عاملوا الله -تعالى- كما أمركم أن تعاملوه به، واعبدوه مخلصين له الدين. التزموا شريعته غير مغالين ولا مفرطين.انصروا الله -تعالى- بالانتصار على أنفسكم الأمارة بالسوء، والتغلب على أهوائكم التي تهوي بكم إلى النار. انصروا الله -تعالى- بالغيرة لدينه وحمايته و...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: (اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
اصدقوا الله -تعالى- في عقائدكم، وفي نياتكم، في أقوالكم، وفي أفعالكم.
عاملوا الله -تعالى- كما أمركم أن تعاملوه به، واعبدوه مخلصين له الدين.
التزموا شريعته غير مغالين ولا مفرطين.
انصروا الله -تعالى- بالانتصار على أنفسكم الأمارة بالسوء، والتغلب على أهوائكم التي تهوي بكم إلى النار.
انصروا الله -تعالى- بالغيرة لدينه وحمايته والذود عنه، فإن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7].
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة: 21].
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40 - 41].
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)[الأنبياء: 105 - 106].
فيا أمة القرآن، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، يا أمة التوحيد والإيمان: إن ما سمعتم من هذه الآيات الكريمة، وهذه الوعود المؤكدة الصادقة، إنها لكلام ربكم العليم القدير القوي العزيز.
ولقد صدق الله وعده، وأنجز نصره، وهزم الأحزاب وحده.
لقد كان ذلك حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بالشرط المشروط عليها للنصر؛ تؤمن بالله ورسوله، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالنصر من عند الله؛ لأنها تؤمن بأن لله وحده عاقبة الأمور، لا ترهب الأعداء، ولا تخاف من قواهم المادية، وإنما تقابل عددهم بشجاعة وعددهم، بما هو أقوى وأعتى وأفكارهم وتصرفاتهم الماكرة، بما هو أدهى وأنكى؛ ممتثلين بذلك أمر الله: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)[الأنفال: 60].
معتمدين في ذلك على الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].
مؤمنين بقول من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].
ولهذا أتم لهم النصر في مواطن تزيغ فيها الأبصار، وتنحسر الأفكار، وتنقطع الحيل، وإني ضارب لكم في ذلك مثلين:
أحدهما: نصر في الدفاع والخلاص.
والثاني: نصر في الطلب والغلبة.
أما الأول: ففي غزوة الأحزاب، حين تألب الأحزاب من قريش، ومن مالأهم من كفار العرب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحاصروا المدينة في نحو عشرة آلاف مقاتل، ونقضت يهود بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان الأعداء على المدينة كما وصفهم الله -تعالى-: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 10 – 11].
وحاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين قرابة شهر، وأصاب المسلمين من الجوع والتعب والبرد ما كان من أعظم الابتلاء، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، ثم أرسل الله -تعالى- عليهم ريحا شرقية باردة شديدة لم تبق لهم خيمة ولا نارا ولا قرارا"
قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هويا من الليل في ليلة ذات ريح شديدة وقر، يعني بردا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟" فلم يتقدم أحد من شدة البرد والجوع والخوف.
أعادها صلى الله عليه وسلم الثانية والثالثة، ثم قال: "يا حذيفة قم فآئتنا بخبر القوم" فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني باسمي، فقال: "يا حذيفة اذهب فآئتنا بخبر القوم، ولا تحدثن شيئا، حتى تأتينا".
قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام، أي في جو دافئ هادئ لا برد ولا ريح، فدخلت في القوم والريح وجنود الله -تعالى- تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قرارا، ولا تبقي خيمة ولا نارا، فإذا أبو سفيان -وكان يومئذ كافرا- يصلي ظهره بالنار، فأردت أن أرميه، ولو رميته لأصبته، فذكرت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا أمشي في مثل الحمام، يعني في جود دافئ هادئ، فأخبرته بخبر القوم، فلما فرغت أصابني البرد، فألبسني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضل عباءة كان يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قم يا نومان، ثم تفرق الأحزاب خائبين خاسرين، كما قال الله -عز وجل-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب: 25].
وحينئذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا" نحن نسير إليهم.
أما يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم آخر قبائل اليهود في المدينة، فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه فورا، وحاصرهم نحو عشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحكم فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد الأوس سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، فقال رضي الله عنه: "أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، وتقسم أموالهم" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" فجيء بالمقاتلة مكتفين، فضربت أعناقهم، وكانوا بين السبعمائة والثمانمائة، وسبيت نساؤهم وذريتهم، وغنمت أموالهم، كمال قال تعالى فيهم: (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ)[الأحزاب: 26].
أي من حصونهم.
(فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)[الأحزاب: 26 - 27].
هذا مثال لنصر الله -تعالى- للمؤمنين في الدفاع والخلاص، مما لا طاقة لهم به.
أما نصره إياهم في الطلب والغلبة؛ فقد ذكر المؤرخون: أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- الذي فتح الله -تعالى- على يديه أكثر بلاد فارس، وقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أجب دعوته، وسدد رميته، لما تابع الفرس يفتح بلادهم بلدا بلدا، فوصلوا إلى نهر دجلة عبروها إلى عاصمتهم المدائن، ولم يتركوا للمسلمين جسورا ولا سفنا، فلما وصل سعد إلى النهر بعساكر الإيمان، أخبرهم أنه عازم على العبور إلى الفرس على ظهر الماء، فاقتحم بفرسه النهر، وهو يجري ويقذف بالزبد، واقتحم الناس معه، ولم يتخلف أحد منهم، فجعلت خيولهم تعوم بهم في الماء، وهم يتحدثون على ظهورها، كأنما تمشي على ظهر الأرض، فإذا تعب فرس أحد منهم قيض الله له مثل الصخرة الكبيرة، يقف عليها ليستريح، حتى عبروا النهر، فلما رآهم الفرس ولوا هاربين، وتركوا بلادهم وأموالهم، غنيمة للمسلمين، وتحقق قول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء: 105].
ولما وصل خمس الغنيمة إلى عمر -رضي الله عنه- في المدينة، ونظر إليه، قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقال له علي -رضي الله عنه-: "إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا".
فهذا مثال من نصر الله -تعالى- للمؤمنين في طلبهم لعدوهم، وغلبتهم عليه بما لا طاقة لهم به، فمن يتصور أن النهر ممتلأ ماء يمشي عليه المجاهدون بخيولهم، حتى يعبروا إلى الجانب الآخر، ولكن ذلك ليس بعزيز على الله -تعالى-، فإنه القادر على كل شيء: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].
اللهم هيئ لهذه الأمة نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك، وتعلي به كلمتك، إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي