إنّ من أشد ما تبتلى به النفوس، وأعظم ما يصيب الأفراد والمجتمعات من الأمراض، داء العجز والكسل الذي يُقعد عن الأعمال والتسابق في الخيرات والمنافسة في شتى ميادين العمل الصالح؛ وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي كل فرد من أفراد الأمة بقوله: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
الحمد لله الولي الحميد، أظهر دينه، وأتم نعمته، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وخذوا من أيام حياتكم لموتكم، ومن أوقات فراغكم لشغلكم، ومن صحتكم لمرضكم؛ رزقني الله وإياكم مزيدا من تقواه، وعملا صالحا يقربنا إلى جنته ورضاه.
أيها الإخوة المسلمون: إن من نعم الله -عز وجل- على عبده أن يرزقه فراغا من الأشغال والأعمال، لكن هذه النعمة حرم الانتفاع منها فئام كثير من الناس، فأصبحوا مغبونين فيها لعدم استفادتهم منها في أعمال صالحة تنفعهم في دنياهم وأخراهم؛ ولهذا جاء في الحديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".
إن كل يوم ينشق فجره يمكن للمسلم فيه -بعد توفيق الله- أن يصنع له فيه مجدا، ويبني له فيه عزا، ويخلد له فيه ذكرا حسنا؛ ومع ذلك كله فإن هذه النعمة العظيمة، نعمة الأوقات والفراغ من الأشغال، قد تتحول إلى نقمة على العبد يفسد بها دينه وأخلاقه، ويتحطم مستقبله، وتتلاشى آماله، وذلك متى ما أسيئ استخدام هذه النعمة، أعني نعمة الوقت.
ونحن نرى في واقعنا المشاهد دلائل صادقة، وبراهين ساطعة، على صحة ما ذكر، كم من إنسان علا قدره، وارتفع ذكره، وعلت عند رب العالمين فيما يظن درجته، بمحافظته على أوقاته، وعمارته لأيامه وشهوره بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والأخرى.
وبالطرف المقابل، كم من شاب أضاع نفسه، وحطم مستقبله، وفرط في فرص عظيمة سنحت له، وبدد آماله وآمالا علقت به بإضاعته لأوقاته، وتفريطه في أيامه وشهوره وأعوامه، وقضائها بالساقط من الأعمال وسيء الفعال.
وكلٌّ مدركٌ نتيجة عمله، وبالغ منتهى تصرفه في الدنيا والأخرى كذلك، الموفق من عباد الله مع وقته وعمره سيعيش ثمار ذلك سعادة في دنياه وأخراه، والخاسرون مع أوقاتهم وأعمالهم سيتجرعون ثمار خسارتهم المرة يوم يرون أنهم في هذه الدنيا لا شيء، وأن أقرانهم وأترابهم فاقوهم بمسافات طويلة، وبدرجات عالية.
إنها لحسرة وندامة لا تساوي شيئا إزاء حسرات الآخرة ونداماتها، (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [فاطر:37].
تلك هي النهاية البائسة لمن قضى عمره في غير طاعة مولاه وتنكب غير الصراط المستقيم، تلك هي الثمرة المرة لمن أضاع عمره في غير مراد الله -عز وجل-؛ تضييعا للواجبات، وارتكابا للمحرمات.
إخوة الإسلام: ها نحن في بداية عام هجري جديد، أيام طويلة، وأسابيع عديدة، وشهور عديدة، وهي جزء من عمر الإنسان سيسأل عنه كما يسأل عن غيره دقيقة دقيقة، وساعة ساعة، يسأله من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يسأله من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يسأله من وكل به ملائكة كاتبين، يعلمون ما تفعلون.
"لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه"، هذا العمر المديد بأيامه وشهوره وأعوامه ستسأل عنه يوم القيامة، والله ستسأل عنه سؤالا دقيقا: في أي شيء قضيته، وبأي عمل أفنيته.
فيا سعادة من وفق للإجابة السديدة! وما أعظمها -والله- من حسرة وندامة لمن حرم الصواب في إجابته! (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
إن مما يعين الإنسان على الانتفاع بأوقاته والاستفادة من عمره يقينه بأن درجاته في الآخرة ومنازله في الجنة ونعيمه فيها إنما يحدد ذلك -بعد رحمة الله وتوفيقه- استثماره لأيام حياته وساعات عمره.
شتان في المنزلة -يا عباد الله- شتان في المنزلة والدرجة والنعيم بين عبد قضى عمره مطيعا لمولاه، مستثمرا لأوقاته تسبيحا وتحميدا، وصلاة وصياما، ودعوة وأمرا ونهيا، وعملا نافعا مفيدا في دنياه؛ شتان بينه وبين عبد قضى عمره مفرطا في جنب الله، مضيعا لحق مولاه، غافلا عما أمامه، لاهيا عن مصيره! والله -سبحانه وتعالى- هو أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:18-21].
ومما يعين الإنسان على الانتفاع من أوقاته تحديده لهدفه في هذه الحياة، إن كثيرا من الناس يصبحون ويسمون وينامون ويقومون ويأكلون ويشربون ويتزوجون وينكحون ويغدون ويروحون ولا هم للواحد منهم إلا تسمين جسده وإشباع غريزته.
إن حياة هؤلاء كالأنعام، بل أضل سبيلا والعياذ بالله؛ لأن الأنعام لا عقول لها، وهؤلاء قد منحهم الله عقولا، لكنهم عطلوها، وأبصارا فأغلقوها، وأسماعا فسدوها: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
إن على كل مسلم أن يسأل نفسه سؤالا دقيقا: ما الهدف الذي يسعى لتحقيقه في هذه الحياة؟ وما الغاية التي يسعى للوصول إليها؟ وليكن صريحا مع نفسه، محددا بدقة جوابه على هذا السؤال وعلى ضوء هذه الإجابة يتحدد عمل الإنسان في هذه الدنيا؛ فإن لكل هدف من الوسائل ما يعين على الوصول إليه ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!".
إن وضوح الهدف في هذه الحياة للمسلم يجعله يخطط حياته، ويرتب أوراقه، وينظم أعماله على وفق هذا الهدف الذي حدده وعينه.
وأعيذك بالله -أيها المسلم، أيها الشاب- أن تكون إنسانا عابثا لاهيا لا هدف لك في هذه الحياة، تمضي عليه سنوات عمره ولا هدف يسعى لتحقيقه ولا غاية سامية يسعى للوصول إليها في هذه الحياة.
أعيذك بالله وقد منحك الله العقل والقلب والسمع والبصر، أعيذك بالله أن تعيش في هذه الدنيا عيشة البهائم وحياة الحيوانات وأنت تقرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2].
فاستعد لهذا الابتلاء والامتحان، واحرص على تقديم أحسن النتائج التي ترضي الله -عز وجل-.
نسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا حياة طيبة في هذه الدنيا والآخرة، كما نسأله -سبحانه- أن يجعل أعمارنا معمورة بطاعته وذكره وشكره وحسن عبادته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود بكل زمان ومكان، لا يشغله شأن عن شأن، أحمده -سبحانه- وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- وأكثروا من التوبة والإنابة والاستغفار؛ فإنها من أسباب الرحمة والفلاح، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]، (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل:46]، فرحم الله عبدا وجد في صحيفته وكتابه يوم القدوم على ربه استغفارا كثيرا، وتحميدا وتكبيرا، وتوبة وإنابة، وتضرعا وإخباتا.
أيها الإخوة المسلمون: إن مما يعين المسلم على الانتفاع من وقته أن يكون لديه حرص نافع على ألا يفرط في لحظة من لحظات عمره، فضلا عن ساعة، فضلا عن يوم أو أكثر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي أمته فيقول لأحد أصحابه: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
إنّ من أشد ما تبتلى به النفوس، وأعظم ما يصيب الأفراد والمجتمعات من الأمراض، داء العجز والكسل الذي يُقعد عن الأعمال والتسابق في الخيرات والمنافسة في شتى ميادين العمل الصالح؛ وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي كل فرد من أفراد الأمة بقوله: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
احرص على ما ينفعك في دنياك وأخراك، وما أعظمها من رزية يوم يؤتى الإنسان نشاطا وقوة وعقلا وإرادة وعافية ثم يصبح كَلّا عاجزا كسولا خاملا عن كل عمل صالح وتصرف مثمر مفيد!.
ومع حرصك -أيها المسلم- على انتفاعك من أوقاتك لا تنس الاستعانة بمولاك؛ فإن بيده قلوب العباد وأزمة الأمور يصرفها كيف يشاء، وهو الذي يبارك في الأوقات والأعمار والأيام والشهور والأعوام.
اعرض سؤالك على رب الأرض والسماوات، وتضرع إليه بقلب منيب، وسله أن يمن عليك بالعمل الصالح المقبول، والسعي الصالح المشكور، وأن يبارك لك في حياتك، ويبارك لك في عمرك وأيامك؛ فإن العبد -مهما أعطي من قوة، ومهما ملك من طاقة- لا حول له ولا قوة ولا طول له ولا قدرة إلا بمعونة خالقه، فيسأله -سبحانه- أن يعينه على الانتفاع من أوقاته.
نسأله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يعيننا على اغتنام ما بقي منها.
نسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي