لقد أرسل الله -تعالى- نبينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- إلى الناس كافة، فكمّله بخصال الكمال البشري، فكان أكملَ الخلق خَلقاً، وأكملهم خُلقاً، وأكملهم قولاً، وأكملهم عملا؛ فخَلقه أجمل خَلق وأبهاه، وخُلقه أفضل خُلق وأزكاه، وقوله أحسن قول وأعلاه، وعمله خير عمل وأوفاه. فبعد أن كمله الله بذلك أمر باتباعه وطاعته، والأخذ بما جاء به، وسلوك طريقته، والاقتداء به في الأقوال والأعمال والأحوال، قال -تعالى-:... (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: لقد ظل الناس قبل بعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- في الضلالة غارقين، وفي ليالي الحيرة تائهين، وفي أودية الجهالة متخبطين، لا يدركون علمًا ولا هدى ولا نوراً ولا ضياء، حتى أذن الله -تعالى- ببزوغ الفجر الصادق الذي أشرق بينهم؛ ليهديهم إلى نور السعادة وسبيل النجاة، فبعث الله حبيبه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مبشراً ونذيراً، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا.
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
عباد الله: لقد أرسل الله -تعالى- نبينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- إلى الناس كافة، فكمّله بخصال الكمال البشري، فكان أكملَ الخلق خَلقاً، وأكملهم خُلقاً، وأكملهم قولاً، وأكملهم عملا؛ فخَلقه أجمل خَلق وأبهاه، وخُلقه أفضل خُلق وأزكاه، وقوله أحسن قول وأعلاه، وعمله خير عمل وأوفاه.
فبعد أن كمله الله بذلك أمر باتباعه وطاعته، والأخذ بما جاء به، وسلوك طريقته، والاقتداء به في الأقوال والأعمال والأحوال، قال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور:56]، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7]، وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
ذاكَ الذي عبدَ الإلهَ وأخلصا *** وهوَ المشفّعُ في المعادِ لمنْ عصى
وبكفهِ نطقتْ وسبّحتِ الحصى *** شرفاً لهُ ولربهِ تعظيما
صلوا عليه وسلموا تسليماً
مني السلام عليك ما هبّ الصبا *** وتعانقت عذبات بانات الرُّبا
وتناوحت وُرْق الحمام لتطربا *** وأضاء نورك في السماء نجوما
صلوا عليه وسلموا تسليما
أيها المسلمون: إن من تتبع سيرة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من ولادته إلى وفاته وجد الأسوة الحسنة في طفولته، والأسوة الحسنة في شبابه، والأسوة الحسنة في كهولته ورجولته.
ويجد القدوة الصالحة أيضًا في كونه ابنًا، وفي كونه زوجًا، وفي كونه أبًا، وفي كونه أخاً، وفي كونه قريبًا، وفي كونه صهراً.
ويرى الأسوة الحسنة -أيضًا- في كونه مربيًا ومعلمًا، وفي كونه داعية وناصحًا، وفي كونه قائداً عسكريًا، وفي كونه حاكماً يسوس الناس.
ويجد كذلك القدوة الصالحة في صفاته وأخلاقه، وخلاله وشمائله، صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة الفضلاء: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في طفولته؛ فإن طفولة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن مرتعًا لكثرة الاشتغال بما لا ينفع، أو للعبث الذي لا فائدة فيه، ولم تقم طفولته على التربية الناعمة الرخوة التي تفسد الأبدان والأخلاق والطباع، بل كانت أرضًا خصبة للتربية على شحذ الطباع بمشحذ الجد والتقويم؛ فقد أُخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بيئة الحاضرة مكة إلى بادية بني سعد؛ ليتربى على الخشونة والقوة، وإتقان اللسان العربي من أفواه أهله، وليشم هواء البادية النقي؛ ففي هذا رسالة تربوية في تنشئة الأطفال على القوة البدنية والقوة الروحية والقوة الأخلاقية، وأن لا يسلموا إلى البيئات الفاسدة التي تفسد معتقداتهم وأعمالهم وألسنتهم وسلوكهم، كما هو الحاصل في بيئات كثير من المسلمين، وللأسف!.
وقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طفولته يعاني اليتم عن أبيه ثم عن أمه ثم عن جده عبد المطلب، إنها تربية الله لنبيه بصقله على الجلَد والصبر والاعتماد على النفس -بعد الله تعالى-؛ لأن هناك مستقبلاً مليئًا بالشدائد تحتاج هذه النفس التي قد ذاقت طعم العناء منذ بزوغ شمس الحياة إليها، وليس من جرب كمن تصدر بلا تجارب.
أيها الأحبة الكرام: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في شبابه؛ فلم يكن شبابه -صلى الله عليه وسلم- لوحة نقش عليها اللهو والعبث والانجراف نحو الانحراف إلى الهوى والشهوات غير المحمودة؛ وإنما كان شبابه -صلى الله عليه وسلم- صفحة مشرقة ناصعة بالعفة والنقاء، والطهارة والصفاء، والكفاح والجد، والتفكير الصائب، مع سمعة حسنة بين قومه، وثناء كريم منهم عليه في منتدياتهم وعلى ألسنتهم.
لقد نزع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه في شبابه الكسلَ وانتظار نوال غيره، ولبسَ الانطلاقَ إلى العمل والكسب الحلال، فعمل في التجارة إلى الشام مع عمه أبي طالب، ثم عمل في رعي الأغنام لبعض أهل مكة، ثم صار تاجراً مسافراً بالتجارة لخديجة -رضي الله عنها-، فقد وصل إلى سمع خديجة -عليها رضوان الله- صدقُ رسول الله وأمانته، فأحبت أن يتاجر في مالها، فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوتها، فخرج بتجارتها إلى الشام مع غلامها ميسرة، فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتجارة رأت خديجة بركة في المال ونماء، وزاد الإعجابَ به ما سمعته من غلامها المرافق له في السفر بما تحدث به عن كريم خلاله، وجميل خصاله، وكانت خديجة غير ذات زوج، وهي ذات مال وجمال ومكانة بين قومها، وكان يأتيها الخُطّاب من سادات قريش فتردهم، وكأنها تنتظر إنسانًا آخر لم تجد صفاته في أولئك الخطاب، فلما نُعت لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزادت علمَ اليقين بعين اليقين حينما تاجر في مالها، فجمعت ما رأتْ إلى ما سمعت، رأت ضالتها المنشودة بين يديها، فرغبت في الزواج به -عليه الصلاة والسلام- فتم ذلك.
وفي فصل آخر من فصول شبابه -صلى الله عليه وسلم- نجده غيرَ غافل عن واقع قومه ومشاركتهم فيما يهمهم، فقد حصلت حرب الفجار بين قريش وقيس عيلان، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجهز النبل لعمومته، وعمره إذ ذاك خمس عشرة سنة.
وفي صفحة أخرى من صفحات شبابه -عليه الصلاة والسلام- نراه قد حيل بينه وبين اللهو، فقد روى بعض أصحاب السير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بسوء" رواه ابن الأثير والحاكم وصححه.
فيا أيها الشباب: لكم في شباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة في عبور مرحلة الشباب بسمعة حسنة منقوشة بالعفة والنزاهة، والجد والعمل والصدق والأمانة، والبعد عن كل ما يشوه النفس والأسرة.
وفي تجارة رسول الله لخديجة -رضي الله عنها- أسوة حسنة للعمال والموظفين في أداء الأعمال والوظائف بأمانة وإتقان.
أيها المسلمون: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في بنوّته، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- حنونًا عطوفًا رحيمًا بأمه آمنة بنت وهب، فعن أبى هريرة قال: زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت" رواه مسلم.
وكان كذلك مع أمه من الرضاعة: حليمة السعدية؛ فقد قدمت مرة عليه تشكو إليه الجدب، فكلم خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيراً. ففي هذا قدوة صالحة للأبناء في حسن معاملة الأمهات.
عباد الله: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة للأزواج في بناء الحياة الزوجية على قاعدة حسن المعاشرة، وإيفاء الحقوق، وتوفير الجو الأسري السعيد، وقد ظهرت أمثلة الاقتداء في جوانب متعددة، منها: قيام اختيار الزوجة على أسس سامية وأهداف حميدة، فمن زوجات رسول الله من اختارها لشرفها وسموها بين قومها بالفضائل، ومنهن من اختارها جبراً لمصيبتها بفقد زوجها، ومنهن من اختارها تأليفًا لقبيلتها وقومها على الإسلام، ومنهن من اختارها؛ إكرامًا لأبيها الذي كان يحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لعظم مكانته في الإسلام، ومنهن من اختارها لغير ذلك من المقاصد الحسنة.
ومن تلك الجوانب: جانب التربية والتعليم، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة للأزواج في تعليم الزوجات وتربيتهن على محاسن الأقوال والأعمال؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا! قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: "ما أحب أن حكيت لي إنسانًا وأن لي كذا وكذا" رواه أبو داود والترمذي.
وعن جويرية -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟"، قالت: نعم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" رواه مسلم.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة للأزواج في مساعدة أهله والتخفيف عنهم في أعمال المنزل، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل في بيته؟ قالت: "كان بشرا من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" رواه أحمد وابن حبان.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة للأزواج في حسن التعامل وإدخال السرور على أهله، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سابقني النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبقته، فلبثنا، حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذه بتلك" رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة للأزواج في حسن العهد والذكر الحسن للزوجة إذا ماتت قبل زوجها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد" رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما.
أيها الإخوة الكرام: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في أخوّته، فقد أكرم أخته من الرضاعة الشيماء بنت الحارث السعدية يوم حنين، فحينما جمع السبي في غزوة حنين جيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأخته من الرضاعة، فأكرمها وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردها إلى قومها.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في أبوّته، فكان نِعمَ الأب المربي العطوف، فقد كانت تأتيه فاطمة -رضي الله عنها- فيهش لها ويبش ويقول: "مرحبًا بابنتي"، ويجلسها عن يمينه أو عن شماله. متفق عليه.
وكان يحب ولديها الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، ويحن إليهما، وكانا يتبعانه إلى المسجد فيقبل عليهما ويحتضنهما.
وفي غزوة بدر كان أبو العاص زوج زينب بنت رسول الله ضمن الأسرى فمنّ عليه رسول الله بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقّ لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوا، واشترط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت -رضي الله عنها-.
وكان ربما يحمل أمامة بنت زينب على ظهره في الصلاة، فعن أبي قتادة الأنصاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" متفق عليه.
و عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله؟! فقال: "يا ابن عوف، إنها رحمة". ثم أتبعها بأخرى فقال -صلى الله عليه وسلم- : "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون" متفق عليه.
عباد الله: وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في قرابته، حيث كان ناصحًا لهم، حريصًا على هدايتهم، وكان مكرمًا لهم، موصيًا بهم خيراً، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزل الله -عز وجل-: (وأنذر عشيرتك الأقربين). قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا؛ قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها"، ثم قال: "يا عمر، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟" متفق عليه.
ومن أمارات حرصه: ما فعله عند احتضار عمه أبي طالب، فعن ابن المسيب عن أبيه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل فقال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه". فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم). ونزلت: (إنك لا تهدي من أحببت)" متفق عليه. ففي هذا قدوة للمسلم في إكرام أقاربه والإحسان إليهم، وبذل النصيحة لهم.
أيها المسلمون: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في معاملة أصهاره: أزواج بناته، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يزورهم وينصحهم، ويثني عليهم، ويصلح بينهم وبين بناته إن حصلت مشكلة، فعن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة فلم يجد عليًا في البيت فقال: "أين ابن عمك؟". قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو"، فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب" رواه البخاري.
وعن علي -رضي الله عنه- أن فاطمة -رضي الله عنها- شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيٌ فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما!"، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: "ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما تكبران أربعًا وثلاثين، وتسبحان ثلاثا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم" رواه البخاري.
وعن المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خطب ابنة أبي جهل على فاطمة -رضي الله عنها- فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: "إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها". ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس -يعني أبا العاص زوج زينب، رضي الله عنهما- فأثنى عليه في مصاهرته إياه. قال: "حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله أبداً عند رجل واحد" متفق عليه.
أيها المسلمون: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في دعوته الناس وتربيته لهم، فقد مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مع نشاط وحرص واستمرار وتفكير وتخطيط، من أجل توسيع نطاق الدعوة وانتشارها.
فقد دعا في مكة الأفراد والقبائل، ثم انتقل إلى الطائف، ثم فكر بملاذ آمن يحتضن الدعوة وأهلها، فكانت الهجرتان إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة؛ ففي هذه قدوة صالحة للدعاة إلى الله -تعالى- في الإخلاص في الدعوة، والحركة بها، والاستمرار عليها.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربي الصحابة ويعلمهم بقوله وبفعله، بالكلمة الطيبة، والأسلوب الحسن، والموعظة المؤثرة؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مه مه! قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزرموه، دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه" متفق عليه.
أيها الفضلاء: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في قيادته العسكرية، فقد بلغ بذلك أعلى أسنمة القيادة وشرفها، فقد كان ذا حنكة ودراية، وتفكير وتخطيط، ودقة وعمق في رسم الأهداف وكيفية التوجه إليها في الوقت المناسب والحال الموافقة للنجاح.
ولم يكن ظالمًا ولا جبارًا ولا مستبدًا برأيه، بل كان عادلاً رحيمًا معتمداً على الشورى والأخذ بالآراء الصحيحة، قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
ففي هذا قدوة لكل قائد يريد النجاح في قيادته، وتماسك من تحت رعايته، والظفر بالأهداف المرجوة.
أيها الأحبة الكرام: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في حكمه وسياسته الناس، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- حاكمًا عادلاً عالمًا بماذا يحكم وكيف يسوس الرعية فيحافظ على الدين والدنيا، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- صاحب معرفة بالواقع الذي يحكم فيه والناس الذين يقودهم، وكان ذا معرفة بكيفية التعامل مع الأحداث الداخلية والخارجية، ولم تكن سياسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمة على الجور، حتى مع القريب الحبيب.
فعن عائشة -رضي الله عنها-: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله؟!". ثم قام فخطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه.
الله أكبر! هذا هو العدل الذي تصلح به الدنيا والآخرة للشعوب المسلمة إذا سارت عليه، ففي هذا أسوة حسنة لكل حاكم يريد السعادة لنفسه ولشعبه، وأن يُذكر بالجميل بعد ذهابه عن حكمه.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، وإذا ما انتقلنا إلى جانب آخر من جوانب الاقتداء بسيد الأنبياء فسنجد ذلك الجانب بحراً زاخراً بأمثلة الأسوة الحسنة، ذلك الجانب هو جانب الأخلاق والآداب التي قد أفاضت الحديث عنها كتبُ الشمائل المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال الله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]. فماذا نقول عن صدقه وأمانته، وطهارته وصفاء سريرته، وحسن حديثه وبهاء أسلوب كلامه؟ وماذا نقول عن ذكره وصبره وشكره وحسن عبادته؟ وماذا نقول عن حلمه وعفوه، ورحمته وعطفه، ورفقه ورأفته، وتواضعه ولين جانبه؟ وماذا نقول عن شجاعته وإقدامه، وشدة شكيمته وقوته في الحق ودفاعه عنه؟ وماذا نقول عن زهده وقناعته، وإعراضه عن الدنيا وقد ألقت نفسها بين يديه؟ وماذا نقول عن وقاره ورجاحة عقله، وحسن تصرفه، وحفظه لعهوده، ووفائه بوعوده؟ وماذا نقول عن غير ذلك من صفاته العذبة، وشمائله الكريمة التي بلغت في المجد الغاية، وفي الحمد النهاية؟.
فيا أيها المسلمون: الاقتداءَ الاقتداءَ بسيد الأنبياء! فلتكن أقوالنا وأعمالنا وأحوالنا منسوجة على منواله، في أقواله وأعماله وأحواله؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31]، وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
هذا وصلوا على النبي المختار...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي