مع توفر كثير من وسائل المتعة والترفيه والراحة في أيدينا إلا أن كثيرًا منا أصبح يعاني من داء عضال أفقده لذة ما يملك، حتى غدت ظاهرة نغصت حياة كثير من الناس، لدى الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وصار كل واحد منهم يعبّر عنها بأسلوبه الفريد، وطريقته الخاصة، ذاك هو الملل، وهو شعور ينتاب الشخص، يشعره بأن الحياة أصبحت لا قيمة لها، ويفقد التلذذ بكل شيء من حوله، ويصبح فاقدًا القدرة على الاستمتاع بأي شيء حوله...
الحمد لله...
أيها الكرام: مع توفر كثير من وسائل المتعة والترفيه والراحة في أيدينا إلا أن كثيرًا منا أصبح يعاني من داء عضال أفقده لذة ما يملك، حتى غدت ظاهرة نغصت حياة كثير من الناس، لدى الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وصار كل واحد منهم يعبّر عنها بأسلوبه الفريد، وطريقته الخاصة.
والملل: هو شعور ينتاب الشخص، يشعره بأن الحياة أصبحت لا قيمة لها، ويفقد التلذذ بكل شيء من حوله، ويصبح فاقدًا القدرة على الاستمتاع بأي شيء حوله؛ ولذلك حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يصل الملل إلى قلوب أصحابه، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يذكّر كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملّكم، «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا».
وهذه الظاهرة ترجع في الغالب: إلى طغيان المادة على حياة الناس، وبعدهم عن ربهم عز وجل، يقول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
يقول الإمام ابن كثير: "أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حَرَج لضلاله، وإن تَنَعَّم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد. فهذا من ضنك المعيشة".
ومن أسباب كثرة الشعور بالملل: الإغراق في الماديات، والاعتناء بترفيه الجسد، وإغفال تربية الروح وتغذيتها بالاتصال بالخالق جل وعلا. قال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله-: "إذا ترفه الجسد تعقدت الروح".
ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى الملل والفتور من العيش، واليأس والإحباط الذي يصيب الإنسان هو الإعراض عن ربه -عز وجل-، والبعد عن طاعة الله تعالى وعن ذكره سبحانه وتعالى، وحينها يتحقق فيه قول المولى تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
ومن أسباب انتشار الملل في أوساط كثير من الناس قضاء الحياة على وتيرة واحدة: فإن مَنْ يعِشْ عمرَهُ على وتيرةٍ واحدة جديرٌ أن يصيَبهُ المللُ؛ لأن النفس ملولةٌ، فإنَّ الإنسانَ بطبعهِ يَمَلُّ الحالةَ الواحدةَ؛ ولذلكَ غايَرَ -سبحانَهُ وتعالى- بين الأزمنةِ والأمكنةِ، والمطعوماتِ والمشروباتِ، والمخلوقاتِ، ليلٌ ونهارٌ، وسهلٌ وجَبَلٌ، وأبيضُ وأسودُ، وحارٌّ وباردٌ، وظلٌّ وحَرُور، وحُلْوٌ وحامضٌ، وقدْ ذكر اللهُ هذا التنُّوعَ والاختلافَ في كتابِهِ: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) (صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) (مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا) (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
وقد ملَّ بنو إسرائيل أجود الطعامِ؛ لأنهمْ أداموا أكْله: (لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ). وكان المأمونُ يقرأُ مرةً جالساً، ومرةً قائماً، ومرةً وهو يمشي، ثم قال: النفسُ ملولةٌ، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ).
ومن يتأمَّلِ العباداتِ، يَجِدْ التنوُّعَ والجدَّةَ، فأعمالٌ قلبيَّةٌ وقوليةٌ وعمليةٌ وماليةٌ، صلاةٌ وزكاةٌ وصومٌ وحجٌّ وجهادٌ، والصلاةُ قيامٌ وركوعٌ وسجودٌ وجلوسٌ، فمنْ أراد الارتياح والنشاط ومواصلةَ العطاءِ فعليهِ بالتنويعِ في عملِهِ، واطلاعِهِ وحياتِهِ اليوميَّةِ، فعندَ القراءةِ مثلاً ينوِّعُ الفنونَ، ما بين قرآنٍ وتفسيرٍ وسيرةٍ وحديثٍ وفقهٍ وتاريخٍ وأدبٍ وثقافةٍ عامَّةٍ، وهكذا، يوزِّع وقته ما بين عبادةٍ وتناولِ مباحٍ، وزيادةٍ واستقبالِ ضيوفٍ، ورياضةٍ ونزهةٍ، فسوفَ يجدُ نفسَهُ متوثِّبةً مشرقةً؛ لأنها تحبُّ التنويعَ وتستملحُ الجديدَ.
ومن أسباب انتشار الملل: الاستسلام لهوى النفس، والتكاسل عن أداء الواجبات، فالتكاسل والاستسلام لهوى النفس والركون إلى الكسل وعدم الجد، من شأنه أن يؤدي إلى الإنسان بالملل؛ لأنه يصرف الإنسان عن الجد والاجتهاد، والحرص والمتابعة، والاهتمام بتحقيق كثير من الطموحات التي يسعى لها كل إنسان، والأخذ بأسباب النجاح والتفوق الدنيوي، ويكسل عن البذر والزرع، وينشغل عن ذلك باللهو والترف، فحينها لا يجد نفسه إلا محبطا من الحياة كلها.
أيها المؤمنون:
ثم إن من المعلوم أن الملل ظاهرة خطيرة، تؤدي بالإنسان إلى نتائج سلبية كبيرة، تفقده لذة حياته، وإشراقة روحه، ومن أهم هذه الآثار التي تؤدي إليها ظاهرة الملل:
القلق والاكتئاب: فبقدر قرب المرء من ربه وتعلقه به أو بعده عنه تكون درجة القلق عنده فالبعيد من ربه خائف مضطرب يتوقع السيء في كل حركة بينما الموصول بربه المرتبط بخالقه يذكره ويسبحه ويحمده ويشكره تهون عنده الأمور ويستعين على المشاكل والمصائب باللجوء إلى خالقها وموجدها ومن بيده حلها فتهدأ نفسه ويزول قلقه بإذن الله.
والقلق والاكتئاب من الآثار الظاهرة لمن انقطعت صلته بربه وتعلق بحبال غيره.. ذلك أن الله تعالى قدّر أن الراحة النفسية وسكينة النفس والحياة الطيبة لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح والتعلق بالله -عز وجل- قال سبحانه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ يكل يوم من "الهم والحزن"؛ إذ إن الهم والحزن نتيجة لتسلط الملل على النفس، واستسلام المرء له، قال ابن القيم: "الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويقعد عن العمل ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن".
ومن آثار الاستسلام للملل: عدم القدرة على القيام بالواجبات من الأعمال؛ ذلك أن الذي يشعر بالملل والسآمة والضيق والضجر، تراه لا يستطع القيام بواجباته من الأعمال الدينية أو الدنيوية. فهو يرى الدنيا في نظره ليس لها فائدة، وأن الحياة غير مجدية، فلم يكون التعب والجد؟! فتراه بعد ذلك مقصرًا في أداء صلواته، أو عبادته، متكاسلاً عن أداء أعماله، مما يسبب له الخسران في الدنيا والآخرة، فيصبح ذاك الإنسان لا يشعر أبدًا بمسئولياته تجاه نفيه أو أهله أو دينه.
أيها الكرام: إن لكل داء دواء، ومعرفة أسباب انتشار ظاهرة الملل وآثارها على النفس والمجتمع يحفز العاقل إلى توقيها، والسعي في علاج آثارها أو التقليل منها قدر الإمكان:
ومن الوسائل المعينة على علاج ظاهرة الملل:
1 - الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه وطلب المعونة منه في كل أمر تحاوله، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]. لهذا كان من دعاء عباد الله الصالحين أنهم يقولون: (وَجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]، وإمامة المتقين من أعلى مراتب علو الهمة.
2- الإقبال على القرآن الكريم، فهو خير ذكر نزل من عند الله تبارك وتعالى، وهو شفاء لما في الصدور وسبب للطمأنينة وهناءة العيش. قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82].
3- مداومة ذكر الله تعالى، هذا أمر مهم لكل مسلم عامة، ولمن يعيش تلك الآفة النفسية خاصة، لأن الأخذ بها من أسباب الحصول على الراحة النفسية والطمأنينة القلبية، قال الله تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
4- السعي والحرص على الأمور النافعة؛ امتثالاً للتوجيه النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" (رواه مسلم).
5- العناية بترتيب الأوقات وتنظيمها، فاجعل لتحصيلك العلمي وقتاً ولتحصيلك الزائد عن ذلك وقتاً آخر، واجعل للترفيه عن النفس وإجمامها وتسليتها وقتاً آخر، فهذب أوقاتك ونظمها تظفر بالفوز وتغنم يومك وليلتك.
6- الترويح عن النفس، فالترويح المباح أمر محمود أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو كفيل بأن يقي الإنسان الملل وضيق النفس.
وصلوا وسلموا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي