دروس من غزوة تبوك

ناصر بن محمد الأحمد

عناصر الخطبة

  1. الحكمة من استمرار الصراع بين الحق والباطل
  2. تاريخ غزوة تبوك وسببها وأحداثها
  3. بعض الدروس والعبر المستفادة من غزوة تبوك

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله..

أما بعد:

عباد الله: اعلموا أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في صراعٍ دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمنذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى، ومشركين ومنافقين، يحاولون القضاء عليه، بكل ما يستطيعون: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[الصف: 8].

والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟!.

أيها المسلمون: يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي يتحسر، يوم يجد البون شاسعا والفرق كبيراً، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، قد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها، ونهج نبيها، فعوداً سريعا إلى الماضي المجيد؛ لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عوداً لسيرة من لم يطرق العالم دعوةٌ كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد -صلى الله عليه وسلم- لنأخذ العبر والدروس.

نعود بكم إلى شهر رجب سنة تسعٍ من الهجرة لنعيش وإياكم أحداث غزوة تبوك، وجيش العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذل فيها الكافرون، وعز فيها الصادقون.

بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الروم تتجمع لحربه، ولتهديد دولته، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون، فها هو أحدهم يقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما روى ابن هشام: "هل لك في جلاد بني الأصفر -أي الروم-؟"فيقول: "يا رسول الله ائذن لي ولا تَفْتنَّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عُجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن الله -جل وعلا- فضحه في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[التوبة: 49].

وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة، وتحجج بحججٍ واهية، حين آثروا ظل القعود في بيوتهم، وحقولهم على حرّ الصحراء، ووعثاء السفر: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾[التوبة: 81].

وتجلت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان ابن عفان، سبق في بذله سبقاً بعيداً حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عجب من كثرة ما أنفق، تصدقرضي الله عنه بمائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية، ثم تصدق بمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"[رواه الحاكم بسند صحيح].

وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ما يملك، وجاء العباس بمال كثير، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقاً من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مداً أو مدين لم يكن يستطيع غيرها.

وبعثت النساء ما قدرن عليه من خلاخل وخواتم وذهب.

ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زاداً، ولا راحلة، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: "يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون".

إنهم البكاؤون لم يبكوا على فقد متاع، أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد، وقتال في ساعةٍ عسيرة، قد تذهب أرواحهم فداءً الهذا الدين الذي آمنوا به.

روي عن علي بن يزيد: أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى، وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال، أوحد، أو عرض".

وأصبح الرجل على عادته مع الناس، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"أين المتصدق هذه الليلة؟" فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق هذه الليلة فليقم؟" فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة".

ويخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على المدينة علياً -رضي الله عنه-، ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفا، ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم، على مرّ الأيام يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون، ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، ويستهزئون به، الله يستهزئ بهم، يأتون إلى عليّ ويقولون له: ما خلفك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا استثقالا لك؟ فتأثر بذلك ولبس درعه، وشهر سيفه، يريد الجهاد في سبيل الله، ويصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول له زعمهم، فيجيبه صلى الله عليه وسلم ويقول: "كذبوا يا عليّ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".

وعاد رضي الله عنه إلى المدينة راضياً.

ويتوجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فيمر بديار ثمود، الذين جابوا الصخر بالواد، ديار غضب الله على أهلها فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطلة، وأشجارهم مقطعة، فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً".

وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح -عليه السلام-.

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "لما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحجر، قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلاّ أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير، حتى جاز الوادي".

واستمر صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغاً عظيماً، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته، حتى يكاد يسقط، كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده، حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم ويقول: من هذا؟ قال: أنا أبو قتادة، فقال له: "حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة".

يقول المؤرخون فما زال أبو قتادة محفوظا بحفظ الله في أهله، وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا، درس عظيم لمن حفظ أولياء الله، فإن الله يحفظه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.

عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة؟ فقال عمر: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيراً فادع الله لنا؟ فقال: "أو تحب ذلك؟" قال: نعم، فرفع رسول -صلى الله عليه وسلم- الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما، حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم".

قال: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر.

ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل فماذا فعل يا ترى؟

لقد ترك بعيره، وأخذ متاعه، وحمله على ظهره.

وينزل صلى الله عليه وسلم في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين، ويقول: يا رسول الله رجل يمشي إلى الطريق وحده متاعه على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: "كن أبا ذر، كن أبا ذر".

فإذا هو أبو ذر، فأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده".

وتمضي الأيام والأعوام، ويُنفى أبو ذر إلى الربذة، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه، ويضعاه على الطريق وأول ركب يمر بهم يقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأعينونا على دفنه، فيفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون، فما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، فأخبرهم غلامه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكياً، يقول صدق رسول الله: "تمشي وحدك وتموت وحدك".

ثم دفنوه رضي الله عنه وأرضاه.

أيها المسلمون: وينتهي المسير برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، فقام فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحض على خيري الدنيا والآخرة، فحذّر وأنذر، وبشّر وأبشر، حتى ارتفعت معنويات الصحابة -رضي الله عنهم-، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من قلة الزاد والمؤونة.

فأقام بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوا، ولكنهم بذلك أرهبوا الروم، وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية.

وحصلت بعض الأحداث أثناء بقائه عليه الصلاة والسلام فيها، منها: ما حدث به عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نمنا ليلة متعبين في تبوك وانتبهت في وسط الليل، فالتفت إلى فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أجده، وإلى فراش أبي بكر وعمر، فلم أجدهما وإذا بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفر قبراً، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر، فقلت: "يا رسول الله من الميت؟" قال: "هذا أخوك عبد الله ذو البجادين".

إنه أحد الصحابة الكرام، أسلم وكان تاجراً، فأخذ أهلُه وقومُه ومالَه كله، حتى لباسه فذهب فما وجد لباساً غير شملةٍ قطعها إلى بجادين وفرّ بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: "تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزاراً ورداءً في الجنة أنت ذو البجادين".

فلقب بذلك.

يقول عبد الله بن مسعود: "وأنزله صلى الله عليه وسلم إلى القبر، فوالذي لا إله إلا هو ما نسيت قوله صلى الله عليه وسلم وهو في القبر، وقد مد ذراعيه لذي البجادين، وهو يقول لأبي بكر وعمر: "أدنيا إلَّيّ أخاكما".

فدلياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف عليه الصلاة والسلام لما وضعه في القبر رافعاً يديه مستقبلا القبلة، وهو يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه".

يقول عبد الله بن مسعود: "فوالله ما تمنيت إلاّ أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه صلى الله عليه وسلم".

ورجع النبي -صلى الله عليه وسلم- عائداً إلى المدينة موفوراً منصوراً حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد، فقال: "هذه طابة، وهذا أُحدٌ يحبنا ونحبه".

وتسامع الناس بمقدمه، وفرح النساء والصبيان فخرجوا لاستقباله وهم يرددون:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع

جئت شرفت المدينة *** مرحباً يا خير داع

وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه، فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم.

روى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: "إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم" فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: "وهم بالمدينة حبسهم العذر".

بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجال الذين شيَّعوه بقلوبهم، وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم، وأراح همّاً ثقيلاً عن أفئدتهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)﴾[التوبة: 39].

بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم….

الخطبة الثانية:

الحمد لله …

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت أحداثها فما انتهت دروسها، وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنٍ بالماضي، وسرد الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئا، وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.

وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، وحتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- جهاد في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.

وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدَقت وأخلصت فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنتصر عليه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحـج: 40].

ومن الدروس: أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾[التوبة: 47].

ومن الدروس: أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة، بل يكفي المؤمنين أن يعدوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يتقوا الله ويصبروا، وعندها يُنصروا، فها هو عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- يقول: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".

ومن الدروس: أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه، لا يكفي حق بلا قوة.

دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجَبْ *** وقد لان منه جانب وخطاب

فلما دعا والسيف بالكف مسلط *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا

ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعَتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما غَفلَت عن عقيدتها، وتعلقت بغيرها، إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.

والأمة اليوم بعيدة كل البعد عن العقيدة الصحيحة إلا من رحم الله.

هل تريدون مثالاً حياً قريباً على أن فئات كثيرة من الأمة لا تعرف معنى: "لا إله إلا الله، إلى الآن، ومن هذه الفئات من هم محسوبون على العلماء وطلبة العلم.

أحداث تكسير الأصنام القريبة، مسألة واضحة لا يختلف فيها موحدان، أصنام الشرك والكفر بالله -عز وجل-، تُكسّر وتُهدم، ثم يأتي من يأتي من المسلمين، ويستنكر هذا الأمر، ويطنطن بعض من هم محسوبون على أهل العلم في الإذاعات والفضائيات، ويكتب من يكتب في الصحف والمجلات بحجة أنها آثار، فأين التوحيد؟ وأين هي العقيدة؟ وأين لا إله إلا الله؟إذا كانت الأمة إلى الآن تختلف في أصنام الشرك والكفر، فماذا بقي من عقيدتها وتوحيدها؟

فعلى الدعاة والمصلحين والمربيين ممن يمثلون منهج أهل السنة والجماعة: أن يركزوا في دعوتهم على مسألة التوحيد درساً وشرحاً، وعملاً وتطبيقاً، وأن لاّ يغتروا بغيرهم ممن يخالفهم في هذه المسألة، فلا صلاح ولا فلاح إلا إذا صحّت عقائد الناس، واتضحت لهم معالم وأصول هذه العقيدة.

أيها المسلمون: هذه غزوة تبوك غزوة العسرة، وهذه بعض دروسها، فاعتبروا بها وتدبروها.

اللهم رحمة …


تم تحميل المحتوى من موقع