وَوِلَايَةُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهَا؛ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34] فَعَلَّلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْوِلَايَةَ بِعِلَّتَيْنِ، هُمَا تَفْضِيلُ جِنْسِ الرِّجَالِ عَلَى جِنْسِ النِّسَاءِ، وَبِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ. وَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ صَارَتْ مُكْتَسِبَةً فَإِنَّ وِلَايَةَ الرَّجُلِ عَلَيْهَا لَا تَسْقُطُ بِاكْتِسَابِهَا؛ لِبَقَاءِ عِلَّةِ التَّفْضِيلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
الخُطْبَةُ الأولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النجم: 45- 46] نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَبَانَ لَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَتْقَنَهُ، وَشَرَعَ الشَّرْعَ فَأَحْكَمَهُ (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة: 138]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا دِينَهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ، وَاعْمَلُوا بِشَرْعِهِ وَلَا تُبَدِّلُوهُ، وَخُذُوا بِهِ كُلِّهِ وَلَا تُفَرِّقُوهُ؛ فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].
أَيُّهَا النَّاسُ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ خَلْقُ اللهِ تَعَالَى، وَأَحْكَامُهُ فِيهِمَا شَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْبَشَرِ، وَإِذَا اتَّحَدَتْ جِهَةُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ اسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ وَلَمْ تَعْوَجْ، وَانْتَظَمَتِ الْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ وَلَمْ تَتَعَارَضْ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَا خَلَقَ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ شَرْعًا لِخَلْقِهِ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54] (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
وَكُلُّ مَيْلٍ عَنْ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فِي الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ فَهُوَ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وَوِلَايَةُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهَا؛ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34] فَعَلَّلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْوِلَايَةَ بِعِلَّتَيْنِ، هُمَا تَفْضِيلُ جِنْسِ الرِّجَالِ عَلَى جِنْسِ النِّسَاءِ، وَبِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ. وَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ صَارَتْ مُكْتَسِبَةً فَإِنَّ وِلَايَةَ الرَّجُلِ عَلَيْهَا لَا تَسْقُطُ بِاكْتِسَابِهَا؛ لِبَقَاءِ عِلَّةِ التَّفْضِيلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
وَيُعَزِّزُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228]. وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ، فَفِي النِّسَاءِ مَنْ تَكُونُ عَنْ أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ لَا يُسَاوِي الرَّجُلُ نَعْلَ امْرَأَةٍ. وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَجِنْسُ الذُّكُورَةِ أَكْمَلُ مِنْ جِنْسِ الْأُنُوثَةِ فِي تَحَمُّلِ الْأَعْبَاءِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ، وَقِيَادَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ.
وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي سَاوَتِ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فِي الْقِيَادَةِ، وَاعْتِلَاءِ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ؛ إِذْ إِنَّ نِسْبَةَ الرَّئِيسَاتِ وَالْوَزِيرَاتِ وَالْقَائِدَاتِ ضَئِيلَةٌ جِدًّا أَمَامَ نِسْبَةِ الْقَادَةِ مِنَ الرِّجَالِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّجَالَ أَقْدَرُ عَلَى الْقِيَادَةِ مِنَ النِّسَاءِ؛ وَلِذَا كَانَ لِلرِّجَالِ الرِّئَاسَةُ وَالْقِيَادَةُ عَلَى زَوْجَاتِهِمْ وَقَرِيبَاتِهِمْ، وَهِيَ الْقِوَامَةُ وَالْوِلَايَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَكَّدَتْهَا السُّنَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "...وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَثْبَتَ لِلرَّجُلِ رِعَايَةَ أَهْلِهِ، وَالرِّعَايَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقِوَامَةٍ وَوِلَايَةٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا". فَهِيَ لَا تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ -وَهُوَ مَوْضِعُ الطَّاعَةِ- إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَئِيسُهَا وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا.
وَلِأَنَّ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْوِلَايَةَ، وَيَسْتَغِلُّهَا اسْتِغْلَالًا بَشِعًا، وَيَجْعَلُهَا أَدَاةً لِلتَّسَلُّطِ وَالِاسْتِبْدَادِ وَالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَى الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فَقَالَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ). وَفِي أَعْظَمِ جَمْعٍ وَأَكْثَرِهِ، فِي خُطْبَةِ عَرَفَةَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنَّاسِ: "فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَدَعَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَالتَّحْرِيجُ هُوَ التَّضْيِيقُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أُضَيِّقُ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ، وَأُحَرِّمُهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمَا.
وَمَعَ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَصَايَا النَّبَوِيَّةِ فَإِنَّ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُخَالِفُهَا بِهَوًى أَوْ بِجَهْلٍ، فَيَجْعَلُ وِلَايَتَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَقَرِيبَاتِهِ أَدَاةَ تَسَلُّطٍ وَظُلْمٍ وَأَكْلٍ لِلْحُقُوقِ. فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ بِرَعِيَّتِهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَسَاءَ وِلَايَتَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَاسْتَغَلَّهَا فِي ظُلْمِهَا؛ نَزَعَ الْقَاضِيِ وِلَايَتَهُ عَلَيْهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهَا؛ فَيُصْبِحُ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا؛ وَذَلِكَ كَأَبٍ يَعْضِلُ بِنْتَهُ فَلَا يُزَوِّجُهَا الْكُفْءَ لَهَا، أَوْ يُكْرِهُهَا عَلَى الزَّوَاجِ مِمَّنْ لَا تُرِيدُ. أَوْ أَخٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأُخْتِهِ، أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَى مِيرَاثِ أُمِّهِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ. أَوْ زَوْجٍ يُعَلِّقُ زَوْجَتَهُ فَيَجْبُرُهُ الْقَضَاءُ عَلَى إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، أَوْ لَا يُعْطِيهَا حُقُوقَهَا فَيَنْتَزِعُ الْقَاضِي لَهَا حُقُوقَهَا مِنْهُ، أَوْ يَفْصِلُهَا عَنْهُ. أَوْ مُطَلَّقَةٍ تُمْنَعُ مِنْ أَوْلَادِهَا انْتِقَامًا مِنْهَا فَيُجْبِرُ الْقَاضِي مُطَلِّقَهَا بِزِيَارَةِ أَوْلَادِهَا لَهَا.
وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ حَقٌّ فِي مَالِ الْمَرْأَةِ مِنْ وَظِيفَةٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا، فَإِنْ غَصَبَهَا مَالَهَا فَالْقَاضِي يَرُدُّهُ إِلَيْهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
وَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ تَسَلَّطَ فِيهَا أَوْلِيَاءُ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ بِظُلْمٍ إِلَّا وَلَهَا عِلَاجٌ فِي الشَّرْعِ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]. وَإِذَا وَقَعَ ظُلْمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ تَنْتَصِفْ مِنْ ظَالِمِهَا فَمَرَدُّ ذَلِكَ إِلَى خَلَلٍ فِي تَطْبِيقِ الشَّرْعِ، إِمَّا مِنَ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا حِينَ سَكَتَتْ عَنْ حَقِّهَا الْمَشْرُوعِ لَهَا، وَإِمَّا مِنَ الْقَاضِي الَّذِي لَمْ يُنْصِفْهَا حِينَ رَفَعَتْ شَكْوَاهَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّعْوَةُ لِإِسْقَاطِ وِلَايَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ ظُلْمِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَهِيَ دَعْوَةٌ لِتَعْمِيمِ الظُّلْمِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَدْمِ الْأُسْرَةِ، وَتَدْمِيرِ الْأُمَّةِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَنَشْرِ الرَّذَائِلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنْ فَقَدَ السُّلْطَةَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ؛ كَفَّ يَدَهُ عَنْ رِعَايَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ، فَصَارُوا نُهْبَةً لِكُلِّ فَاسِقٍ وَفَاجِرٍ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وِلَايَةُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ تَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ هُمَا: الرِّعَايَةُ وَالْحِمَايَةُ؛ فَالرِّعَايَةُ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْقِوَامَةِ: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) وَأَحَادِيثُ نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ. وَقَدْ يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْ دُعَاةِ إِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَارَتْ مُكْتَسِبَةً، وَلَيْسَتْ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِعَالَةِ الرَّجُلِ. وَلَكِنْ هَلْ تَسْتَغْنِي الْمَرْأَةُ عَنْ حِمَايَةِ الرَّجُلِ لَهَا؛ وَهِي مَطْمَعُ أَرَاذِلِ الرِّجَالِ، وَمَطْلُوبُ فَسَقَتِهِمْ، وَمَقْصِدُ مُجْرِمِيهِمْ؟!
إِنَّ أَعْظَمَ مَا يُوَفِّرُهُ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ فِي وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا حِمَايَتُهَا، وَشُعُورُهَا بِالْأَمْنِ مَعَهُ، وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي تَجِدُهَا النِّسَاءُ الشَّرْقِيَّاتُ فِي نِظَامِ الْأُسْرَةِ السَّوِيِّ، وَتَفْتَقِدُهَا الْغَرْبِيَّاتُ لَمَّا دَمَّرُوا نِظَامَ الْأُسْرَةِ بِالْفِكْرَةِ الْفَرْدِيَّةِ.
إِنَّ الْقَوَانِينَ مَهْمَا كَانَتْ صَرَامَتُهَا لَنْ تُوَفِّرَ الْأَمْنَ لِلنِّسَاءِ، وَلَنْ تَحْمِيَهُنَّ مِنَ الِاعْتِدَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوَانِينَ لَا تَصْرِفُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ حَارِسًا يَحْرُسُهَا، وَإِنَّمَا مُهِمَّةُ الْقَوَانِينِ إِنْصَافُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا؛ وَلِذَا عَجَزَتْ قَوَانِينُ الْغَرْبِ عَنْ مَنْعِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى النِّسَاءِ بِالتَّحَرُّشِ وَالِاغْتِصَابِ وَالضَّرْبِ وَالظُّلْمِ رَغْمَ إِسْقَاطِهِمْ وِلَايَةَ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَتَشْتَكِي الْمَرْأَةُ ظَالِمَهَا أَبًا كَانَ أَوْ أَخًا أَوِ ابْنًا أَوْ زَوْجًا أَوْ عَشِيقًا، ثُمَّ يُحَاكَمُ وَيُسْجَنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ لِيَنْتَقِمَ مِنْهَا أَشَدَّ انْتِقَامٍ؛ وَلِذَا فَضَّلَ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ الْغَرْبِيَّاتِ السُّكُوتَ عَلَى الظُّلْمِ خَوْفًا مِنِ انْتِقَامٍ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّ الْقَانُونَ يُنْصِفُهَا لَكِنَّهُ لَا يَحْمِيهَا، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى الْحِمَايَةِ قَبْلَ الْإِنْصَافِ. وَلَمْ يَنْفَعْهَا شَيْئًا إِسْقَاطُ وِلَايَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، بَلْ فَقَدَتِ الْمُدَافِعَ عَنْهَا مِنْ عُقَلَاءِ مَحَارِمِهَا.
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَدُّ: مَا يُعْرَفُ بِالْحُرِّيَّةِ السَّلْبِيَّةِ فِي الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ؛ وَمِنْ أَفْرَادِهَا: أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مُلْزَمًا قَانُونًا بِالدِّفَاعِ عَنِ الْمَرْأَةِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا اعْتِدَاءٌ أَمَامَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أُمَّهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ تَحَرُّشًا أَوِ اغْتِصَابًا أَوْ ضَرْبًا أَوْ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَكُونُ عَلَى الْفِعْلِ لَا عَلَى التَّرْكِ. وَالدِّفَاعُ عَنْهَا هُوَ مُجَرَّدُ فِعْلٍ أَخْلَاقِيٍّ بِاسْتِطَاعَةِ الرَّجُلِ تَرْكُهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ الْقَانُونُ عَلَى ذَلِكَ. وَبِهَذَا الْفِكْرِ الْجَائِرِ فَقَدَتِ الْمَرْأَةُ الْغَرْبِيَّةُ حِمَايَةَ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَسْئُولِيَّتَهُ فِي الدِّفَاعِ عَنْهَا سَقَطَتْ بِسُقُوطِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا.
أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ يُفْدِيهَا بِرُوحِهِ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ شَعْرَةٌ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَالْأَهْلُ هُنَا لَفْظٌ يَشْمَلُ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَجَمِيعَ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: وَأَمَّا الْمُدَافَعَةُ عَنِ الْحَرِيمِ فَوَاجِبَةٌ بِلَا خِلَافٍ.
قَارِنُوا بَيْنَ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ دِفَاعِ الرَّجُلِ عَنْ زَوْجَتِهِ وَمَحَارِمِهِ فِي الْإِسْلَامِ، الَّتِي تَصِلُ إِلَى حَدِّ بَذْلِ النَّفْسِ، مَعَ الْحُرِّيَّةِ السَّلْبِيَّةِ فِي الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ بِعَدَمِ الدِّفَاعِ عَنْهَا. وَهَذَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِسْقَاطِ وِلَايَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.
إِنَّ الْمَرْأَةِ حِينَ تُطَالِبُ بِإِسْقَاطِ وِلَايَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَسْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ ظُلْمِ الرَّجُلِ وَاسْتِبْدَادِهِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَسَلِمَتِ الْمَرْأَةُ الْغَرْبِيَّةُ لَمَّا أَسْقَطَتْ وِلَايَةَ الرَّجُلِ عَلَيْهَا. وَالْإِحْصَاءَاتُ الرَّسْمِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْغَرْبِ مَوْجُودَةٌ لِلْمُشَكِّكِينَ، وَأَرْقَامُهَا مُخِيفَةٌ. وَتَظُنُّ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا إِنْ تَخَلَّصَتْ مِنْ وِلَايَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا سَتَبْقَى حِمَايَتُهُمْ لَهَا لَوِ اعْتُدِيَ عَلَيْهَا، وَهَذَا ظَنٌّ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا يَرْضَى بِإِعَالَةِ وَحِمَايَةِ مَنْ لَا تَعْتَرِفُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا. وَهِيَ بِإِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا تَنْتَقِلُ مِنْ ظُلْمٍ مَحْدُودٍ إِلَى ظُلْمٍ عَامٍّ شَامِلٍ.. مِنْ ظُلْمِ قَرِيبِهَا وَطَمَعِهِ فِيهَا إِلَى ظُلْمِ أَرَاذِلِ كُلِّ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهَا يَحْمِيهَا، وَيَدْفَعُ الْأَذَى عَنْهَا.
وَكَمْ تُظْلَمُ الْمَرْأَةُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تَدْعُوهَا لِلتَّمَرُّدِ عَلَى الشَّرْعِ وَعَلَى أَوْلِيَائِهَا؛ لِيَصِلَ إِلَيْهَا سَقَطَةُ الرِّجَالِ وَفَسَقَتُهُمْ.
نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الْجَهْلِ وَمِنَ الْهَوَى، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْفَظَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُرِيدُونَ بِهِنَّ شَرًّا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وسَلِّمُوا ....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي