وقفات مع يوم عرفة

محمد عبد الكريم

عناصر الخطبة

  1. فضل يوم عرفة
  2. الميثاق الأول مع ذرية آدم بعرفة
  3. تجديد الميثاق بأقوال وأفعال النبي الكريم بعرفة

الخطبة الأولى:

الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان، الغني القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، الأولِ فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، أرسى الأرض بالجبال في نواحيها، وأرسل السحاب الثقال بماءٍ يحييها، ثم قضى بالفناء على جميع ساكنيها، ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31].

أحمده -تعالى- وأشكره، ومن مساوئ عملي أستغفره، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.

وأشهد أن سيدنا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا وأسوتنا محمدًا رسولُ الله، عِتْرته خيرُ عِتْرة، وسيرته خير سيرة، وشَجَرته خير شَجَرة نبتت في حرم، وبسقت في كرم، أرسله الله بالبينات الظاهرات، والمعجزات الواضحات، فأقام الله -تعالى- به الحجة على الأنام، فمن أطاعه فقد رشد واهتدى، ومن عصاه فقد ضل وغوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن اصطفى.

أما بعد: أيها المسلمون عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقواه؛ فإن الله -تعالى- وصى بذلك الأولين والآخرين، فقال رب العالمين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:131]، وقال -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ [لقمان:33].

تزود للذي لا بد منه *** فإن الموت ميقات العبادِ

وتب مما جنيت وأنت حي *** وكن متهيئا قبل الرقاد

ستندم إن رحلت بغير زاد *** وتشقى إذ يناديك المنادي

أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وانت بغير زاد؟

﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197].

أيها المسلمون عباد الله: لقد أظلكم يوم جليل عظيم من أيام الله، ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم:5]؛ لقد أظلكم يوم عرفة، سيد أيام السنة كلِّها، ولنا موعد مع عرفة، وذكريات مع هذا اليوم الأغر من أيام رب الأرض والسماء، هذا اليوم الذي قال فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "سيد الأيام يوم عرفة".

يوم يجتمع فيه شرف الزمان مع شرف المكان، أما الزمان، فزمان التاسع من ذي الحجة، يوم الوَتْرِ الذي أقسم الله به، على أحد أقوال أهل العلم في تفسير الآية: ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ [الفجر:3] ، يومٌ جعل الله صيامه لغير الحاج يُكَفِّرُ سنتين كاملتين، سنةً ماضيةً، مضت بما فيها من الأقوال، والأعمال، والمواقف، والنيات، وسنةً ستأتي من عمر الإنسان إن قدر الله ذلك وقضى؛ سنتان يغفر الله -عز وجل- ما فيهما من الزلات، ويتجاوز الله -عز وجل- عما فيهما من الخطيئات، لمن صام هذا اليوم احتسابًا لله -جل وعلا-.

وأما المكان، فالمكان هنالك خارج مكة بعد بطن عرنة، ذلك المكان الأبيح، المكان  الممتد الفسيح، الذي أنزل الله -تعالى- إليه أبانا آدمَ -عليه السلام- يومَ أن خلقه الله -جل وعلا- في السموات العلا، وأهبط آدم من الجنة ونزل إلى هذه الأرض، كانت لنا ذكرى مع أبينا آدمَ -عليه السلام- في ذلك المكان العظيم المقدس، في ذلك الوادي المقدس الذي هو خارج مكة بعد بطن عرنة نزل آدم -عليه السلام-، ومعلومٌ أن خَلْقَه كان يومَ الجمعة، وأن إسكانه الجنةَ كان يومَ الجمعة، وأنه ما مكث في الجنة إلا ساعةً، وأنه أهبط من الجنة يومَ الجمعة، فلما نزل إلى هذه الأرض، ساقه الله -جل وعلا- إلى عرفة، فوقف فيها آدمُ -عليه السلام-، والحديث في المسند بإسنادٍ صحيحٍ بمجموعِ طُرقِه، ورجالُه رجالُ الصحيحِ غير جبير بن كلثوم، وهو من رجال مسلمٍ، ووثقه غيرُ واحدٍ غير النَّسائي، والحديثُ عمومًا أشار الحاكم إلى صَحَّتِه في مستدْرَكِه، والشيخُ الألبانيُّ في شرحه للطحاوية وصحيح الجامع، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- مسح على ظهر آدم وهو بنعمان -يعني وهو بعرفة- مسح الله -تعالى- على ظهر أبينا آدم -عليه السلام- وهو واقف بعرفة، فأخرج من صُلْبِه – أخرج من ظهره- كلَّ ذُرِّيةٍ ذَرَأَها إلى يوم القيامة، ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173)﴾ [الأعراف:178].

تلك هي الذكرى الأولى، ذكرى الميثاق الأول، مع أب البشرية والإنسانيةِ، آدمَ -عليه السلام-، والحديث، وإن رَجَّحَ ابنُ كثيرٍ وقفَه على ابن عباس، إلا أنه ليس مما يقال بالرأي إن الله -عز وجل- اختار عرفة، واختار الزمان الشريف الذي نزل فيه آدمُ -عليه السلام-، ليعقد عهدا وميثاقًا بيننا وبينه، هنالك في ذلك المكان، يمسح الله الجليل -سبحانه- على ظهر أبِ البشريةِ آدمَ، فيُخْرِجُ من صُلْبِه ذراريه وأبناءه ويُسَلِّمُهُم قِبَلا، ويُقَدِّمُهم بين يديه، وهم في عالم الذر، وهم كالذر بين يديه -سبحانه-، الخلائق كلها، البشرية كلها بين يديه، يكلمهم ربهم -جل وعلا-.

ويجئ القرآن ويثبت هذا الكلام بيننا وبين ربنا، يوم أن كنا في عالم الذر: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)﴾ [الأعراف:172-174].

إنه الميثاق الأعظم، الأضخم، الأول، الذي أخذه الله عليك وأنت في عالم الذر، ولكي لا يحتج محتجٌّ بأنه كان في غفلة عن ذلك الميثاق، وفي غفلة عن ذلك العهد، أرسل الله رسله، وأنزل الله كتبه، لكي لا يكون للناس على الله حجةٌّ بعد الرسل، لكي لا يكون للناس على الله حجة  بعد ميثاق الرسل، فيأتي ذلك الميثاق ليصدق الميثاق الأول، مع ميثاق الفطرة التي قال الله عنها: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30].

إخوة الإيمان حراس العقيدة: إن الله -جل وعلا- إذ أخذ علينا الميثاق بتوحيده وعبادته في ذلك المقام، وفي مثل هذا اليوم، يوم عرفة، إنما ليشير بذلك -جل وعلا- إلى أن أهم قضية بيننا وبينه هي عبادته وتوحيده، إن الله -عز وجل- خلق في أنفسنا حاجةً إليه، وأوجد في قلوبنا لهفةً لطاعته؛ ولذلك، فإن النفوس مفطورةٌ على إفراد بارئها  وخالقها، ولو ترك الإنسان من غير تهويد أبويه، أو من غير تنصيريهما، أو تمجيسهما، لوحَّد الخالقَ -سبحانه وتعالى-، ولكن أبويه يهوِّدَانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، فيغيران فِطْرَتَه، ويعكران عليه صفاء  الميثاق الذي أخذه الله -تعالى- على عباده، فمن أراد اللهُ رحمتَه من العباد، استجاب لنداء الرسل والأنبياء، وأصغى لدعوتِهم، فيلتقي نداء الأنبياء ودعاؤهم، مع ميثاق الفطرة التي فطر الناس عليها، فيعودُ الإنسانُ إلى فطرتِه ويعودُ الإنسانُ إلى جادَّتِه، يعود منتصرًا مُكرَّمًا، كما خلقه الله، كما قال -جل وعلا-: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين:4]، في أحسن تقويمٍ من الفطرة، والخلق، ولكنَّ الإنسان هو الذي يتردَّى في حلقة الشرك، ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6)﴾ [التين:5-6].  

إذن، عرفة تذكرنا -أولَ ماتُذَكِّرُنا- بالميثاق الأول الذي أخذه الله علينا، وجاءت آثار أخرى تؤكد لنا  ذلك العهد، وذلك المقام، مقام آدم -عليه السلام-، كما جاء في الترمذي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تعالى- مسح على ظهرِ آدم فأخرج من ظهره كل نَسَمَةٍ ذرأها إلى يوم القيامة، وأغدقَ عليهم من نوره، فرأى آدمُ -عليه السلام- تلك النَسَمات، رأى تلك الخلائقَ كلَّها، من بعده إلى يوم القيامة، فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريِّتُك إلى يوم القيامة، فرأى رجلاً منهم بين عينيه وبيص من نور، فقال: من هذا يا رب؟ قال: هذا رجلٌ من آخر أمَّتِك اسمُه داودُ، فقال: يا رب، كم عُمُرُه؟ قال: ستون سنة، قال: فيا رب، فاجعل له من عمري أربعين سنةً، فلما جاء مَلَكُ الموت إلى آدمَ -عليه السلام- بعد انقضاء أجلِه ليأخذه، لِيُمِيتَهُ، قال: يا ربّ، ألم يبق من عمري أربعون سنةً؟ قال: ألم تُعْطِ ابنَك داوودَ -عليه السلام-؟ فجحد آدمُ، فجحدت ذُرِّيَّتُهُ، ونَسِيَ آدمُ، فنسيت ذُرِّيَّتُهُ، وخَطِئ آدم، فخَطِئتْ ذُرِّيَّتُهُ"، والحديث إسناده صحيح، وأشار الحاكمُ أيضًا إلى صِحَّتِه، وغيرُه.

إذن؛ الله -سبحانه وتعالى- أخذ على بني آدم في ذلك المقامِ ذلك العهدَ بتفاصيلَ أُخرى، كما ثبت في الصحيحين من حديث أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-، أن "الله -عز وجل- يقول للكافر يوم القيامة: أرأيت لو أن لك ما في الأرض أكنت مفتديًا به؟ فيقول: أيْ ربِّ، فيقول الله -عز وجل-: لقد سألتك أهون من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم، ألّا تشركَ بي، فأبيت إلا الشرك". وذلك دليلٌ على صِحَّةِ ذلك الميثاقِ الذي أخذ في عرفة.

إخوة الإيمان حراس العقيدة: وتجئ الذكرى الثانية، وهي من الذكرى الأولى في تجديد ذلك الميثاق، وتوكيده، يجيء رسولنا -عليه الصلاة والسلام-، ويدور الزمان دورتَه، ليقف -عليه الصلاة والسلام- يومَ عرفة، في يوم الجمعة، ليقف ذلك الموقفَ العظيمَ، وليجتمع عيدان: عيدُ الأسبوع لهذه الأمَّةِ التي شرفها الله وأكرمها، وعيد السَّنَة، وكان العرب قد أنسؤوا الشهور، وأخروا وقدموا، فجاء الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فكان زمانُه وكانت سنتُه وكان عامه، هو العامَ المتطابقَ، مع خَلْقِ الله يومَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ، فَجَعَلَ الأشْهُرَ، وجعل الزمان، فجاء الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فكانت حجته حجةَ الوداعِ في الزَّمانِ الصحيحِ التامِّ، فتوافق ذلك مع يوم الجمعة، ومكث -صلى الله عليه وسلم- في مثل صبيحة هذا اليوم، مكث في مِنًى حتى طلعت الشمس، وأمر بِقُبَّةٍ  تضرب له بنَمِرَةَ، فركب -صلى الله عليه وسلم- القصواءَ بعدما زاغت الشمس، ارتحلها ثم مضى -عليه الصلاة والسلام- مُيَمِّمًا شطر عرفة، ولا تشك قريش إلا أنه واقفٌ عند المشعر الحرام عند ذلك الجبيل الصغير الذي يسمي بجبيل قزح، وكانت قريش تقف عنده، ولا تتجاوزه إلى عرفة، زعمًا منهم أنهم أهلُ الحرم، وأنه لا يخرج من الحرم إلا الآفاقِيُّون، أما الحَرَمِيُّ المكيُّ فإنه يخرج عند المشعر الحرام، ليفيض من المشعر الحرام، ويفيض غيره من عرفة، فأنزل الله -جل وعلا- رادًا تلك البدعة والمحدثةَ التي أحدثها القرشيون، قال -عز وجل-: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:199]، أي: أفيضوا جميعًا من حيث يفيض النّاس من عرفة، لا من المشعر الحرام، فمضى -عليه الصلاة والسلام- والقرشيون في وهمهم وظنهم، أنه -عليه الصلاة والسلام- سيقف عند المشعر الحرام، ولكنه تجاوز المشعر الحرام، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، ونمرة ليست من عرفة، دون عرفة، ولكنها من الحرم، فنزل -صلى الله عليه وسلم-، فدخل القبة.

ثم خرج بعدما زالت الشمس، فخطب النّاس، خطب النّاس خطبة عظيمة، يقول جابرُ بنُ عبدِ الله-رضي الله عنه-: ثم خطب الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن دماء الجاهلية موضوعةٌ، ألا وإنَّ كلَّ شيءٍ من أمر الجاهليةِ تحت قدميَّ هاتَيْن موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضعه من دمائنا دمُ بنِ ربيعة  الحارث بن عبد المطلب، فإنه كان مسترضَعًا في بني سعد فقتلته هُذَيْل، وربا الجاهلية موضوع كلُّه وأول رِبًا أضع ربانا، ربا عباسِ بنِ عبد المطلب، فإنه موضوع كلُّه، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مُبَرِّحٍ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم مسؤولون -وفي رواية تسألون- عني، فما أنتم قائلون؟"، قالوا: إنا نشهدُ أنك قد بلَّغَتَ رسالاتِ ربِّك، ونصحت، وأديت، وقضيت الذي عليك، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع أُصْبُعَهُ السبابةَ إلى السماء، ثم ينكثها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد".

إنها خطبةٌ عظيمةٌ، إنها كلماتُ النبوة الآخرة، التي يجدد الله -تعالى- بها وقفة أبينا آدم -عليه السلام-، وربنا يأخذ علينا الميثاق، يقول -عليه الصلاة والسلام-: إنّ دماءكم أيها المسلمون، إن دماءكم عبادَ الله، يا من توحدون الله، ويا من رضيتم بميثاق الله الأول، يا من أطعتم رسل الله جميعًا، إن دماءكم معصومةٌ، إن دماءكم محرَّمةٌ، لا يجوز إراقتها بعد هذا اليوم، وحرمتها ليست بأقل من حرمة هذا اليوم العظيم من أيام الله، ولا أقل من حرمة هذا الشهر العظيم من شهور الله، ولا أقل من حرمة ذلك البلد العظيم من بلاد الله، مكة التي شرفها الله وحرمها، إن حرمة الدِّماءِ وحرمةَ الأعراضِ كحرمةِ يومِ عرفةَ، كحرمةِ يوم الجمعة، كحرمة شهر ذي الحجة، كحرمة البلد الحرام، لا يجوز لإنسانٍ أن يتلاعب بأموال المسلمين، ولا بأعراضهم، ولا بدمائهم، وإنما الحكم الفصل فيها كتابُ الله -جل وعلا-، لا يحلِّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: التارك لدينه المفارق للجماعة، والردة بعد إيمان، والزنا بعد إحصان، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحقِّ.

هكذا قضى الله -عز وجل- وأمر عباده أن يصونوا الأموال والأعراض، ولكن جاء من جاء من هذه الأمة، ومن ينتسب إليها في هذا الزمان، ليحكم بشرعٍ غير شرعِ الله، ليحكم بغير كتاب الله، وغيرِ سنةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولِينقضَ العهدَ الذي بيننا وبين الله، فيخرج من هذه الأمة من ينقض عروة الحكم وينقض عروة الشريعة، وينقض عروة كتاب الله -عز وجل- ليتلاعب بالدماء والأموال والأعراض كما يشاء،  وليحق علينا أمر الله -عز وجل- في هذه الأمة، فيجعل الله بأسنا بيننا شديدًا، كما حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وليتسلط علينا شراذمة الخلق، يتسلطون على المسلمين في كل مكان، من اليهود، والنصارى، ومن شايعهم، من أراذل الخلق، يتسلطون على هذه الأمة، يغيرون عليها، يحرقون خضراءها، ويحاربونها في عقر دارها، والمسلمون يتخاذلون، يتخاذلون عن إخوانٍ لهم في أقدس الأماكن، في فلسطين، وشرُّ الخليقةِ من اليهود يحاصرونهم، ويؤذونهم إذ يرفعون شعارَ الإسلامِ، إذ يرفعون دين الله -عز وجل-، ويريدون لقضية المسلمين الأولى أن تكون قضية الإسلام، يخذلونهم إذ يصلون إلى الدولة، ويحاربونهم مع المنافقين الذين يبغونها عوجًا ويريدونها غير كتاب الله، وغير سنة رسول الله، يريدونها علمانية، إذ يفصلون الدين عن الحياة، ويفصلون الدين عن السياسات التي تحكم الأموال والأعراض والدماء، ويقفون معهم، يقفون مع سلطة باغية، ظالمة، مجرمة، يقفون مع سُلطة تقطع وتمنع شعار الإسلام، يمدونهم بالأموال، ويمدونهم بالسلاح،  يمدونهم بالقوة، ليجهضوا كلمة الإسلام وكلمة الجهاد في بيت المقدس وفي فلسطين، وقل مثل ذلك في العراق، وقل مثل ذلك في الصومال.

ولكنَّ هذا التآمر -إخوةَ الإيمان- لن يستمر طويلاً، فنحن على يقينٍ من وعد الله، أن الله -تعالى- سيتم أمرَهُ، وسينصر دينه وأولياءه، كما وعد ربنا، وهو لا يخلف الموعد أبدًا، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:55]، ذلك وعد الله، ووعدُه أيضا  في ثلاث آياتٍ من كتابه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:33، الصف:9].

فاستبشروا بوعد الله، وتأكدوا من نصر الله، وإنما الله -عز وجل- يزلزل المؤمنين، كما زلزل أسلافَهم من السابقين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، ولكي لا يصل إلى النصر والتمكين إلا من يستحقه من عباد الله الصالحين، قال -عز وجل-: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214].

وهكذا ذهب الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- يبطلُ بالإسلام كلَّ الجاهلية، وإنما الأمر أمران: إما إسلام، وإما جاهلية، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:50]، أَبْطَلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في خطبته تلك كلَّ ألوانِ وصورِ الجاهليةِ، سواءً كانت جاهلية عقائدية، تصورية، أو كانت جاهلية أخلاقية، أو كانت جاهلية عهد وميثاق، أو جاهلية أعراف وتقاليد، أبطلها كلَّها بالإسلام -عليه الصلاة والسلام-، أشاد بحرمة الإسلام، وحرمةِ الدِّين، وأبطل الجاهلية، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا وإن كلَّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع"، لم يُبجل ولم يعظم ولم يحترم أي صورة من صور الجاهلية، ولم يبجل أي عادة من عادات الجاهلية، ولو كانت من  عاداتِ العرب، ولو كانت من عادات قريش، ولو كانت من عادات قومه، فالجاهليةُ جاهليةٌ، كلُّ ماعدا الإسلام جاهليةٌ، سواءٌ صدر من عرب أو عجم، صدر من أبيضَ أو أسودَ، طالما خالفَ الإسلام وناهضه فهو جاهلية، لا كرامة للجاهلية ولا عزاء ولا حرمة للجاهلية، ولا احترام للجاهلية، بل الجاهلية مُهانةٌ، الجاهلية تحت أقدامِ المُوحدين، الجاهلية تحت أقدام عبادِ الله الصالحين، لا يُعْطُونها وزنًا، ولا يُعْطُونَها قيمةً، "ألا وإن كلَّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قَدَمَيَّ هاتين موضوع"، هذا هو التوحيد، وهذا هو الإيمان، وهذا هو تحقيقُ لا إله إلا الله، إعزاز الإسلام واحترامه، وتوهين الجاهلية وإذلالها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ينهانا عن أن نتعزى بعزاء الجاهلية ويقول: "ومن تعزى بعزاء الجاهلية فعيروه بِهَنِ أبيه، ولاتُكَنُّوا"، أي: المزوه- وسُبُّوه، واشتموه، بفرج أبيه، قولوا له: فيلمصص ذكر أبيه، فالذي يتعزى بعزاء الجاهلية كالذي يمصص فرج أبيه، قولوا له ذلك، عيروه بِهَنِ أبيه، ولا تُكَنُّوا، بهذا التصريح، من أجل النكير الشديد على أمر العزاء بعزاء الجاهلية، أبطل الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلَّ الجاهلية.

ويأتي في هذا الزمان من يجدد ويستخرج وينبش ويستخرج للمسلمين  الجاهليات الوضيعة، يخرج لهم جاهليات الأجداد الوثنيين، فهذا يخرج لقومه جاهلية الفراعنة، ويسمي الشوارع بأسماء الفراعنة، والشركات بأسماء الفراعنة، وآخر يأتي فيقيم حضارة البابليين كما زعموا، ويستخرج طغاة الوثنين من البابليين، والثالث يعتز بحضارة العمالقة من الجبارين والفينيقيين واليونانيين، وآخرون يأتون ليجددوا حضارة الوثنين من الأفارقة، وليقولوا للناس: حضارتكم حضارة الأفارقة، حضارة العراة، حضارة الكجور، حضارة البنايات التي بنيت من أجل عبادة غير الله، والأنصاب، والتماثيل التي عكف عليها الجاهليون، يخرجون هذه جميعها، ليقولوا للناس: هذه حضارة البشرية، وهذه حضارتكم أيها المسلمون في كل بقعة وفي كل أرض!.

إنها جاهليات موضوعة تحت أقدام المؤمنين والمؤمنات، ينبشها القوم ليزاحموا بها النور الذي نزل من السماء، ليزاحموا بها الميثاق الذي أخذه الله -تعالى- علينا، ونحن في ظهر أبينا آدم.

"كل أمر الجاهلية موضوع"، يأتي الرسول -عليه الصلاة والسلام- في تلك الخطبة العظيمة ليبطل كلَّ الدماءِ التي كانت في الجاهلية، ولو كانت دماءهم هم، دماء عبد المطلب، ويقول: "أول دم أضع من دمائنا دمُ ربيعة بنِ الحارث بن عبد المطلب"، طفل صغير قتل ظلمًا، قتل بغير جريرة، كانت بنو عبد المطلب لا تزال تطالب بثأره وبدمه من بني هذيل، فيبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- ثارات الجاهلية.

ويبطل ربا الجاهلية، لأن ذلك كان من عهد الجاهلية، ومن أعراف الجاهلية، أن يأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة، فيبطل الربا، وأول ما يبطله ربا العباس بن عبد المطلب، كان له على بعض القرشيين والعرب أموالٌ يستحقها بحسب أعراف الجاهلية، بحسب ربا الجاهلية، فَيُبْطِلُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربا الجاهلية.

وهكذا يضع النبي -صلى الله عليه وسلم- النظام الاجتماعي للأسرة في ذلك المقام، وفي تلك الخطبة، فيوصي بالنساء خيرًا، ويَحُدُّ -عليه الصلاة والسلام- الواجباتِ، والحقوقَ، وحقوقَ الأسرة التي هي اللبنة الأولى للمجتمع الإسلامي، فيوصي بالنساء خيرًا ويأمرنا أن نتقيَ اللهَ في النِّساءِ، وأنَّ أخذَهُنَّ، واستحلالَ فروجِهِنَّ ما كان بجاهلية، ولا بهوىً، ولا بأعرافٍ، ولا بتقاليدَ، ولكن ذلك كان بكتاب الله، "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله"، وها هي كلمة الله، ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء:3]، بهذه الكلمة فقط استحللتم فروجَهنَّ، ليعيد الأمر إلى الله، وإلى كتابه، ويوزع الحقوق، فالمرأة ترعى بيت زوجها، لا تُدْخِلُ أحدًا يَكْرَهُهُ الزوجُ، ولو كان من أقرباء الزوجة، والزوج عليه بأن ينفق عليها بالمعروف، وهكذا تتوزع الحقوق والواجبات بين الزوجين، في اللبنة الأولى من لبنات المجتمع، يقيم النظام الاجتماعي كما أقام النظام الاقتصادي على العدل وعلى نبذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل، كل ذلك بشرع الله.

ثم يعطينا الأمان والضمان لاستمرارية الاعتصام بالله، والاعتصام به، "ألا وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده"، تركت فيكم أمرًا عظيمًا مادمتم معه فأنتم لستم على ضلال، أنتم في هدى، ما هو هذا الأمر العظيم؟ إنه كتابُ الله، كتابُ الله  الذي لم يتبدل، ولم يتغير، الذي لن يتحول أبدًا، إذا اعتصمتم بكتاب الله فقد هديتم، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران:101].

وهكذا بَيَّنَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك الخطبة العظيمة هُدَى الله الذي خاطب الله -تعالى- به آدم يوم أن قال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(126)﴾ [طه:123-126].

وبعد ذلك كلِّه، بعد إقامة نظام الإسلام، وهدم نظام الجاهلية، وإعطائنا الضمان بالاستمرارية، يُشهِدُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خيرَ البرية بعد الأنبياء، صحابته رضوان الله عليهم، يشهدهم على بلاغ الدين، يشهدهم على بلاغ الرسالة، يشهدهم على أن هذا الأمر قد تم وكمل، فيقول -عليه الصلاة والسلام- للصحابة ويشير بأصبعه: "ألا هل بلغت؟! ألا هل بلغت؟!"، يرددها سؤالاً إلى الصحابة فيقولون جميعًا بلسانٍ واحدٍ، بلسان الحال والمقال، يقولون جميعا بملءِ أفواههم: نشهد أنك قد بلغت، نشهد أنك قد بلغت. يا لها من أعظم شهادة! يا لها من أفخم شهادة يشهدها مسلم! أن يشهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ المبين، وقد قال له رب العالمين: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة:67]، وقال له: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت:18]، فشهدوا له، وقالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأتممت رسالاتِ ربِّك، وأديت، ونصحت، وقضيت الذي عليك، كل تلك العبارات يقولوها الصحابة في ذلك المقام، في يوم عرفة، وهم يقفون أمام المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وكان عددهم أكثر من عشرة آلاف مسلم، فيهم الرجال والنساء والصبيان، كلهم يشهدون للرسول -عليه الصلاة والسلام- بالبلاغ المبين، فيرفع -صلى الله عليه وسلم- أصبعه إلى لسماء، إلى جهة الربِّ في عليائه، وفي جهة استوائه، يرفع أصبعه إلى السماء، ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد"، يرفعها إلى السماء، وينكثها إلى الناس، يرفعها إلى السماء وينكثها إلى الناس، أشهد ربه على شهادة خلقه، وكفى بربك شهيدا، وكفى بربك هاديا ونصيرا.

وتتنزل من السماء آيةٌ عظيمة كبيرة، آية مهمة، يقول عنها بعض اليهود لعمر: آيةٌ لو نزلت علينا -معشرَ اليهود- لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فيقول عمر بن الخطاب: أي آية؟ فيقول اليهودي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3]. فيقول عمر: فإني لأعلم في أي يوم نزلت فيه، وفي أي ساعة نزلت، نزلت يومَ عرفة، في يوم جمعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على دابته، يُنْزِلُ الله ليصدق شهادة الصحابة الكرام، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وما ذلك إلا لأنه بلَّغَ -عليه الصلاة والسلام- البلاغَ المبينَ.

بعدما قضى -صلى الله عليه وسلم- تلك الخطبة نزل، فأذن بلال أذانا واحدًا، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم ارتحل -عليه الصلاة والسلام- ناقته القصواء من جديد، فأتى الصخرات، فجعل حبل المشاط بين يديه، وجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات المشرفات، التي تحت جبل الرحمة، ولم يصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الجبل، فلم يزل واقفًا -عليه الصلاة والسلام- رافعًا يديه، وجعل الجمل بينه وبين القبلة، ولم يزل يدعو الله -جل وعلا- بدعاء طويل استمر لساعات من مثل هذا الوقت إلى مغيب الشمس، لم يتحرك -عليه الصلاة والسلام- ولم ينزل من دابته، وما فعل شيئا، غير أنه شرب قَدَحًا من لبن، أرسلت إليه أم الفضل بقدح من لبن، فشرب ذلك القدح من اللبن وهو واقفٌ موقفَه ذلك، لا يكلم الناس، ولكنه يناجي رب الناس، ويلبي، ويقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، يسأل الله -عز وجل- وملؤه الخشوع، وملؤه التقى، وملؤه الإقبال والاستسلام لله -جل وعلا-، لم يزل واقفًا وهو يقول للناس: "وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف"، وقف كذلك -عليه الصلاة والسلام- في مثل هذا اليوم الذي يدنو فيه الله -سبحانه وتعالى- إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، يباهي بالذين يقفون ذلك الموقف العظيم، فيقول -جل وعلا- لملائكته، ما أراد هؤلاء؟ ثم يقول لهم: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثا غبرًا، من كل فجٍّ عميق، من كل جزائر الدنيا، من كل قارات العالم، جاؤوني شعثا غبرا، من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، وما رأوني! فكيف لو رأوني؟  يخافونني يرجون الجنة ودخولها، وما رأوني، آمنوا بالغيب، لم يروا الله -جل وعلا-، ولكنهم آمنوا بالله، لأن الآيات قامت على وجود الله، وعلى وحدانية الله.

فيقول -عليه الصلاة والسلام- مخاطبا إيانا بعد مقالة الله، كما في حديث ابن عمر، فلو أن لك عليك مثل رمل عالج، ومثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا، لغسلها الله عنك، هكذا يباهي الله -عز وجل- بعباده الشعث الغبر، الذين جاؤوا من كل فج عميق، يباهي بهم ملائكة السماء ليجدد العهد الذي بينهم وبين عباده في ذلك المكان العظيم، يوم أن أخذ علينا العهد ونحن في ظهر أبينا آدم.

ثم لما غابت الشمس وذهبت الصفرة، وسقط القرص، ارتحل -عليه الصلاة والسلام-، وأردف أسامةَ بنَ زيدٍ وراءه، ومضى وهو يشنق للقصواء الزمام، حتى إن عنقها ليكاد يصيب مورك رحله -عليه الصلاة والسلام-، وهو يقول للناس: "أيها الناس! السكينةَ السكينةَ!"، يرفع  باطن كفه إلى السماء، "أيها الناس! السكينةَ السكينةَ، فإن البر ليس بالإيضاع"، فإذا وجد فُرْجَةً من الفُرَجِ، أرخى للقصواء الزمام، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، ولم يصل بينهما شيئا، وهكذا جدد لنا النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكرى عرفة.

نسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يضمنا فيمن يباهي بهم الملائكة في هذا الموقف العظيم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم يا من قدّرت علينا أن لا نشهد هذا المشهد العظيم هذا العام، نسألك ربنا بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، ألا تحرمنا مما تفيض به على أوليائك وعبادك في ذلك المقام في يوم عرفة، من الرحمة والرضوان، اللهم ما أنزلت عليهم من قبول الدعاء، وما أنزلت عليهم من إخراجهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، وما تنزل عليهم ربنا من الخير والبركة، اللهم فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب، اللهم تقبل أعذرانا، اللهم تقبل عذرنا، اللهم تقبل عذرنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار…


تم تحميل المحتوى من موقع