجات الصدق: الصدق في معرفة الصدق، فإن العبد إذا صدق الله رضي الله بعمله وحاله ويقينه؛ لأنه قد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، فرضي الله به عبداً، ورضي بأقواله وأعماله القائمة على الإخلاص والمتابعة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة: 7 - 8].
وفي الصدق طمأنينة، ومنجاة في الدنيا والآخرة، فتحروا الصدق -يا عباد الله- وإن رأيتم أن فيه الهَلَكَة، فإن فيه النجاة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا مع الصادقين, وأن يحشرنا معهم وأن يعصمنا من الكذب والزلل. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي جعل في سِيَر الصالحين عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وجعل في الصادقين منهم أسوة وقدوة للمقتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أجمعين.
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأصلحوا قلوبكم وأعمالكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة: عليكم بالصدق في كل مجالات الحياة، واعلموا أن للصدق مآثر رفيعة ومناقب جليلة، وأجورًا عظيمة؛ منها:
أن من ضرورات الحياة الاجتماعية، ومقوماتها الأصلية التي تقوم عليها: شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، وذلك لا يتحقق إلا بالتفاهم الصحيح، وتبادل الثقة. وبديهي أن اللسان هو أداة التفاهم، ومنطلق المعاني والأفكار، والترجمان المفسر عما يدور في خلد الناس، فهو يلعب دورًا خطيرًا في حياة المجتمع، وتجاوب مشاعره وأفكاره, وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه، فإن كان اللسان صادق اللهجة، أمينًا في ترجمة خوالج النفس وأغراضها، أدى رسالة التفاهم والتواثق، وكان رائد خير، وإن كان متصفًا بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة والإعراب، غدا رائد شر، ومدعاة تناكر وتباغض بين أفراد المجتمع.
من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحة، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة المجتمع, فهو نظام عقد المجتمع السعيد، ورمز خلقه الرفيع، ودليل استقامة أفراده ونبلهم، والباعث القوي على طيب السمعة، وحسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة والائتمان من الناس.
كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسمية والنفسية، فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم، ارتاحوا جميعًا من عناء المماكسة، وضياع الوقت الثمين في نشدان الواقع، وتأمل معي هذا الحديث فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" [البخاري (2079) ومسلم (1532)]. فالبركة في البيع والشراء مرتبطة بصدق البائع والمشتري وعدم كتمان العيب، والعكس بالعكس.
وإذا تواطأ أرباب الأعمال والوظائف على التزام الصدق، كان ذلك ضمانًا لصيانة حقوق الناس، واستتاب أمنهم ورخائهم، وإذا تحلى كافة الناس بالصدق، أحرزوا منافعه الجمة، ومغانمه الجليلة، وإذا شاع الكذب في المجتمع، وهت قيمه الأخلاقية، وساد التبرم والسخط بين أفراده، وعز فيه التفاهم والتعاون، وغدا عرضة للتبعثر والانهيار.
أيها الإخوة: إن أعظم ما في الصدق أنه يقود صاحبه إلى الجنة، وهذا هو الفوز، فعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه" [أبو داود (4800) وحسنه الألباني]، فهذا هو الرّبح الأوفر لأهل الصدق، وأي ربح أعظم من الجنة.
ومن ثمرات الصدق أنه يميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب" [البخاري(33)]. فالبصدق تعلو منزلتك عند خالقك ويشرف قدرك عند خلقه، وبالصدق يصفو بالك ويطيب عيشك.
عباد الله: من أجل ذلك كله كان الصدق من أهم المطالب في هذه الحياة، لذا فهو منجاة والطريق إليه صعب المنال، فلا يطيقه إلا أهل العزائم ولا يصبر عليه إلا أصحاب الهمم، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي, لا يطيقه إلا أصحاب العزائم, فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل".
فاصدق مع الله تعالى ترى كل خير واستحضر ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" [مسلم(1909)] فانظر؛ لما سأل الله وكان صادقا رفعه الله إلى رتبة الشهداء.
احذر الكذب مع الله فإذا كان الصدق مع الله تعالى بهذه المنزلة، فقد حذر الله عباده من ضد ذلك وبين سوء العاقبة لمن وقع فيه, حيث قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75 - 77].
إن الكذب رأس الرذائل، فبالكذب يتصدع بناء المجتمع، ويختل نظامه، ويسقط صاحبه من العيون، وتدور حوله الظنون، فلا يصدقونه في قول، ولا يثقون به في عمل، ولا يحبون له مجلسا، أحاديثه منبوذة، وشهادته مردودة, قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ) [ النحل 105 ].
قال ابن حبان -رحمه الله-: "الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن الصدق تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قبل كذبه، وصار صدقا عند من يسمعه؛ لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه، حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب".
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي