الحسن بن علي -رضي الله عنهما-

إبراهيم بن صالح العجلان
عناصر الخطبة
  1. ولادة الحسن رضي الله عنه وفرح النبي صلى الله عليه وسلم به .
  2. صور من محبة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه .
  3. وداع الحسن للنبي صلى الله عليه وسلم .
  4. إكرام الخلفاء الراشدين للحسن بن علي رضي الله عنهما .
  5. بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما للخلافة .
  6. تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه جمعا لكلمة الأمة. .

اقتباس

الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَيْحَانَتُهُ، وَأَشْبَهُ النَّاسِ بِدَلِّهِ وَخِلْقَتِهِ، سِيرَتُهُ مَلْأَى بالْكَرَائِمِ وَالْمَعَالِي، وَالْإِيثَارِ وَالتَّفَاني، وَالتَّعَالي عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِ الِمَنَاصِبِ.

الخُطْبَةُ الأولَى:

إِخْوَةَ الإِيمَانِ:

حِينَمَا يَكُونُ الْحَدِيثُ عَنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَطِيبُ، وَالْقُلُوبَ تَهْفُو، وَالْآذَانَ تُصْغِي، فَهُمْ شَامَةُ الْأُمَّةِ وَخَيْرُهَا، وَهُمْ صَفْوتُهَا وأَنْجُمُهَا، اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ.

وَإِذَا كَانَتْ سِيَرُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ حَدِيثًا مَاتِعًا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ سَادَتِهِمْ وَأَفَاضِلِهِمْ يُعَدُّ مَثَلًا وَقُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِالْأَخَصِّ حِينَمَا تَغِيبُ الْقُدُواتُ، ويَعْلُو صَوْتُ الْفُحْشِ الْأَخْلَاقِيِّ، وَيَلُفُّ الأُمَّةَ طُوفَانٌ مِنَ الْفِتَنِ وَالتَّفَرُّقِ وَالدِّمَاءِ.

نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ، وَالْقَائِدِ النَّاصِحِ، وَالْمُصْلِحِ الرَّبَّانِيِّ.

مَعَ مَنْ ؟ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي رَكَلَ أَعْلَى الرِّئَاسَاتِ مِنْ أَجْلِ دِمَاءِ النَّاسِ، وَدِينِ النَّاسِ، وَجَمْعِ كَلِمَةِ النَّاسِ.

هُوَ أَحَدُ سَادَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسَيِّدُ شَبَابِ الْجَنَّةِ.

نَحْنُ مَعَ حِبِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَيْحَانَتِهِ، وَأَشْبَهِ النَّاسِ بِدَلِّهِ وَخِلْقَتِهِ، سِيرَتُهُ مَلْأَى بالْكَرَائِمِ وَالْمَعَالِي، وَالْإِيثَارِ وَالتَّفَاني، وَالتَّعَالي عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِ الِمَنَاصِبِ. 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: هَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحُثُّ خُطَاهُ إِلَى بَيْتِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، بَعْدَ أَنْ سَمِعَ خَبَرَ وَضْعِهَا لِجَنِينِهَا الأَوَّلِ، فَلَمَّا رَآهَا وَرَآهُ عَلَا مُحيَّاهُ الْبِشْرُ، فَقَالَ: أَرُونِي ابْنِي، فَحَمَلَهُ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُمَا: مَا أَسْمَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: حَرْبًا، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا، بَلْ هُوَ حَسَنٌ.

وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ عَقَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحَسَنِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَحَلَقَتْ فَاطِمَةُ شَعْرَ طِفْلِهَا، وَتَصَدَّقَتْ بِوَزْنِه ذَهَبًا.

عَاشَ هَذَا الطِّفْلُ وَتَرَعْرَعَ فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الَّذِي قَالَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وَامْتَلَأَ قَلْبُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَحَبَّةً وَرَحْمَةً بِهَذَا الْمَوْلُودِ الْجَدِيدِ، وَمَنَحَهُ مِنْ عَطْفِ الْأُبُوَّةِ وَحَنَانِهَا شَيْئًا كَبِيرًا، حَتَّى سَمَّاهُ: رَيْحَانَتَهُ.

كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ عَنِ الْحَفِيدِ الْحَبِيبِ، فَكَانَ يُتابِعُ أَخْبَارَهُ فِي صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، فِي غِذَائِهِ وَنُمُوِّهِ، فَكَانَ اسْمُ الْحَسَنِ وَرَسْمُهُ شَمْعةَ فَرَحٍ وَزِينَةٍ فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الطَّاهِرِ.

مَضَتِ الْأَيَّامُ وَالسَّيِّدُ الْحَسَنُ تَكْبُرُ مَعَالِمُ جِسْمِهِ وَوَجْهِهِ، حَتَّى غَدَا شَبِيهًا بِجَدِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا تَسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ عِنَايَةِ الْجَدِّ بِهِ، وَلَا عَنْ دِفْءِ الْحَنَانِ الَّذِي يَلْقَاهُ الْحَسَنُ، فَكَانَ الْجَدُّ رَغْمَ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَهَمِّ الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَة قَرِيبًا مِنَ الْحَسَنِ، وَرَفِيقَهُ الْمُفَضَّلَ، إِذَا رَأَتْ عَيْنَاهُ سَوَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْطَلَقَ إِلَيْهِ، يُمَازِحُهُ وَيُلَاعِبُهُ، وَيَتَسَلَّقُ صَدْرَهُ، ويَرتَحِلُ ظَهْرَهُ، وَنَبِيُّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَابِلُ هَذَا الشَّوْقَ بِاللَّعِبِ مَعَهُ، وَتَقْبيلِهِ، وَمُدَاعَبَتِهِ، حَتَّى عَرَفَ الصَّحَابَةُ شِدَّةَ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْحَسَنِ، وَتَوَاتَرَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: رَأَيْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

بَلْ رُبَّمَا دَخَلَ الْحَسَنُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَامْتَطَى ظَهْرَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ سَاجِدٌ، فَيُطِيلُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ السَّجْدَةَ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُعْجِلَهُ.

يُحَدِّثُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِمَشْهَدٍ رَآهُ فَيَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ، حَتَّى وَصَلَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ وَجَعَلَ يَقُولُ : أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ، -يَعْنِي: الْحَسَنَ-، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لِأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى، حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه".

كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَكْبَرُ فَتَكْبَرُ مَعَهُ الْمَكَارِمُ، وَتَزْدَادُ مَكَانَتُهُ فِي النُّفُوسِ، مِنْ كَثْرَةِ لُصُوقِهِ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِ عَنْهُ، بَلْ رُبَّمَا رَكِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدَّابَّةَ فَأَرْكَبَ الْحُسَيْنَ أَمَامَهُ، وَالْحَسَنَ خَلْفَهُ، فَكَانَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ يُحِبُّونَ الْحَسَنَ لِفَضْلِهِ وَقُرْبِهِ، وَلِمَحَبَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ. 

يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حُبُّكُمُ *** فَرْضٌ مِنَ اللهِ فِي القُرْآنِ أَنْزَلَهُ

كَفَاكُمُ مِنْ عَظِيمِ القَدْرِ أَنَّكُمُ *** مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لاَصَلاَةَ لَهُ

يَكْفِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- شَرَفًا وَفَضْلًا قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ".

وَقَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الدُّنْيَا بِلَحَظَاتٍ يَسِيرَاتٍ، لَمْ يَنْسَ أَنْ يُوَدِّعَ الْحَسَنَ وَأَخَاهُ الْحُسَيْنَ بِقُبُلَاتٍ حَارَّاتٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِمَا خَيْرًا.

تَأَلَّمَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ فِي رَبِيعِهِ السَّابِعِ لِوَفَاةِ جَدِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا؛ فَقَدْ كَانَ الْجَدُّ فِي حَيَاتِهِ وَالِدًا رَحِيمًا، وَمُرَبِّيًا عَظِيمًا.

وَلَمْ يَمْضِ مِنَ الْأَيَّامِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إِلَّا وَالْأَحْزَانُ تَتَجَدَّدُ فِي قَلْبِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، حِينَمَا فُجِعَ بِوَفَاةِ أُمِّهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْجَنَّةِ.

لَا تَسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مَرَارَاتِ الْأَحْزَانِ، وَزَفَرَاتِ الْأَشْجَانِ الَّتِي كَانَ يُدَافِعُهَا ذَلِكَ الْقَلْبُ الصَّغِيرُ الْبَرِيءُ.

نَعَمْ لَقَدْ مَاتَ حَبِيبُ الْحَسَنِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَكِنَّ مَحَبَّةَ الْحَسَنِ لَمْ تَمُتْ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَعَاشَ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا فِي مُجْتَمَعِ الصَّحَابَةِ.

لَقَدْ وَفَّى الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ السِّتِّينَ عَامًا يَعْطِفُ وَيَحْنُو عَلَى الْحَسَنِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ؛ كَانَ إِذَا رَآهُ يُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَيَبِشُّ لَهُ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى كَتِفِهِ ويُلَاعِبُهُ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ أَبَرِّ الصَّحَابَةِ بِبَيْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آلِ بَيْتِهِ، بَلْ هُوَ الْقَائِلُ: لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي.

وَمَا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ خِلاَفَتَهُ *** إِلاَّ انْحَنَى مُرْهَفَ الْوِجْدَانِ وَابْتَسَمَا

وَقَالَ قَوْلَةَ إِجْلاَلٍ وَمَرْحَمَةٍ *** قَرَابَةُ المُصْطَفَى أَوْلَى بِنَا رَحِمَا

تَأَثَّرَ الْحَسَنُ بِشَخْصِيَّةِ الصِّدِّيقِ وَأَحَبَّهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَلَمْ يَنْسَ إِكْرَامَهُ وَإِحْسَانَهُ، حَتَّى إِذَا تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بَعْدَ سِنِينَ عِدَّةٍ سَمَّى أَحَدَ أَوْلَادِهِ بِأَبِي بَكْرٍ، حُبًّا وَتَقْدِيرًا لِلصِّدِّيقِ.

ثُمَّ جَاءَ الْفَارُوقُ وَأَكْرَمَ الْحَسَنَ وَمَعَهُ الْحُسَيْنُ، وَقَدَّمَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ شَبَابِ الصَّحَابَةِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْعَطَايَا وَالِاهْتِمَامِ.

جِيءَ لِعُمَر بِحُلَلٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَمَرَ أَنْ تُوَزَّعَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسَ عَلَيْهِمَا مِنْ هَذِهِ الْحُلَلِ، فَأَصَابَتِ الْفَارُوقَ كَآبَةٌ مِنَ الْحُزُنِ، فَكَتَبَ إِلَى وَالِي الْيَمَنِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِحُلَّتَيْنِ وَعَجِّلْ، فَبَعَثَهُمَا عُمَرُ إِلَيْهِمَا.

تَذْكُرُ كُتُبُ التَّارِيخِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا فُتِحَتْ لَهُ كُنُوزُ كِسْرَى وَهِرَقْلَ جَعَلَ يَفْرِضُ الْعَطَايَا لِلنَّاسِ، فَكَانَ يُعْطِي النَّاسَ بِحَسَبِ سَابِقَتِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَكَانَ نَصِيبُ الْحَسَنِ مِنْ أَعْلَى الْعَطَاءِ.

وَهَكَذَا كَانَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ فِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ الْحَسَنِ السَّيِّدِ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمْسِكُ خِطَامَ الدَّابَّةِ لِلْحَسَنِ إِكْرَامًا لَهُ، وَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَلْقَى الْحَسَنَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَيَسْأَلُهُ أَنْ يَكْشِفَ لَهُ بَطْنَهُ لِيُقبِّلَ الْمَكَانَ الَّذِي رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُ الْحَسَنَ مِنْهُ.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الْعِبَادَةُ وَالزُّهْدُ، وَالتَّقَلُّلُ مِنَ الدُّنْيَا، وَالِانْقِطَاعُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ، صِفَاتٌ تَسَامَتْ فِي شَخْصِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، فَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَوَّامًا بِاللَّيْلِ، صَوَّامًا بِالنَّهَارِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ، ذُكِرَ أَنَّهُ حَجَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً.

وَمِنْ مَلَامِحِ شَخْصِيَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا، شَهْمًا مِعْطَاءً، يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ رُوحًا بَاذِلَةً، وَنَفْسًا مُتَوَاضِعَةً، يُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ، لَا يَرُدُّ طَالِبًا، وَلَا يَنْهَرُ سَائِلًا، وَلَا يُخَيِّبُ مَنْ قَصَدَهُ مُحْتَاجًا.

وَمِنْ صِفَاتِ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَلِيلُ الْكَلَامِ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُ، لَكِنَّهُ إِذَا تَحَدَّثَ أَبْهَرَ السَّامِعِينَ، كَانَ خَطِيبًا مُفَوَّهًا، وَمُتَحَدِّثًا بَلِيغًا فَصِيحًا، كَيْفَ لَا وَقَدْ تَرَبَّى فِي أَفْصَحِ الْبُيُوتِ، وَوَالِدُهُ مَنْ قَدْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ شَيْئًا كَثِيرًا.

تِلْكَ -عِبَادَ اللهِ- طَرَفٌ مِنْ أَخْبَارِ الْحَسَنِ، وَمُلَحٌ مِنْ سِيرَتِهِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، فَاللَّهُمَّ إِنَّا نُشْهِدُك أَنَّنَا نُحِبُّ الْحَسَنَ وَآلَ بَيْتِ نَبِيِّكَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اللَّهُمَّ فَأَلْحِقْنَا بِهِمْ فِي الصَّالِحِينَ، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ.

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ،.... وَفِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ لِلْهِجْرَةِ يُقْتَلُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِغَدْرَةٍ مِنَ الشَّقِيِّ ابْنِ مُلْجَمٍ الْخَارِجِيِّ.

وَيُبَايِعُ الْمُسْلِمُونَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ سِوَى الشَّامِ، وَقَدْ قَرَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ كَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَابْنِ كَثِيرٍ أَنَّ خِلَافَةَ الْحَسَنِ تَدْخُلُ فِي الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "الْخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا".

وَمَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ خِلَافَةِ الْحَسَنِ وَهُوَ يَسِيرُ بِالْأُمَّةِ سِيرَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ لَهُ سَامِعِينَ طَائِعِينَ، فَرَأَى الْحَسَنُ أَنَّ أَمْرَ الْأُمَّةِ فِي فِتَنٍ وَدِمَاءٍ وَاخْتِلَافٍ طِيلَةَ خَمْسِ سَنَوَاتٍ مِنْ بَعْدِ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَرَأَى أَنَّ حَالَ الْأُمَّةِ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ، فَتَنَازَلَ بِالْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الشَّامِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ بِعَامِ الْجَمَاعَةِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ طُولِ خِلَافٍ، لِيُسَجِّلَ التَّارِيخُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- هُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ يَتَنَازَلُ عَنِ الْإِمَارَةِ الَّتِي تُنْزَعُ مِنْ أَهْلِهَا نَزْعًا (وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ).

لَمْ يَتَنَازَلِ الْحَسَنُ لِأَجْلِ مُعَارَضَةٍ، وَلَا مِنْ قِلَّةِ خِبْرَةٍ أَوْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ، وَإِنَّمَا تَنَازَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ وَهُوَ فِي كَامِلِ قُوَاهُ، وَكَانَتْ جَمِيعُ الْأَمْصَارِ تُحِبُّهُ وَتُرِيدُهُ، تَنَازَلَ عَنْ هَذَا الْمَنْصِبِ الَّذِي يُبَاعُ الدِّينُ فِيمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ أَجْلِهِ، مِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمُ الَّتِي تُرَاقُ.

وَوَقَعَ مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحَسَنِ: "ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

لَقَدْ كَانَ مَوْقِفُ الْحَسَنِ رِسَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَنَهْضَتَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِقْرَارِ ثُمَّ الْبِنَاءِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَنَاصِبَ دُنْيَوِيَّةٍ زَائِلَةٍ. 

كَمْ تَحْتَاجُ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ أَفْرَادًا وَحُكُومَاتٍ وَأَحْزَابًا وَرِئَاسَاتٍ إِلَى فِقْهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي رَأْبِ الصَّدْعِ، وَحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَتَسْكِينِ الْفِتَنِ، وَتَقْدِيمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ الْآنِيَّةِ؟!

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى نَمُوذَجِ الْحَسَنِ لِنَتَعَلَّمَ مِنْهُ التَّزَهُّدَ فِي الرِّئَاسَاتِ، وَإِدْرَاكَ فِقْهِ الْخِلَافَاتِ، وَتَقْدِيرَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَتَطْبِيقَ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ؟!

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِفِقْهِ الْحَسَنِ فِي وَقْتٍ تُبَادُ فِيهِ شُعُوبٌ، وَيُسْحَقُ فِيهِ أَبْرِيَاءُ، وَتُرَاقُ شَلَّالَاتُ الدِّمَاءِ لِأَجْلِ رِئَاسَةٍ فَانِيَةٍ، عَلَى صَاحِبِهَا غُرْمُهَا وَحِسَابُهَا؟! (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

وَبَعْدَ هَذَا الْمَوْقِفِ الْبُطُولِيِّ، وَالْقَرَارِ الشُّجَاعِ مِنَ الْحَسَنِ عَادَ لِلْأُمَّةِ هَيْبَتُهَا، وَتَحَرَّكَتْ جُيُوشُ الْإِسْلَامِ فِي غَرْبِ إِفْرِيقْيَا وَشَرْقِ آسْيَا تُبَلِّغُ دَعْوَةَ اللهِ لِلْعَالَمِينَ.

وَبَقِيَ اسْمُ الْحَسَنِ مَحْفُورًا فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَقِيَ تَنَازُلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ حَدَثًا تَارِيخِيًّا لَا يُنْسَى.

اللَّهُمِّ زَكِّ قُلُوبَنَا، وَاجْمَعْ كَلِمَتَنَا، وَوَحِّدْ صُفُوفَنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا، وَبَلِّغْنَا فِيمَا يُرْضِيكَ آمَالَنَا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ....


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي