عام مضى وعام أتى، عام مضى شهيد، وعام أتى جديد، عام مضى لكنه لم يمضِ هكذا بل مضى بأقوام معه، كم أخذ من أحباب! وكم دمر من شباب! فإذا بهم تحت التراب.. عام مضى كأنما يقول للشارد: عد، وللغافل: تنبه، وللمسرف: يكفيك ما فرطت في جنب الله، كأنما يقول لمن ران على قلبه الران وأغواه الشيطان: تداركْ ما بقي من عمرك قبل أن ترحل كما رحل غيرك، واعتبر برحيل غيرك قبل أن يعتبر الناس بك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، هو الإله الحق لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله تفرد بالبقاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى.
الجذع حن إليك يا خير الورى *** كيف النفوس إليك لا تشتاق
صلى عليك الله ما لاحت لنا *** شمس وما اهتزت هنا أوراق
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، أما بعد:
يا راقد الليل مسرورًا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا
أفنى القرون التي كانت منعمةً *** كر الجديدين إقبالًا وإدبارًا
كم قد أبادت صروف الدهر من ملك *** قد كان في الدهر نفاعًا وضرارًا
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها *** يمسي ويصبح في دنياه سفارًا
هلا تركت من الدنيا معانقةً *** حتى تعانق في الفردوس أبكارًا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها *** فينبغي لك أن لا تأمن النار
عباد الله:
عام مضى وعام أتى، عام مضى شهيد، وعام أتى جديد، عام مضى لكنه لم يمضِ هكذا بل مضى بأقوام معه، كم أخذ من أحباب! وكم دمر من شباب! فإذا بهم تحت التراب، وعام قدم ليأخذ معه آخرين، قدم ليرحل بأقوام قضى الله أن تنقضي آجالهم في هذا العام لكن لا يعلم بهم إلا الله.
أحبتي.. إن مرور الليالي والأيام ذهابٌ لأعمارنا، وسيرها سيرٌ بنا إلى الدار الآخرة، إلى الحياة الحقيقية، إلى الحياة الأبدية.
قال الحسن: "لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحب نوحًا وعادًا وثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا قد قدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرا به مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى".
قال ربنا –جل وعلا-: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37]،
وقال بعض الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه سارت به وإن لم يسر".
وقيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: "ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلةً إلى الدار الآخرة".
وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داعٍ إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تُطوى والمسافر قاعد
عباد الله:
أيام تمر تهدم الأعمار، وتقرِّب الآجال، وتوصِّل إلى الدار الآخرة، فما مضى يوم عليك إلا هو من عمرك. قال الحسن البصري –رحمه الله-: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك".
وقال بعضهم: "كيف يفرح من يومه يهدم شهره, وشهره يهدم سنته, وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته".
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تُطوى وهن مراحل
ولم أرَ مثل الموت حقًّا كأنه *** إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهن قلائل
عباد الله: إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه وشدائده أفصح الواعظين، وإن في مرور الليالي عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين وزاجرًا للمفرطين؛ قال ربنا –جل وعلا-: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 61، 62].
كتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد، فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يُسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه".
لقد مضى عام من أعمارنا، انهدم بمضيّه جزءٌ من عمر لن يزيد لحظةً، قال ربنا –جل وعلا-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].
قال أحدهم: "ابن آدم! إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك".
عام مضى ولن يعود لكنا ما عملنا فيه لم ولن يذهب، سنراه غدًا بين يدي الله، سنراه يوم تبلى السرائر"، (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
ما عملنا فيه سنراه حاضرًا يوم القيامة ولو كان صغيرًا ولو كان في العين حقيرًا؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة: 7، 8].
عام مضى كأنما يقول للشارد: عد، وللغافل: تنبه، وللمسرف: يكفيك ما فرطت في جنب الله، كأنما يقول لمن ران على قلبه الران وأغواه الشيطان: تداركْ ما بقي من عمرك قبل أن ترحل كما رحل غيرك، واعتبر برحيل غيرك قبل أن يعتبر الناس بك.
عام مضى، كأنما يقول لأحدنا: لقد قطعت مرحلةً من مراحل سيرك إلى الله، فكن على حذر.
قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنةً تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: أتعرف تفسيره، تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أن موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي".
عباد الله: اسألوا الذين جاوزا الستين والسبعين عن تلك المتع واللذات التي عاشوها، هل يحسون بشيء منها، ثم خذوا الجواب عبرةً لكم حتى لا تفرطوا في واجب ولا تقعوا في محرم.
قال الحجاج بن عيينة: "كان جابر بن زيد يأتينا في مصلانا، فأتانا ذات يوم عليه نعلان خلقان، فقال: مضى من عمري ستون سنة نعلاي هاتان أحب إليَّ مما مضى إلا أن يكون خيرًا قدمته".
ولو قدر أن أثر اللذات سيبقى في قلب الإنسان حتى الموت فالعمر وإن بلغ العبد المائة يعتبر لحظات إذا قارناه بالدار الآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون: 112 - 114].
بارك الله لي ولكم في القرآن المبين وهدي سيد المرسلين، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله كما أمر, وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وصلى الله وسلم وبارك على الشافع المشفع يوم المحشر، صلى الله عليه وعلى أصحابه السادة الغرر وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: معاشر المسلمين.. جاء جبريل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال له: "يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به". الحديث رواه الطبراني وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.
عش ما شئت فإنك ميت، هذه هي النهاية التي لا بد منها، مهما امتد العمر وطال لا بد من الرحيل.
ستنقلك المنايا من ديارك *** ويبدلك البلا دارًا بدارك
فدود القبر في عينيك يرعى *** وترعى عين غيرك في ديارك
سترحل عبد الله من دار الغرور إلى دار السرور أو إلى دار الويل والثبور –عياذًا بالله- ولن ينفعك إلا عملك، ولن تعطى فرصةً أخرى غير هذا العمر، فتدارك أمرك قبل أن تقول: رب ارجعون لعلّي أعمل صالحًا فيما تركت.
تدارك أمرك بالتوبة، تدارك أمرك بتوبة عاجلة، فلن تُرحم ولو بكيت بأعلى صوت إذا نزل بك العذاب.
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 54، 55].
حاسب نفسك اليوم فإنه أهون عليك في الحساب غدًا، فمن حاسب نفسه اليوم حوسب حسابًا يسيرًا وانقلب إلى أهله مسرورًا.
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 7 - 9].
خطب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الناس فقال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]".
وقال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
عباد الله: ليحاسب كل منا نفسه، ليس عند دخول عام وخروج عام بل على الدوام، ليسأل كل منا نفسه عما ما أوجب الله عليه من واجبات، هل هو حريص على أدائها، وعما حرم الله من محرمات، هل هو حريص على تركها، وليسأل نفسه عن عمله، هل يسره أن يلقى الله بهذا العمل أم لا، فإن كان يسره فليثبت على الطريق وإن كان لا يسره فليبادر إلى ما يرضي الله قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينًا ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم انصر جنودنا في الحد الجنوبي، اللهم انصرهم، اللهم أعنهم، اللهم قو عزائمهم، اللهم أعدهم سالمين غانمين منصورين، اللهم أعد لليمن أمنه واستقراره يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وفجاءة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة.
اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فرج هم المهمومين، اللهم نفس كرب المكروبين، اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم سقي رحمة لا سقي عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم إن بالبلاد والعباد من الشدة والحاجة والكرب ما لا نرفعه إلا إليك، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، يا سميع الدعاء، يا قريب يا مجيب.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي