وسنّة الأنبياء واحدة وهي جهاد الكفار وإعلاء كلمة الله في الأرض، والنصر من الله نعمة تقابل بالشكر والطاعة على طريقة الأنبياء، لا بالتفاخر والإعجاب، وإحداث الأعياد البدعية التي تسمى باليوم الوطني أو عيد النصر، ولا الهتاف بالشعارات الباطلة.. فهذا كله من سنّة الجاهلية، التي جاء الإسلام بالنهي عنها ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق المبين، وجاهد الكفار والمنافقين حتى أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المسلمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آووه ونصروه وهاجروا وجاهدوا معه بصدق، وإخلاص ويقين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعتبروا بما قصه الله عليكم من أنباء الرسل والأمم الماضية؛ فإن الله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف:111]
ومن هذه الأنباء العظيمة نبأ موسى وفرعون فقد خصه الله بالذكر في قوله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص 2: 6]
وقد كنا في الخطبة الماضية قد سقنا شيئاً من تفاصيل هذه القصة العظيمة ونريد الآن أن نستخلص بعض العبر من هذه القصة فمن العبر فيها:
أن المؤمنين يبتلون بعدوهم من الكفار والمنافقين، فإذا صبروا وثبتوا على دينهم وجاهدوا كانت لهم العاقبة الحميدة والنصر على عدوهم؛ فإن فرعون لما هدد المؤمنين بقوله فيما حكاه الله عنه: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127]
قابل موسى عليه السلام هذا الموقف بحث المؤمنين على الاستعانة بالله والصبر على الابتلاء ووعدهم بنصر الله، كما ذكر الله ذلك عنه بقوله: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف 128: 129] واستمرت الجولات بين الحق والباطل وفي النهاية أمر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام أن يخرج بمن معه من المؤمنين من أرض مصر فراراً بدينهم، فجمع فرعون جنوده وكيده وقوته وخرج في أثرهم ليبطش بهم وقال محقراً لشأنهم: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء 54: 56] وعندما أدركهم، على ساحر البحر، اشتد الكرب بالمؤمنين، وظنوا أنه أدركهم، وأنه سينفذ فيهم غضبه وبطشه الذي كانوا يعهدونه من قبل. وقالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، عند ذلك وطمأنهم كليم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بقوله: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62] أي لا يدركونكم لأن معي ربي سيدلني ويوفقني لطريق النجاة.
وتحقق لهم وعد الله على لسان رسوله وفلق البحر لهم طرقاً يابسة، فلما جاوزوه ودخله فرعون وقومه عاد إلى حالته وأطبق عليهم أمواجاً متلاطمة فأغرقهم عن آخرهم، وأصحاب موسى ينظرون إليهم.
وانظروا -يا عباد الله- إلى مشابهة هذا الموقف من موسى عليه السلام وثقته بنصر الله في أصعب الظروف وأشد الكروب بموقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج هو وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه واختفيا في الغار وخرج الكفار في أثرهما للبطش بهما والقضاء عليهما حتى وقفوا عليهما، وقال الصديق عند ذلك: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -واثقاً بنصر الله-: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"، وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40]
إنه نصر الله يأتي مع الصبر، وفرجه يأتي مع الكرب، ويسره يأتي مع العسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً".
ونستفيد من هذه القصة عبرة أخرى: وهي أن الباطل مهما ارتفع بالقوة المادية فإنه لا يبقى أمام الحق إذا قام به أهله وصبروا عليه، فهذا طاغية جبار معه قوة الرجال والسلاح ورهبة السلطان والملك، خرج في طلب جماعة قليلي العدد والعدة لكن معهم الله ثم معهم قوة الإيمان ورسول الرحمن، معهم ربهم بنصره وتأييده.. وفي لحظة حاسمة تحطمت قوة الباطل على صخرة الحق كما قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18] (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء:81]
ونستفيد من هذه القصة أيضاً: أن سنّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الشكر لله عند الرخاء وحصول النصر وذلك بأن موسى عليه الصلاة والسلام صام هذا اليوم الذي أعز الله به الحق وخذل به الباطل؛ شكراً لله، وصامه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأمرنا بصيامه؛ شكراً لله على انتصار الحق على الباطل على يد أخيه موسى عليه السلام.
وسنّة الأنبياء واحدة وهي جهاد الكفار وإعلاء كلمة الله في الأرض، والنصر من الله نعمة تقابل بالشكر والطاعة على طريقة الأنبياء، لا بالتفاخر والإعجاب، وإحداث الأعياد البدعية التي تسمى باليوم الوطني أو عيد النصر، ولا الهتاف بالشعارات الباطلة.. فهذا كله من سنّة الجاهلية، التي جاء الإسلام بالنهي عنها.
ومما أحدث في هذا اليوم الذي نصر الله به الحق على يد موسى عليه السلام ما أحدثه الشيعة فيه من جعله يوم حزن، ومأتم حيث إن الحسين بن علي رضي الله عنهما قتل فيه. فخالفوا السنّة في هذا اليوم وما يستحب فيه من الطاعة، وأحدثوا فيه البدعة وفعل المحرمات من الندب والنياحة وضرب أجسامهم؛ إظهاراً للجزع على قتل الحسين رضي الله عنه، ويجعلون ذلك ذكرى تتكرر كل عام. ولا شك أن قتل الحسين رضي الله عنه مصيبة نزلت بالمسلمين، ولكن المصائب لا تقابل بالجزع والبدع. والنياحة والطلم. فهذا من أمور الجاهلية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، وإنما تقابل المصائب في وقتها بالصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره. ولا يجعل لها ذكرى تتكرر كل عام..
وقد قتل من خيار الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده العدد الكثير من أعظمهم عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الصحابة إلا الصبر والاحتساب؛ عملاً بقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156] وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وقتل بعد النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ فما كان من المسلمين إلا الصبر والاحتساب؛ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي