من الأدب في العلاقة الزوجية بل من العقل أن يعطي الزوجة مجالاً لتتحدث لماذا؟ لكي يعرف الزوج طريقة تفكيرها، ومن خلال ذلك يستطيع أن يتجه إلى المعالجة.. إن ذوي القلوب القوية العنيفة في الحياة الزوجية لن يغلبوا نساءهم بتلك القلوب! قد تسكن الزوجة أمام صاحب القلب العنيف والفض.. لكنها تعيش ألماً وضجيجاً، وقلقاً ينتشر على حياتك أيها الزوج، ومن ثَمَّ ينتقل أثره على أبنائك..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي يوم من أيام المدينة، العابقة بأنفاسه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ – رضي الله عنه- يَسْتَأْذِنُ يوماً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ، فلما استأذن أبو بكر أُذن له فَدَخَلَ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا بسبب الهَمُّ والكآبةُ التي غشته -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ عمر -رضي الله عنه-: "لأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النبي -صلى الله عليه وسلم-"!
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ - وهي زوجة عمر - سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ! فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا -أي ضربتها-! فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي - كَمَا تَرَى- يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ».
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلاَهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؟! فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لاَ نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) [الأحزاب: 28]حَتَّى بَلَغَ (لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 29]، قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لاَ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ»! قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَتَلاَ عَلَيْهَا الآيَةَ، قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لاَ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِى قُلْتُ! قَالَ: «لاَ تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» (هو في الصحيح من حديث جابر، وقد تصرفت في سياقته بما يناسب مقام الخطبة).
إخوة الإسلام: هذا الحديث يطل على بيت النبوة إطلالة تكشف البساطة في أشرف بيت عرفته الدنيا!
ومع علو شرف هذا البيت فلم يخصص بشيء من الأموال، ولا الهبات، بل هو يعيش كسائر الناس، وهذا من رفعة الله لدرجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولدرجات أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- فإنهن لما تشرفن بزواجهن منه، ظنن أن لهن مزية، ولما ضاق العيش بهن، واشتد عليهن الأمر، فسألن النفقة.
وكان من قدر الله أن يوافق هذا المشهد دخول أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-، وهو في هذه الحالة في الوجوم، كيف لا؟! ونفقة تسع نسوة ليست بالأمر الهين! وكثير من الناس تضيق يده عن نفقة زوجة أو زوجتين!
فأراد عمر - رضي الله عنه - أن يُذْهِبَ حُزْنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بموقف طريف، فذكر ما كان منه مع زوجته بنت خارجة، حينما سألت النفقة، ولم يكن عمر يدري ما سبب وجومه - وهذا من الموافقات الكثيرة لعمر -رضي الله عنه -!
فلما أخبره عليه الصلاة والسلام، قام هو وأبو بكر لابنتيهما لعتابهما، وذلك لحقهم عليهن فهما آباءٌ لهما.
إلى هنا ينتهي مشهد طلب النفقة، ويأتي اعتزالهن من أجل مراجعة أمرهن، والنظر في النفقة!
وقد يكون من أجل أن يستشير أحداً من خاصة أصحابه، أو من أجل انتظار الوحي - كل هذا محتمل -.
فاعتزلهن -صلى الله عليه وسلم- شهراً، ثم نزلت عليه الآية، فتلاها على عائشة أولاً؛ لما لها من الحب، وليتعزى بردها، فهي أصغر زوجاته، وأحبهن إلى قلبه.
وبالرغم من صغرها، فقد جاءت بذلك الجواب الحكيم، الذي يدل على كمال عقلها –رضي الله عنه-، فلم تفرِّط في صحبته، ولكمال غيرتها طلبت أن لا يخبر أزواجه بما قالت، فرد عليها أنه لن يخبرهن ابتداءً، ولكن من سألته فسيخبرها؛ لأن الله لم يبعثه معنتاً ولا متعنتاً، وهذا ليس سرّاً، فالقضية مشتركة بينهن.
إن هذا الموقف النبوي العظيم، ليحمل في طياته دروساً وعبراً عظيمة، نتوقف عند بعضها فحسب، فإن مقاماً كهذا لا يتسع لاستعراض جميع دروس هذا الموقف:
1- إن هذا الحديث ليكشف لك بوضوح الحال التي كان عليها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في معيشته وحياته الدنيوية، وأنه كان يعيش كغيره من الناس, بل من أوساطهم، فلم يتميز عنهم بلباس ولا طعام ولا مركب؛ ولذلك لما دخل عليه عمر - رضي الله عنه - ووجده جالساً على الحصير، وقد أثَّر في جنبه الشريف -صلى الله عليه وسلم- تأثر، وقال له: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هم فيه من النعيم، وأنت على حصير؟!
فصحح له الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المعلومة، وهذا الفهم - الذي دافعه الحب والتوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال: يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!
وهذا من أعظم الدروس، وهو أن لا يكون الإنسان ركوضاً وراء الدنيا، فإنها لو كانت نعيماً وكرامة لرضيها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه ارتضى له الحياة الآخرة.
وعلى هذا الفهم سار أصحابه من بعده، فلم تكن الدنيا أكبر همهم، بل كانوا يرون أن ازدياد الدنيا وانفتاحها عليهم نوعاً من الاستدراج، وقصة عبدالرحمن بن عوف في هذا مشهورة، فإنه - رضي الله عنه - كان من أغنياء الصحابة، ولما جيء إليه بطعام - في يوم كان فيه صائماً - بكى! وقال: قتل مصعب بن عمير -وهو خير مني- ولم يجدوا له إلا كفناً إن غُطِّيت قدماه ظهر رأسه، وإن غُطِّي رأسه ظهرت قدماه، فبكى ولم يكمل طعامه.
وهذا دليل على حياة قلب المؤمن، فهو يخشى أن يكون ما فتح عليه من الدنيا استدراجاً، بعكس أكثر الناس، فإنهم يعتبرون هذا من كرامتهم على الله، وهذا من الجهل والغرور، ولو تأمل الإنسان لعرف أن زيادة النعم لو كانت علامة على الرضى مطلقاً، أو خيراً على كل حال لكان أولى الناس بها الأنبياء وأتباعهم بإحسان.
وأما الدرس الثاني الذي سندع باقي الحديث له.. فهو كمال خلقه -صلى الله عليه وسلم-، وحسن عشرته لأزواجه، فلم يعنفهن، أو يزجرهن، أو يستدعي آبائهن، ولم يُشِعْ ما حصل منهن، وإنما كان دخول الفاروق والصديق من قدر الله..
ولقد كان الموقف يتردد في حلقة نقاش حول موضوع النفقة، وفي ذلك تأصيل لمبدأ الحوار بين الزوجين، ولو أن الأزواج أحيوا الحوار والتفاهم؛ لحصل الخير وزالت كثير من المشاكل.
واسمعوا -أيها الإخوة- قول النبي لعمر عندما قال له: "لو رأيت ابنة زيد سألتني النفقة.. قال هن حولي يسألنني". ويكاد الإنسان يجزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نطقها بنبرة هادئة: «هن حولي يسألنني النفقة»!! لأنه كان يضحك قبلها.. ولأنه كان هادئاً، ولأن المعالجة التي أتت بعد ذلك معالجة هادئة..
انظروا ابتداءً إلى سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حقه وهو نبي، وهو صاحب رسالة، ولم يستدع أبا بكر ولا عمر، ولم يكن مجيئهما ليشتكي إليهما! بل جعل مجالاً للزوجة للتنفس ببعض طلباتها..
حتى طلباتها التي قد يظن الزوج أنها ليست مناسبة، فمن الأدب - في العلاقة الزوجية - بل من العقل أن يعطي الزوجة مجالاً لتتحدث لماذا؟ لكي يعرف الزوج طريقة تفكيرها، ومن خلال ذلك يستطيع أن يتجه إلى المعالجة..
إن ذوي القلوب القوية العنيفة في الحياة الزوجية لن يغلبوا نساءهم بتلك القلوب!
قد تسكن الزوجة أمام صاحب القلب العنيف والفض.. لكنها تعيش ألماً وضجيجاً، وقلقاً ينتشر على حياتك أيها الزوج، ومن ثَمَّ ينتقل أثره على أبنائك..
ولنعد إلى ذلك الموقف: ماذا قال حينما قال عمر قولته قال : هن حولي يسألنني النفقة؟!
ما قال النبي - بلغتنا التفكيرية المباشرة -: سألنني النفقة لكن ما ضربتهن! حتى هذه العبارة ما قالها، إنما ذكر الجزء الأول: هن يسألنني النفقة فماذا فعل؟ وظّف أبا بكر وعمر؛ لأنهما أبوين لزوجتين عنده؛ ليقوما بإصلاح ذلك الوضع.. ثم حينما انطلقا ليضربا زوجتيه، قام النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو المغلوب في تلك القصة - مدافعاً عنهما -صلى الله عليه وسلم-.
فتأملوا - أيها الأزواج - إلى هذا التصرف النبوي الذي يفيض خلقاً ورحمة، وتعظيماً للعلاقة الزوجية في، فلم تكن حاله التي كان عليها من الحزن، أو الكآبة لتهوّن من قداسة هذا الرباط في نفسه.. لا.. لا.. إنه رابط معظّم عنده في لحظة الغضب وفي لحظة الرضا.. ولهذا لما نطق نهى أبا بكر وعمر عن ضربهما.. لماذا؟ - مع أن أبا بكر وعمر أبوان - وللأب الحق أن يضرب ابنته ضرباً غير مبرح، ويوجهها.. لكن ماذا؟.
لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعالج القضية باحترام الزوجة، ولما علم -صلى الله عليه وسلم- أن الدرس قد بلغ إلى هذه الزوجة، فقد انتهى المقصود، ولا حاجة لمزيد من التأديب.
ولحديثنا بقية نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلم تتوقف عجائب هذا الموقف النبوي: ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد لفت نظر حفصة –رضي الله عنها-، فكأنه يقول: انظري يا حفصة! يا ابنة عمر! انظري لما يفعل أبوك عمر بزوجته، وأنا النبي الأقوى من عمر ما فعلت بك كما فعل، ولا شيئاً من ذلك. وهذا في حق عمر الذي عرف بشدته وحزمه..
وأما أبو بكر - وهو الهادئ جدا - فلما كان المقام مقام دفاع عمن ملك حبه قلبه، حتى صار أحب إليه من والده وولد والناس أجمعين، فلم يتمالك نفسه، بل قام إلى ابنته، وأنّبها..
وهو إشارةٌ موجهةٌ إلى عائشة من زوجها -صلى الله عليه وسلم-، فكأنه يقول لها: انظري يا عائشة! هذا أبوك قام ليضربك، وأنا الزوج، وأنا المخول، وأنا المسئول عن نفقتك، وأنا النبي، ومع ذلك ما قلت شيئاً... وهنا.. لا تجد شيئاً أبلغ من أن تقول: صدق الله إذ يقول عن هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].
والعجيب أنك حينما تتحدث عن هذا الموقف النبوي الرائع، لعل زوجًا من الأزواج يستفيد منه في حياته، ربما يضحك، أو يبتسم ساخراً، وربما نطق وقال: وهل نساؤنا كعائشة؟! أو حفصة؟! وهنا ببساطة نقول: وهل أنت كأبي بكر وعمر، فضلاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
وربما سمعت ثانياً يقول: يا أخي أنا لو فعلت ذلك مع زوجتي مثل هذا الموقف فستتنمر عليَّ، وستتكبر! ولهؤلاء يقال: ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه!
لقد وظّف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الموقف العجيب، ثم دافع عن زوجتيه –رضي الله عنهما-، ولذلك جاء ذلك الرد الانفعالي الجميل من جميع أزواجه -رضي الله عنهن أجمعين- بعدم سؤال النفقة، وقلن جميعاً: "بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة"!
الله أكبر.. لماذا يا ترى؟! لأنهن تعلمن من ذلك الدرس الجميل الذي صوَّره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووظف الخليفتين –رضي الله عنهما- لكي يقوما بتلك الأدوار من حيث لا يشعرا، هو السبب الذي جعل الزوجات يحترمن ذلك النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم-، وهن يحترمنه من قبل لكنهن يحترمنه أكثر وأكثر، وقلن: "والله لا نسألك النفقة مرة أخرى".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي