المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة, قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، قال ابن القيم مفسراً الآية: "الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه, وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله -عز وجل- ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان". وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس، وذكر منها: "ومراقبة الله في السر والعلانية"...
الحمد لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، سبحانه من استجار به أجاره، ومن استغاث به أغاثه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اهتدى به هداه إلى صراط مستقيم, ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه وتعالى-؛ فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسهل، وهي وصية الله للأولين والآخرين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100] فاتقوا لله ربكم، وأطيعوه في سركم وعلنكم، وراقبوه في جميع زمنكم!.
عباد الله: يوقن العبد المسلم أن الله -تبارك وتعالى- هو العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء، ويثق أن علم الله تعالى ليس كعلم الخلق، بل علمه -سبحانه وتعالى- ليس له بداية ولا نهاية, شامل محيط بكل شيء، وكل من تدبر في القرآن يزداد تعظيمه لله تعالى وتشتد مراقبته له؛ لأنه تعالى يعلم بنا أينما كنا ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فحري بمن ذكَرَ أنَ الله تعالى يعلم به أن يستحي منه فلا يقترف ما لا يرضي الله العالم به، والذي لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، متأملا قوله تعالى في كتابه: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه: 98]، فوسع الله الخلائق علمًا، بحيث لا يغيب عنه شيء، ويحذرنا ربنا -سبحانه- من الجرأة على حدوده، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235]، وأكد ربنا -جل وعلا- أنه الرقيب على عباده، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أيها الإخوة: إن مراقبة الله -سبحانه- هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق على ظاهره وباطنه، وهي ثمرة علمه بأن الله -سبحانه- رقيب عليه، ناظر إليه، سامعٌ لقوله، مطلعٌ على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين، ومن راقب الله -عزَّ وجلّ- في خواطره عصمه في حركات جوارحه.
وهو رقيب عليك في الباطن، فاحذر أن يكون قلبك محبًا لغيره تعالى، فمن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تعرف قدر الرّبح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غيرته على محارمه ثم تتعرّض لها، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا كله أن تعلم أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج إليه ثم تبتعد منه.
وهو رقيب عليك في الظاهر من الأقوال والأفعال، فإن كنت تستحي من القبيح أمام إخوانك وجيرانك والناس أجمعين، فالله أولى أن تستحيَ منه -سبحانه-، قال تعالى في ذم المنافقين: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108].
عباد الله: المراقبة على ثلاث درجات:
الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام، بين تعظيم لربه يذهله عن تعظيم غيره، وعن الالتفات إليه، وامتلاء قلبه بذلك؛ فالحضور مع الله يوجب له أنساً ومحبة، فإن لم يقارنهما تعظيم؛ أورثاه خروجاً عن حدود العبودية، ورعونة ودنواً وقرباً من ربه يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره، وسرور باعث على الفرحة والتعظيم واللذة في ذلك القرب، فإن سرور القلب بالله، وفرحه به، وقرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة، وهذا السرور يبعث على دوام السير إلى الله -عزَّ وجلَّ-، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور والطعم والحلاوة ولا شيئاً منه، فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان ولذته.
الدرجة الثانية: مراقبة العبد لمراقبة الله له، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات الباطنة، التي منها رفض معارضة أمره وخبره ورفض كل محبة تزاحم محبته, وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به، وتوجب الإعراض عن الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة, والاعتراض على شرعه وأمره بالآراء والأقيسة المتضمنة تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، والاعتراض على حقائق الشرع والإيمان بالأذواق والشطحات الباطلة، المتضمنة شرع ما لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه.
وكذلك الإعراض عن الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره، وهذا اعتراض الجهال، وكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله، إلا نفساً قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فتلك حظها التسليم والانقياد، والرضا كل الرضا.
الثالثة: شهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه، وأنه كان ولم يكن شيء غيره البتة، وكل ما سواه كائن بتكوينه له، وكل ما يظهر في الأبد هو عين ما كان معلوماً في الأزل، وإنما تجددت أوقات ظهوره.
ومراقبة الإخلاص في كل حال، ومراقبة مواقع رضا الرب ومساخطه في كل حركة، والفناء عما يسخطه بما يحب -سبحانه-.
أيها الإخوة: ولب المراقبة أن تكون أبداً كأنك ترى الله -عزَّ وجلَّ-، ومن راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه. لذلك كانت علامة المراقبة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله، والرجاء يحرك إلى الطاعة، والخوف يبعد عن المعاصي، والمراقبة تهديك إلى الطريق الحق.
ومن حسن المراقبة أن تكون قيماً على إيمانك حتى لا ينقص، وعلى جوارحك حتى لا تكل، فإذا وفيتها الحظوظ؛ فاستوف منها الحقوق: حق الله, وحق رسوله, وحق كتابه, وحق دينه, وحق الأهل, وحق الأرحام, وحق الجيران,. وحق المؤمنين.
ومن حسن المراقبة إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلاً باللسان فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتاً أو مستخفياً فاذكر علم الله بك ونظره إليك، فهو الذي لا يخفى عليه شيء: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].
وحقيقة المراقبة ملاحظة الرقيب، وانصراف الهمم إليه، وهي حالة للقلب تثمرها معرفة الله، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في القلب والجوارح.
أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب، واشتغاله به، والتفاته إليه، وملاحظته إياه، وانصرافه إليه.
وأما المعرفة التي ثمرتها هذه الحالة فهي العلم بأن الله مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أعظم من ذلك.
فإذا استولت هذه المعرفة على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب، وصرفت همه إليه، فتولد من ذلك قوة الإيمان واليقين، والرغبة في الطاعات، وكراهية المعاصي والسيئات.
عباد الله: إن الأصول الجامعة النافعة: مراقبة الله في كل عمل, وألا تغتر بالظاهر، بل يكون العلم على ظاهرك قائماً، ولا يغرَّنك اجتماع الناس عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، وأفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات، فعليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية.
إن من أعجب الأشياء أن تعرف الله ثم تعصيه، وتعلم قدر غضبه ثم تتعرض له، وتعرف شدة عقابه ثم لا تطلب السلامة منه، وتذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تهرب منها ولا تطلب الأنس بطاعته.
قال قتادة:"ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك، فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ *وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:23،22].
قال ابن الأعرابي: "آخر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو القائل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16].
أيها الإخوة: إن تقوى الله في الغيب، وخشيته في السر، دليل كمال الإيمان، وسبب حصول الغفران، ودخول الجنان، بها ينال العبد كريم الأجر وكبيره (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس: 11]، وقال الله: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك:12] وقوله -سبحانه-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:31-35].
عباد الله: إن انعدام القلب عن مراقبة الله -سبحانه- يورث ذلك الاتصاف بصفات المنافقين، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 107- 108]، والمعنى: يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه، وهو -عزَّ شأنه- معهم بعلمه، مطلع عليهم حين يدبِّرون ليلا ما لا يرضى من القول، وكان الله محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه منها شيء.
إن الإنسان قد يبتعد عن المعاصي والذنوب إذا كان يحضره الناس، وعلى مشهد منهم، لكنه إذا خلا بنفسه، وغاب عن أعين الناس، أطلق لنفسه العنان، فاقترف السيئات، وارتكب المنكرات، ونسي قوله تعالى: (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً) [الإسراء:17]، (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74].
بل إن الإنسان ليقع في ذنب، لو كان بحضرته طفل لامتنع من الوقوع فيه، فصار حياؤه من هذا الطفل أشد من حيائه من الله -جل وعلا-، أتراه -في هذه الحالة- مستحضراً قول الله تعالى: (أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [البقرة:77]، وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78].
وهؤلاء تتعرض حسناتهم للضياع، فعن ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا الله -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا". قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ الله صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا". [ابن ماجه (4245) وصححه الألباني].
وليس معنى ذلك أنّ من دعته نفسه إلى معصية جاهر بها! كيف ذلك وقد ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ" [البخاري(6069)].
وعن زيد بن أسلم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ" [مالك في الموطأ(12) وصححه الألباني في صحيح الجامع (194)].
أيها الإخوة: المراقبة مما يعين العبد على الوصول لدرجة الإحسان، قال أبو السعود: "وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحُسْنِه الذاتي، وهو ما فسّره صلى الله عليه وسلم في معنى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [البخاري(50) ومسلم(8)].
قال ابن القيم: "فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي، فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذِكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلاً عن مواقعتها". وقال أيضاً: "فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته"، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت". [الترمذي(1987) وحسنه الألباني]، ومراده اتق الله في السر والعلانية وراقبه في سرك وفي خلوتك كما تراقبه في علانيتك مع الناس.
نسأل الله أن يرزقنا حقيقة الإيمان وحلاوة الإيمان ودوام المراقبة لله الواحد الديان، وأن يجعلنا من المتقين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خُصَّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: والمراقبة عمل جليل ينفرد به خاصة أهل الإيمان, الذين قدروا الله حق قدره وعظّموه حق التعظيم, وشاهدوا بقلوبهم قدرة الله عليهم وإحاطته بهم ورؤيته لهم وعلمه بحالهم وشدة عذابه ووعيده, واستحضروا معية الله لهم في كل الأحوال. قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ) [البقرة: 235].
عباد الله: إن المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة, قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، قال ابن القيم مفسراً الآية: "الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه, وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله -عز وجل- ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان".
وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس، وذكر منها: "ومراقبة الله في السر والعلانية". وقال -عَزَّ من قائل-: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112].
عباد الله: ومن ثمرات المراقبة أن بها يكسب العبد رضا الله -سبحانه- قال تعالى: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:8] قال أهل العلم: "ذلك لمن راقب ربه -عز وجل- وحاسب نفسه وتزود لمعاده".
كما أن مراقبة الله من أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات, قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) [الأنبياء:101] قال القصري: "إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وسعه، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه".
وبالمراقبة يحصل العبد على معية الله وتأييده قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128]، قال ابن كثير: "أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة".
كما أن المراقبة تعينه على ترك المعاصي والمنكرات قال ابن الجوزي: "فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط".
أيها الإخوة: ومن ثمرات المراقبة أن يسعد العبد بها، وتصلح أحواله في الدارين قال ابن علان: "فالمراقبة وسيلة لنيل السعادة الأبدية".
عباد الله: إن تقوى الله ومراقبته، كانت شعار الصالحين، وعمل المؤمنين من سلف هذه الأمة، أسوتهم في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد وصّى بها أصحابه وأمته من بعدهم، ففي الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: "يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" [الترمذي(2516) وصححه الألباني]. فيا لها من وصيةٍ عظيمة!.
اليوم تغيرت الأحوال، وانعكست المفاهيم، وقل الخوف من الله، وضعفت مراقبته في نفوس الناس، وانتشر بينهم الرياء والنفاق، والعمل للدنيا وحطامها، واتباع الأهواء والرغبات، وضعف الإخلاص لله، وفسدت النيات، ونسي كثيرٌ من الناس ربهم -إلا من عصم الله- في كل شؤونهم وأحوالهم في العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، في الأقوال والأعمال، فأين الذين استهانوا بعقيدة التوحيد، وأفسدوا في الأرض بالبدع والخرافات، بعد إصلاحها بالإيمان وصحة العقيدة. أين هم من مراقبة الله؟!
لو صدقوا في مراقبته -سبحانه- لاستقاموا على عقيدة سلف هذه الأمة، أين الذين يراءون في أعمالهم، ويداهنون بأقوالهم وأفعالهم، ويتتبعون رضى الناس ورغباتهم؟!، أين هم من مراقبة الله القائل: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:13].
أين الذين آثروا حب الدرهم والدينار, فجدّوا للحصول عليهما بأي طريق؟! ولم يبالوا بمصدرها؟! فيظلمون ويخدعون! ويغشون ويرابون، ويبخسون المكاييل والموازين، ولا يتقون الله في بيعهم وشرائهم! ويتساهلون في أداء زكاة أموالهم؛ حتى كانوا سبباً في منع القطر من السماء بسوء أفعالهم!.
فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه ونراقبه في سائر أحوالنا، ونحاسب أنفسنا على أعمالنا، فاتقوا الله عباد الله، وخافوه، وأخلصوا له العمل، واحذروا معاصيه، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي