وإن من أعظم صور السماحة العليا: أن يتسامح المرء مع من أساء إليه, كالذي جرى مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين أقسم ألاَّ ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لخوضه في حديث الإفك، رغم ما يمن عليه الصديق -رضي الله عنه- من كسوة ومبيت وإطعام، فأمره الله تعالى أن يعفو ويصفح...
الحمد لله خلق كل شيءٍ فقدّره تقديراً، أبدع ما خلق، وأتقن ما صنع؛ حكمةً وتدبيراً، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان على كل شيءٍ قديراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله: من تأمل في شريعة الإسلام وجد بها السماحة والندى والفضل العظيم لمن أناب واهتدى، أعمال ماحية للذنوب والمعاصي، ومواسم للطاعات يرتفع بها العبد درجات, ذكر وشكر، صلاة وصيام، سنن ونوافل، صدقات وصلات... أعمال يربح بها العباد من الله أعظم الأجور إن هم أخلصوا وأحسنوا واتقوا.
عباد الله: إن عقد الأخوة بين الناس رابطة وثيقة، ذاك أن الإنسان إما أن يكون وحدَه أو مع غيره، وإذا تعذّر عيش الإنسان وحده لم يكن له بدّ من تعلّم آداب المخالطة، وكل مخالِط لغيره ففي مخالطته أدب، والأدب على قدر حقه, فحق الوالدين آكد من حقّ الرحم، وحقّ الجار القريب آكد من حق الجار البعيد، وحق الصاحب في الدرس والعمل آكد من حق صاحب السفر.
وإن الله -سبحانه- ليجمع بين أناس متباعدين, كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" [البخاري (3336) مسلم (2638)]، فلا بد للإنسان بعد هذا أن يكون له أصحاب ورفقاء، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا وفّقه لمعاشرة أهل السنة والصلاح والدين، ونزّهه عن مخالطة وصحبة أهل الأهواء والبدع المخالفين.
إن التعامل مع الناس والدخول معهم يتطلّب من الإنسان جهادًا وصبرًا، وسهولة ويسرا، ولهذا فقد عظّم الرسول المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤمنُ الذي يُخالطُ النَّاس ويَصبرُ عَلى أَذاهُم خَيرٌ مِن الذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ عَلى أذَاهُم" [البخاري في الأدب المفرد (388)وصححه الألباني].
إن الناس ليسوا على طريق واحد، والشيطان ينزغ بينهم، يكبِّر الأمر الصغير ويزرع الشرّ وينشر الفتنة. وإن الشحناء وتتبع العثرات بين الناس لإحدى خدع الشيطان وطرائقه. (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53]، وإن الشيطان ليجمع هفوات الشخص عند صاحبه حتى تصير مثل الجبل، ولو صفّى الإنسان فكره لوجدها مجموعة أوهامٍ وخيالاتٍ، نسجُها كنسج العنكبوت، ولكن الشيطان يعمي الإنسان ويصمه.
إن الكمال لا يكون إلا لله، فلا شخص مبرأ من زلل وسهو، ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليمًا من هفوة أو التمس بريئًا من نَبوةٍ فقد تعدّى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، يقول بعض الحكماء: "لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه".
عباد الله: بنيت تشريعات الإسلام وأحكامه منذ ظهوره على اليسر، فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" [البخاري(39)]، وفي هذا الدين من السماحة والسهولة ومن اليسر والرحمة ما يتوافق مع عالميته وخلوده، وهو ما يجعله صالحًا لكل زمان ومكان لسائر الأمم والشعوب.
عباد الله: إن السماحة كنز غائب، وخلق محبوب، وجوهرة ثمينة، وزهرة تنمو داخل القلب، نماؤها نماء السماحة والتساهل والليونة والصفح، أصحاب هذه الزهرة يسعدون من حولهم، ويريحون قلوبهم وأنفسهم بالرضا، قال الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40].
عباد الله: السماحة بذل ما لا يجب تفضلاً مع الغير في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها وتتجلى في التيسير وعدم القهر، وسماحة المسلمين التي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.
وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية، والمناظرات الخلافية، والملاسنات الكلامية، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلَّ بكرم الخلق، وجود النفس، وسماحة الطبع.
والنفس السمحة كالأرض الطيبة الهينة المستوية، فهي لكل ما يُرَاد منها من خير صالحة، إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء فيها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت.
لقد كان الخطاب الأول لصاحب هذه الرسالة، ومجسم هذا الخُلُق، القدوة والأسوة رسولنا محمد -عليه الصلاة والسلام-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، قال السعدي: "هذه الآية جامعة لحسن الخُلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول حسن، وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغضّ طرفه عن نقصهم".
كما أنها دعوة لأمته، وتشريع لكل عباد الله، قال -سبحانه-: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237]، قال ابن عاشور: "ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد".
عن مكحول -رضي الله عنه- قال: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمنون هيّنون ليّنون، كالجمل الأنف، الذي إن قِيدَ انقاد، وإذا أُنيخَ على صخرة استناخ" [السلسلة الصحيحة للألباني (936)]، والمراد بالهيّن سهولته في أمر دنياه ومهمات نفسه, واللين لين الجانب وسهولة الانقياد إلى الخير والمسامحة في المعاملة (كالجمل) أي المخطوم.
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ حَمَلَ طَعَامًا إِلَى الْمَدِينَةِ, فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَاذَا تَحْمِلُ يَا أَعْرَابِيُّ؟"، قَالَ: قَمْحًا، قَالَ: "مَا أَرَدْتَ بِهِ، أَوْ مَا تُرِيدُ بِهِ؟"، قَالَ: أَرَدْتُ بَيْعَهُ فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: "أَحْسِنُوا مُبَايَعَةَ الْأَعْرَابِيِّ" [السلسلة الصحيحة للألباني (3235)].
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللهُ رَجُلاً، سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى" [البخاري (2076)]، قال ابن بطال: "فيه الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة، والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النبي -عليه السلام- لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة".
ويعلق ابن حجر على هذا بقوله: "السهولة والسماحة متقاربان في المعنى, والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها، وإذا اقتضى: أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، وإذا قضى: أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وفيه الحض على السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم".
عباد الله: لقد تواترت الأحاديث في فضائل السماحة وعلو درجتها، وبيان قدر صاحبها، وحسن مثواه، والذي منها أن تكسب سماحة الناس وسماحة الرب -سبحانه-, عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمح، يُسمح لك" [مسند أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (982)].
كذلك تورث جنة النعيم, فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ بِسَمَاحَتِهِ قَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا" [ صحيح الترغيب (1750)]، كما أن النار تحرم على السمح من عباد الله تعالى, عنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَنْ حُرِّمَتِ النَّارُ؟ قَالَ: "عَلَى الْهَيِّنِ اللَّيِّنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ" [صحيح الترغيب (1746)].
عباد الله: لقد كانت السماحة من أفضل خصال الإيمان وأجلها, عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا"، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ" [الصحيحة (1495)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما السماحة والصبر فخُلقان في النفس، وعلينا التواصي بهما قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق، وبينهما وبين الصبر تارة، ولا بد من الثلاثة: الصلاة، والزكاة، والصبر، لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك، في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لاسيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به"
.
وكل هذه الأحاديث وغيرها التي جاءت عن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء، بل وفي كل مناحي الحياة، هذا كله راجع إلى حسن الخلق، فالإنسان المؤمن يتعامل مع الخَلْق المعاملة التي يحب أن يُتعامل معه بها، فيحسن خلقه ويبتغي بذلك رضوان الله -تبارك وتعالى-، وأيضاً يبتغي بذلك حب الناس، فإن الإنسان إذا أحبه الله -سبحانه- جعل محبته في قلوب الخلق، فيدعون لهذا الإنسان الذي فيه السماحة وفيه حسن الخلق وفيه اللين، فهو هين لين مع الناس.
أيها الإخوة الأحباب: المسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة, عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق, الذين لا يريدون إلا تمرير آرائهم وأفكارهم.
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين, يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار, ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي, فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟!.
فاتقوا الله -رحمكم الله- وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة وسارعوا إلى سداد عوز المعوزين، ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً, تجارة مع الله رابحة، وقرض لله حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة, إنفاق بالليل والنهار والسر والعلن: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الشأن قديم الإحسان، أحمده -سبحانه- وأشكره على ما أولى من جزيل الفضل والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، واعرفوا فضل الله عليكم, فمن وفق لبذل معروف أو أداء إحسان؛ فليكن ذلك بوجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على الكتمان قدر الإمكان ابتغاء الإخلاص، وحفاظاً على كرامة المسلم.
ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه هو حق لهؤلاء ساقه الله على يديه، فلا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. وقد روي أن رجلاً جاء لبعض أهل الفضل يستشفع به في حاجة فقضاها له، فأقبل الرجل يشكره، فقال له: "علامَ تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة". أما من أتبع إحسانه بالمنِّ والأذى فقد محق أجره، وأبطل ثوابه.
عباد الله: وللسماحة والسهولة مع الآخرين صور كثيرة فليست قاصرة على مد اليد بالمعونة ولكن لها أشكالاً أخرى، منها:
التنازل عن الحق: فصاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصّل حقـًّا لم تطب به نفس الطرف الآخر، فيؤثر التنازل أو السماحة إن كان الحق له، وهذا ما كان من عثمان -رضي الله عنه- حين اشترى من رجل أرضـًا، فتأخر صاحب الأرض في القدوم عليه لقبض الثمن، وتبين له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه مغبون، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن؟ فقال له عثمان: "فاختر بين أرضك ومالك"، ثم ذكر له أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدخل الله -عز وجل- رجلا كان سهلاً مشتريًا، وبائعًا، وقاضيًا، ومقتضيًا الجنة" [السلسلة الصحيحة (1181)].
إنك حين تجد امرأً سهلاً ميسرًا، يتنازل عن حظ نفسه أو جزء من حقه، ليحلّ مشكلة هو طرف فيها، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها، أو ليتألف قلبـًا يدعوه، أو ليستطيب نفس أخيه، وهو قبل ذلك لا يتعدى على حق أخيه، ولا يلحف في المطالبة بحقوقه، فذلك هو الرجل السمح، وتلك هي السماحة.
ومن صور السماحة: إنظار المعسر، فإن إنظار المعسر، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه، صورة عظمية من صور الكرم وسماحة النفس، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأى مُعْسِراً قال لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ" [البخاري (2078)، واللفظ له، مسلم (1562)]، بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال عليه الصلاة والسلام: "من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة"[مسلم (2699)].
ومن صور السماحة: رد القرض بأحسن منه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه بعيرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوه"، فقالوا: ما نجد إلا سنًّا أفضل من سنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوه، فإن من خيار الناس أحسنهم قضاء" فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله. [البخاري (2392) ومسلم (1600)].
ومن صور السماحة: التسامح مع الشريك، كما شهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شريكه في التجارة قبل البعثة: السائب بن عبد الله بقوله له: " كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك، كنت لا تداريني ولا تماريني" [صحيح ابن ماجه ( 1867)]، أي كنت لا تدافعني في أمر ولا تجادلني فيه، بل كنت شريكـًا موافقـًا، ولم ينسها له، وكانت سببـًا من أسباب محبته له، وستكون سببـًا من أسباب النجاة من النار لمن تخلَّق بها، عنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَنْ حُرِّمَتِ النَّارُ؟ قَالَ: "عَلَى الْهَيِّنِ اللَّيِّنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ" [صحيح الترغيب(1746)].
عباد الله: إن صاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج، ولا يكون سببًا في تأثيمهم، بل يحرص على رفع الحرج عن الناس، ولا يشغله التفكير بما له عن التفكير بما عليه، وذلك من سماحته مع إخوانه وتقديره ظروفهم، فهذا الصحابي أبا اليسر -رضي الله عنه- كان له على رجل قرض، فلما ذهب لاستيفاء حقه اختبأ الغريم في داره؛ لئلا يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياءً لعدم تمكنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمحاها، وقال: "إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ" [ صحيح ابن حبان - محققًا (11 / 424) أحمد شاكر]، وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد.
وإن من أعظم صور السماحة العليا: أن يتسامح المرء حتى مع من أساء إليه, كالذي جرى مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين أقسم ألاَّ ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لخوضه في حديث الإفك، رغم ما يمن عليه الصديق -رضي الله عنه- من كسوة ومبيت وإطعام، فأمره الله تعالى أن يعفو ويصفح، فكفر عن يمينه، وعاد ينفق عليه، بعد أن أقسم ألا يفعل، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر لكم" [ صحيح الترغيب (2257)]. وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم: ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37].
عباد الله: السماحة منزلة سامية معتدلة بين العجز أو الفجور، وقد يوسوس الشيطان للمسلم: إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز، وظنوا فيك الضعف، ولكن حسب السَّمُوح والصَّفُوح ما ورد من حديث أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [مسلم (2588)].
ولا بد من الإشارة إلى أن السماحة هنا مع أصحاب الفلتات من المسلمين غير المتعمدي الخطأ أو من كانوا قليلي الخطأ، أما الذين يظلمون الناس، ويصرون على ذلك، فيُعامَلون بخلق الانتصار، فَيُنْتَصَر منهم ولا يُتْرَكُون هكذا يعتدون على عباد الله.
عباد الله: إن دروب الخير كثيرةٌ وحوائجُ الناس متنوعة؛ إطعامُ جائع وكِسوةُ عاري وعيادةُ مريض وتعليمُ جاهل وإنظارُ معسر وإعانةُ عاجز وإسعافُ منقطع، تطردُ عن مسلم همًا وتزيلُ عنه غمًا، تكفُل يتيمًا وتواسي أرملة، تُكرمُ عزيزَ قوم ذلّ وتشكرُ على الإحسان وتغفرُ الإساءة، تسعى في شفاعة حسنة تفكّ بها أسيرًا وتحقن به دمًا وتجُرُّ بها معروفًا وإحسانًا، وشهادةُ حق تردُّ وتحفظُ بها حقًا لمظلوم. كلُّ ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب، تنفيسٌ للكروب ودفعٌ للخطوب، وتصبيرٌ في المضائق وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل، فإن كنتَ لا تملكُ هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة وإلا فكفَّ أذاك عن الناس، فإنه صدقةٌ منك على نفسك.
نسأل الله أن يجعلنا من المتسامحين الصالحين المصلحين، ونعوذ بالله أن نكون من الجفاة والقسوة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي