لنعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل على رجاء ثوابه, وتارة خوف العقاب في تركه, وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه, وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه, من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة, وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته, وأنه أهل أن يطاع ويذكر فلا ينسي, ويشكر فلا يكفر ويعصى...
الحمد لله أحب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وأبغض المنكرات وأهلَها, يرحم من يشاء ويعذب من يشاء وإليه تقلبون, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير, ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من صلى وصام, وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي شعار الصالحين وآمان الخائفين (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: إنّ الإيمان بالله -عز وجل- والدعوة إليه والنصح والتعاون على البر, والتقوى والتواصي بالحق والصبر, وإشاعة الخير والفضيلة بين الناس, ومحاربة الشر والرذيلة والفساد واستئصاله من المجتمع, من أبرز سمات هذه الأمة أمة محمد ، يقول الله -جل وعلا-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، وذلك لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل، وانتشار الفساد وتفاقم المحرمات.
أيها الإخوة جاء في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" -وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها-، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
إذا كثر الخبث، فلا ينكر المنكر، ولا يأمر بالمعروف، ويسري داء المنكرات في المجتمع سير الهشيم بلا أي تحنّه، ولا ألسنة توهنه، عند ذلك ترى الحال التي تستوجب العقوبة والهلاك، فلا تدري أيصبحها ذلك أم يمسيها.
أيها الناس: إن قوماً جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فما عاد بعضهم ينكره على بعض.
روى الترمذي وحسنه وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض"، ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنبي -عليه الصلاة والسلام- وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة 81:78 ], ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم".
أيها المسلمون: وذلك الوعد الصادق بإجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، لا يتحقق إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة.
أيها الأحبة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان للمجتمع من تلك العقوبات الإلهية، وصمام أمان من انحدار المجتمع في مهاوي الردى واللحوق بركب الحياة البهيمية.
وخير مثال لبيان ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
فتأملوا هذه المثل العظيم، لتدركوا أن أهل الباطل عندما يدكوا بمعاول باطلهم سفينة النجاة التي يسير فيها المجتمع, إذا لم يؤخذ بأيدهم وتكسر معاولهم؛ فإن الغرق يهدد المجتمع بأكمله.
إذاً فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً, ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165], وقال -سبحانه-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 116، 117]. قال الحسن -رحمه الله-: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تكونوا أنتم الموعظات".
إخوة العقيدة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد اختلف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل يسمى فريضة أم لا؟ فقال جويبر عن الضحاك: "هما من فرائض الله -عز وجل-", وكذا روى عن مالك وروى عبد الواحد بن زيد عن الحسن فقال: "ليس بفريضة كان فريضة على بني إسرائيل, فرحم الله هذه الأمة لضعفهم, فجعله عليهم نافلة", وكتب عبد الله بن شبرمة إلى عمرو بن عبيد أبياتا مشهورة أولها:
الأمر بالمعروف يا عمرو نافلة *** والقائمون به لله أنصار
واختلف كلام الإمام أحمد فيه هل يسمى واجبا أم لا؟ فروى عنه جماعة ما يدل على وجوبه, ورواه عنه أبو داود في الرجل يرى الطنبور ونحوه أواجب عليه تغييره؟ قال: "ما أدري ما واجب إن غيره فهو نفل", وقال إسحاق بن راهوية: "هو واجب على كل مسلم إلا أن يخشى على نفسه".
وقال ابن شبرمة: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين, ويحرم عليه الفرار منهما, ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك, فإن خاف السب أو سماع الكلام السيء لم يسقط عنه الإنكار, بذلك نص عليه الإمام أحمد, وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل نص عليه أحمد أيضا".
وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال -سبحانه وتعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104], وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وروى أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب, يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أي أن من لم ينكر المنكر ولو بقلبه فقلبه عديم الإيمان". قال سفيان -رحمه الله-: "إذا أمرت بالمعروف أفرحت المؤمن, وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
أيها الناس: لنعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل على رجاء ثوابه, وتارة خوف العقاب في تركه, وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه, وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه, من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة, وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته, وأنه أهل أن يطاع ويذكر فلا ينسي, ويشكر فلا يكفر ويعصى.
وأنه يفتدي من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال, كما قال بعض السلف: "وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله, وأن لحمي قرض بالمقاريض", وكان عبد الملك بن عمر بن عبدالعزيز يقول لأبيه: "وددت أني غلت بي وبك القدور في الله تعالى", وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "ياليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به, فكلما عملت فيكم بسنة وقع منى عضو, حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي".
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"، وقال ابن حزم: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها".
وقد اعتبره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شرطاً رئيسياً في الانتماء إلى صفوف هذه الأمة، فقد قرأ قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110] ثم قال: "أيها الناس: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها"، وقال الإمام النووي: "وأما قوله: "من رأى منكم منكراً فليغيره", فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة, وقد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة".
ولنعلم أن بتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110], وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي, (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
وإن ضعف هذه الشعيرة في مجتمع، لا يقف عند حدود هذا الضعف، بل المصيبة في ذلك مضاعفة، حيث ينتج عن ذلك لا محالة قوة شديدة في الدعوة إلى المنكر وإبرازه وإحداث الحصانة له، بل يصل الأمر إلى الإكراه عليه، وينتج عنه أيضاً حرب للمعروف وإيذاء لأهله.
وهكذا بقدر ما يكون الضعف يكون ما يقابله حتى تصبغ بالمجتمع حال النفاق والمنافقين كما أخبر الله تعالى بقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67].
أيها المؤمنون: إن النفوس الضعيفة عندما تنقطع عليها لذائذها المحرمة بتحقيق تلك الشعيرة في المجتمع, تسعى جهدها لتهوين تلك الشعيرة، بإلقاء الشبهات والآراء السفيهة حولها، فتجدهم في حين يدعون أن ذلك ينافي الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل إنسان، ويزيد الطين بلة عندما يستدل لرأيه هذا بقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] وما علم أن هذه الآية في الكافر أن لا يُكره على دخول الإسلام، بل وليس كل كافر، فقد رجح كثير من المفسرين أن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم، فتؤخذ منهم الجزية ويبقون على دينهم، هذا وقد ذهب بعض أهل العلم أن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إن ذلك الكافر ليس له أن يفعل في مجتمع المسلمين ما يشاء مما يقرّه مجتمعه، فهل يريد ذلك بمثل هذه الاستدلال أن يسقط تلك الشعيرة؟، فأين تلك الآيات والأحاديث المتوافرة بشأنها وعظم وجوبها؟, ثم أين تلك الحرية المزعومة حين تردّ الأمور إلى اختيار نفس ضعيفة، همها السعي وراء لذائذها؟، وتلك أحوال الأمم التي تدعي الحرية المطلقة لكل فرد من أفرادها كيف استحالت إلى مجتمعات بهيمية بل أسفل من ذلك؟، وفي كل يوم ينطق حالها بتلك الفضائح المخزية، وتلك الآراء التي تضحك العقول، وما تلك المؤتمرات التي يعقدون عن السامع ببعيد.
وتأتي حجة أخرى باعثها التقاعس عن تلك الشعيرة أو المحاربة لها، وذلك أن المرء عليه بنفسه وصلاحها، ولا يلتفت إلى مخالفات الآخرين, فإن ذلك لا يضربه فالضرر على أصحابها فقط، ثم يستدل بقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105], ولو تأمل الآية بتمامها لما نطق بالاحتجاج بها على رأيه هذا، وقد تصدى الصديق لهذه الشبهة فقال: "يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" [رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
ويأتي آخر ويوهن من قدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصدع بالحق, بحجة أن ذلك موجب للفتنة والبلاء، وقد يُتسلط بسبب ذلك على الصالحين؛ فتضعف هيبتهم في قلوب الناس، ولا يؤخذ منهم قول ولا رأي.
فسبحان الله!! أي دعوة صادقة قامت من غير ابتلاء، ومصاعب يلاقيها أصحابها، هل سلم من ذلك الأنبياء حتى يسلم منه غيرهم؟! ولكنه خلودٌ إلى بعض المتاع، ولو مست أي مصلحة من مصالحه لأقام الدنيا وأقعدها ولم يبال أتكلم به فلا، أو ترصد له فلان.
وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسول الله يُرغب عنها وهو بارد القلب! ساكت اللسان! شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق. وهل بليّه الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟!.
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله, بذل وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل".
إخوة الدين: وهذا الإمام أحمد يخبر عمر بن صالح بمثل ذلك. قال عمر بن صالح: قال لي أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد-: "يا أبا حفص يأتي على الناس زمان المؤمن بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع، فقلت: وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟ قال: صيروا أمر الله -عز وجل- فضولاً. قال: المؤمن إذا رأى أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا هذا فضول. قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على أنفه، فيقال: نعم، الرجل ليس بينه وبين الفضول عمل".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي