وجوب السمع والطاعة للأئمة، ولو كان فيهم شيء من النقص، أو حصل فيهم شيء من الخلل والمعصية؛ وذلك لأن الاجتماع على الأئمة فيه مصلحة للأمة, ولأن ترك الاجتماع والتفرق والفوضى والاختلاف سبب للنهب والسلب، والضرب والقتل، فيكون الضعيف نهبة للقوي، وليس هناك من يأخذ له حقه، ولا تكون هناك إقامة حدود، ولا انتصار لمظلوم...
الحمد الله أمر بالاجتماع والاتفاق وحذّر من الفرقة والافتراق, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل فضله وواسع عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, تنزه وتقدس عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير, (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وأشهد أن محمد عبده ورسوله رّغب في الجماعة, وحذّر من الشذوذ والفرقة, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في ملاذكم وفيها اجتماعكم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: إن ما يحل بإخواننا بمصر من تفرق وتشرذم وشقاق ونزاع ومنازعة الأمر أهله, خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة التي فرضها الله ورسوله, وسطرها الصحابة واعتقدوها وساروا عليها، وتمسك بها السلف من بعدهم جيل بعد جيل حتى عصرنا.
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في السياسة الشرعية: "نزلت الآية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك, إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "دعانا رسول الله فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا وعسرنا، وألا تنازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً، عندكم فيه من الله برهان".
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّية يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية فقُتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه".
وعن ابن عمر مرفوعاً: "الأمير يُسمع له ويُطاع، فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" [أخرجاه] ولمسلم عن حذيفة مرفوعاً: "تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع".
وفي حديث الحارث الأشعري أن النبي قال: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه", وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما".
أيها المؤمنون: اسمعوا سلفكم ماذا يقولون وماهي عقيدتهم في ولاة الأمور الشريعة, عن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا أدري لعلك أن تخلف بعدي؛ أطع الإمام وإن أمر عليك عبداً حبشياً مجدعاً، وإن ظلمك فاصبر، وإن ضربك فاصبر".
قال الالكائي: "وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العلم لله, وطاعة ولاة الأمر, ولزوم جماعتهم, فإن اعتقاد دعوتهم تحيط من ورائهم", ثم أكد في قوله: أطيعوا الله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ), وأن لا يرى السيف على أمة محمد".
وقال الفضيل: "لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد", وقال الالكائي: "ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة, ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا, ولا ننزع يدا من طاعة, نتتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة".
وقال الحسن أيام يزيد بن المهلب -وأتاه رهط- فأمرهم أن يلزموا بيوتهم, ويغلقوا عليهم أبوابهم, ثم قال: "والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا, ما لبثوا أن يرفع الله -عز وجل- ذلك عنهم, وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه, ووالله ما جاؤوا بيوم خير قط".
قال محمد بن الحسين: "من أمر عليك من عربي أو غيره, أسود أو أبيض أو أعجمي فأطعه فيما ليس لله -عز وجل- فيه معصية, وإن ظلمك حقاً لك, وإن ضربك ظلماً لك, وانتهك عرضك, وأخذ مالك, فلا يحملك ذلك على أنه يخرج عليه سيفك حتى تقاتله, ولا تخرج مع خارجي حتى تقاتله, ولا تحرض غيرك على الخروج عليه, ولكن اصبر عليه".
أيها الأحبة: وإذا رأينا المنكر كيف ننصح فيه, السنة أن تُبذل النصيحة للإمام سرًّا بعيدًا عن الإثارة والتهويل, يدل لذلك ما رواه ابن أبي عاصم وغيره, عن عياض بن غنم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية, وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك, وإلا أدى الذي عليه".
أيها الموحدون: إن الخروج على ولاة الأمر فيه ضرر على الرعية, وهدم للبلاد وطاعة للأعداء, قال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله- مبينا ضرر الخروج على الولاة وأثره على الرعية: "قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ومثل قوله لـ أبي ذر: "اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك", وقوله: "عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، يقودكم بكتاب الله".
وفي هذا الحديث أنه قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم"، يعني: تدعون لهم ويدعون لكم، عبر بالصلاة عن الدعاء, "وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم"، يعني: تدعون عليهم, "ويلعنونكم"، قال: قلنا: "يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟", يعني: نخالفهم وننبذ إليهم الطاعة، قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة"، أي: ما داموا يقيمون فيكم الصلاة، ويبنون المساجد، ويعينون الأئمة والمؤذنين، ويرفع صوت الأذان في كل وقت، ويجتمع المصلون ويؤدون الصلاة جماعة؛ وذلك لأن الصلاة هي شعار الإسلام، وشعار المؤمنين".
فهذه الأدلة ونحوها تدل على وجوب السمع والطاعة للأئمة، ولو كان فيهم شيء من النقص، أو حصل فيهم شيء من الخلل والمعصية؛ وذلك لأن الاجتماع على الأئمة فيه مصلحة للأمة, ولأن ترك الاجتماع والتفرق والفوضى والاختلاف سبب للنهب والسلب، والضرب والقتل، فيكون الضعيف نهبة للقوي، وليس هناك من يأخذ له حقه، ولا تكون هناك إقامة حدود، ولا انتصار لمظلوم إلا بهذه الولاية".
وقال ابن جبرين -رحمه الله-: "الجهاد والحج ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، كما وردت بذلك السنة، وكما عمل بذلك السلف الصالح، فكانوا يحجون ويكون أمير الحج أحد الولاة، وقد يكون سفيهاً، وقد يكون معه شيء من النقص والتقصير، وقد يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يستمع شيئاً من اللهو وغناء القينات ونحو ذلك، وقد يتعاطى شيئاً من الأشربة المكروهة كالنبيذ ونحوه، ولكن مصلحة جمعه لهؤلاء الحجاج وحمايته لهم عن قطاع الطريق مصلحة كبيرة لا يستهان بها".
قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: "قد عُلم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر, الشافع المشفع في المحشر, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر, وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله
قال ابن رجب -رحمه الله- في [شرح الأربعين]: "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم". وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجراً عَبَدَ المؤمن فيه ربه وحُمل الفاجرُ فيها إلى أجله".
وقال ابن مفلح في الآداب: "قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله -يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فناصحهم في ذلك، وقال: "عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، لا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويُستراح من فاجر, وقال: ليس هذا -يعني نزع أيدهم من طاعته- صواباً، هذا خلاف الآثار".
إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وكلام العلماء المحققين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبيَّن أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه بغزو أو غيره معصية، ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، وإتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي