إن العقلاء من الناس، مسلمهم وكافرهم، متفقون على وجوب حماية العقل من كل ما يخرجه عن الاستقامة الفطرية؛ حتى لا يصير سيء التصرف يجني به على نفسه وعلى غيره؛ فلقد حافظ الإسلام على العقل البشري محافظة شديدة، واعتنى به اعتناء بالغاً؛ لأنه مناط استقامة دنيا الإنسان ودينه، وسبب للسلامة في المجتمعات.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: اعلموا أن نعم الله علينا كثيرة، وآلاءه علينا غزيرة، وما زالت تتواصل بامتداد الأعمار وتواتر الأيام.
ألا وإن من أعظم نعم المنعم الكريم علينا: نعمة العقل الذي مُيزنا به عن سائر الحيوان، فصرنا به ندرك المنافع من المضار، والخير من الشر، في أمر المعاش وأمر المعاد.
فالعقل أساس الأعمال وينبوعها، والمميز بين الأشياء ومرجعها؛ ولذلك كان مناط التكليف الإلهي في الإنسان، فإذا وجد وجد التكليف، وإذا انعدم انعدم به التكليف، فلا تكليف على قاصر حتى يبلغ، ولا على مجنون حتى يعقل؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق" رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وغيرهم، وهو صحيح.
وإذا أردت أن تعرف -أيها الإنسان- فضل الله عليك بهذه النعمة فانظر إلى من فقدها كالمجنون أو أصحاب الأمراض العقلية، فالحمد لله على نعمته، ونسأله المزيد من فضله، وأن تكون هبته سائقة لنا إلى شكره وحسن عبادته.
ومما يبين لنا عظم هذه النعمة وأهميتها في الشريعة الإسلامية أن الجناية على العقل حتى يخرج عن حد التكليف توجب الدية كاملة كدية النفس؛ لأن العقل أشرف المعاني والأعضاء، وهو من أعظم آلات السعادة وصلاح الحياة.
أيها المسلمون: إن العقل عند العقلاء ينقسم إلى قسمين: العقل الغريزي، وهو العقل المشترك بين العقلاء؛ والعقل الاكتسابي، وهو ما يكتسب من تجارب الزمان ووقائعه.
والعقل الغريزي لا يبلغ غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، كالنار والحطب، وذلك أن العقل الغريزي آلة، والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده إلى عقلك.
وأما العقل المكتسب فإنه لا ينفك عن العقل الغريزي، وقد ينفك العقل الغريزي عن المكتسب فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل، وبهذا يتمايز العقلاء، ويعرف الألباء من الجهلاء.
أيها العقلاء: إن العقل نور يهدي صاحبه إلى محاسن الأقوال والأفعال، وكم من إنسان يتصرف تصرف المجانين والبهائم، بحيث يعيش لشهواته ونزواته وأهوائه واعتداءاته! قال -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
ولقد خلق الله الإنسان وخلق له العقل ليتدبر الأمور ويحسن التصرفات، ويعرف قيمة الحياة الفانية وقيمة الحياة الباقية؛ قال -تعالى-: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
وقد أدرك العقلاء فضل العقل وأهميته، فقال بعض السلف: "ما أوتي رجل بعد الإيمان بالله -عز وجل- خيراً من العقل". وقال بعضهم: "مروءة الإنسان عقله".
وقال آخر:
يُعدُّ رفيع القوم من كان عاقلاً *** وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حلّ أرضاً عاش فيها بعقله *** وما عاقل في بلدة بغريب
وقال بعضهم:
وأفضل قَسْم الله للمرء عقلُه *** وليس من الخيرات شيء يقاربه
ويزري به في الناس قلةُ عقله ***وإن كرمت أعراقه ومناسبه
عباد الله: إن العقل الصحيح النافع يقود صاحبه إلى معرفة خالقه والعمل بشرائعه، والسير على الطريق التي جعلها سبيلاً موصلة إليه، يعرف: من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين المصير؟.
والعقل الصحيح هو المستفيد من آيات الله -تعالى- المسطورة، وآياته المنشورة على هذا الكون؛ لتهديه -حينما يشاهدها ويتفكر فيها- إلى الصراط المستقيم.
وهذا العقل هو اللب والنُّهى الذي أثنى الله على أصحابه في كتابه العزيز، وبين أنهم هم المستفيدون من آيات الله ومن العظات والعبر في هذه الحياة؛ قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) [البقرة:269]، وقال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]، وقال: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) [طه:54].
أيها الأحبة الكرام: هناك عقول ذكية وألباب مشرقة، لكن على مصالح الدنيا فحسب، فهذه عقول مظلمة في مصالح الآخرة ربحت في الدنيا لكنها خسرت الآخرة.
كم من ذكي ألمعي، ومخترع عبقري، هداه عقله الفطري وذكاؤه الخارق إلى مجاهل ومسالك في الدنيا لم يصل إليها أحد قبله، فصار صاحب اكتشافات وحقائق ونظريات، وأوصله عقله وذكاؤه إلى مقامات رفيعة في الدنيا، لكنه لم يوصله إلى خالقه ويعرفه الدين الحق، فماذا استفاد من عقله وذكائه عند ربه؟!.
وكم من إنسان مسلم بصير بمصالح الدنيا، ذكي في تحصيل منافعها ودفع مضارها بعقله الخصب وذكائه الوقاد، غير أنه لم يستغل هذا الذكاء في جلب مصالح الآخرة والإكثار منها، ولعله قد يصرف هذا الذكاء وطاقته العقلية الجبارة في المكر وإضرار إخوانه المسلمين. فماذا استفاد من هذا العقل الذي لم يصرفه إلى مصالح دينه وأسباب نجاته بين يدي ربه؟!.
عباد الله: إن العقل الممدوح في الشرع له نتائج حسنة، ومظاهر منبئة عن كماله واستقامته، تظهر على صاحب هذا العقل الحصيف في أقواله وأعماله وأحواله.
فمن تلك المظاهر الدالة على عقل صاحبها: الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة؛ لأن الزاهدين الصادقين المتبعين عرفوا حقيقة الدنيا بحسن عقولهم فلم يركنوا إليها، وعرفوا حقيقة الآخرة فاستعدوا لها ورغبوا فيها.
فالعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، والزُّهَّاد منهم؛ ولهذا قال بعض علماء الشافعية: إن من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس فإنه يكون مصروفاً في الزهاد؛ لأنهم انقادوا للعقل ولم يغتروا بالأمل، فالزهاد أخذوا من الدنيا ما يكفيهم لبلوغ الآخرة، ولم تكن هذه الحياة هدفهم ومنتهى أمانيهم فيصرفوا الزمن والجهد كليهما في خدمتها والانشغال بها، وإنما بغيتهم الحياة الأبدية في جنة عرضها السموات والأرض، هؤلاء هم العقلاء الفطناء، والأذكياء النبهاء:
إن لله عباداً فُطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا إليها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا
ومن علامات وجود العقل الصحيح عند الإنسان: الإقبال على المنافع والبعد عن المضار في أمر الدين والدنيا، فالإنسان العاقل يحرص على ما ينفعه، ويستعين بالله على تحصيله، ولا يعجز، وأعظم ما ينفع الإنسان في عيشه الأخروي: الإيمان والعمل الصالح؛ قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97]. وأعظم ما ينفع الإنسان في عيشه الدنيوي: أن يكون معافى في بدنه، آمناً في بيته، عنده قوت يومه، فإذا نال ذلك فقد حيزت له الدنيا كما أخبر بذلك نبينا -عليه الصلاة والسلام-. فالعاقل من بني آدم يكدح في عمره كي يسلم من مضار الدنيا ويسلم من مضار الآخرة.
وكم من إنسان يجلب الشقاء على نفسه بجهله وحمقه، وتوانيه وغفلته، فلا يعود إليه عقله وصوابه إلا حين تنزل ببابه المكاره، وتحل عليه الخطوب، ويودع الدنيا، ويتعلق بالأمل إلى الرجوع، ولكن؛ ولات حين مناص! إذا هجم الأجل، انقطع الأمل، وذهب العمل.
ألا وإن مما ينفع الإنسان-يا عباد الله- أن ينشغل كل امرئ بنفسه مما يعنيه في أمر دنياه ودينه، ويصرف الوقت والجهد في ذلك، دون أن يقحم نفسه في شؤون غيره مما لا يعنيه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم، وهو صحيح.
ومما ينفع الإنسان: أن ينظم حياته الدينية والدنيوية، وأن يسير على خطط واقعية مرسومة بعيدة عن الفوضى والعشوائية، وأن يستفيد من أخطاء الماضي؛ لئلا يعود إليها في المستقبل، وأن يستفيد من مواعظ الأيام ومرور الزمان ومن تجارب الآخرين وعقولهم؛ لتزداد فضائله وتنتظم أمور معاشه.
وكتبُ المذكرات والذكريات الحياتية النافعة للشخصيات الصالحة، والتاريخ وأحداثه، والواقع ومجرياته معارف مغذية للعقول التي يريد أهلها أن تتشكل تشكلاً صحيحاً لتنتج نتائج صحيحة.
والعقل منظم الحياة، فإذا تشبع بمعارف صحيحة وإضاءات سليمة كانت مخرجاته وآثاره كذلك، والعكس بالعكس.
أيها المسلمون: إن العقل إذا اكتمل واستنار عند صاحبه أثمر له معرفة استغلال الفرص وكيفية الاستفادة منها؛ فقد أدرك بتجاربه وبتجارب غيره التي أضافها إلى عقله أن الفرص أطياف تمرّ، وأنفاس تخرج، وقد لا تعود مرة أخرى، فعندما يجد الفرصة أو يعيش فيها فإنه يستفرغ حاجته منها ولا تفارقه إلا وقد نال منها ما يريد.
فيا أيها المسلم العاقل: عمرك فرصة، وفراغك فرصة، ورخاؤك فرصة، وأمنك فرصة، وقدرتك فرصة، وأمرك بيدك في بعض شؤونك فرصة، وامتلاك الوسائل الميسرة والمؤثرة فرصة؛ فلا تضيعن منك هذه الغنائم وتمر عليك وأنت نائم غير مكترث بها.
يا أهل الحِجا: إن العقل إذا اكتمل واتسع عرف صاحبه كيف يخرج من المضايق، ويفك عنه قيد المآزق، وكيف يتعامل مع المواقف الشديدة التي تطيش فيها الأحلام، فينقُب عقله الوقاد جُدد الأزمات وحصونها العتيدة ليصل إلى مخارج من قبضتها وشقائها بالأسباب المباحة، والوسائل الصحيحة المتاحة.
فقبيل غزوة بدر خرج رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مع أبي بكر -رضي الله عنه- يستطلعان أمر قريش، حتى وقفا على شيخ من العرب، فسألاه عن قريش، وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أخبرتنا أخبرناك"، قال: أذاك بذاك؟ قال: "نعم"، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن من ماء"، ثم انصرف عنه. فظل الشيخ يقول:ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ فاستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التورية خروجاً من الكذب، ومحافظة على الأسرار الحربية.
أيها المسلمون: إن العقلاء من الناس، مسلمهم وكافرهم، متفقون على وجوب حماية العقل من كل ما يخرجه عن الاستقامة الفطرية؛ حتى لا يصير سيء التصرف يجني به على نفسه وعلى غيره؛ فلقد حافظ الإسلام على العقل البشري محافظة شديدة، واعتنى به اعتناء بالغاً؛ لأنه مناط استقامة دنيا الإنسان ودينه، وسبب للسلامة في المجتمعات.
فقد حرم على صاحبه كل المفسدات العقلية، الحسية والمعنوية، فالمفسدات الحسية هي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل حتى يصبح الإنسان كالمجنون لا يعرف الضار من النافع، ولا الزوجة من الأم أو البنت.
وهذه المفسدات العقلية الحسية هي الخمور والمخدرات وما قام مقامها، وقد جاء النص على تحريم الخمر، ويقاس عليه ما ماثله في الإسكار أو زاد عليه أو نقص، جاء ذلك في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" رواه مسلم، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن الله لعن الخمر وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها وساقيها، ومسقاها" رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وهو حسن.
عباد الله: إن آفة السكر هي أم الخبائث، ومفتاح كل شر، وبوابة الهلاك، فهل هناك إنسان عاقل يدخل نفسه إلى وادي الهلاك والخسارة؟.
هذه الآفة -معشر العقلاء- قد تقضي على الضرورات التي جاءت الشريعة لحمايتها. فكم حصل بسببها من سفك للدماء المعصومة، وانتهاك للأعراض المصونة! حتى على المحارم! وكم حصل بسببها من إتلاف للأموال الخاصة والعامة! وكم قضت على طاقات عقلية وعقول ناضجة، وأشقت من أسر سعيدة! وكم أذلت من عزيز، وأفقرت من غني، وأهانت من كريم، وصغرت من عظيم، وأمرضت من صحيح، وفرقت بين الأقارب والأحبة والأصدقاء!.
إن السكر -أيها العقلاء- إهلاك للفرد والمجتمع: إهلاك ديني، وإهلاك أخلاقي، وإهلاك اقتصادي، وإهلاك صحي ونفسي، يتحدث العقلاء كلهم عن أضراره ووجوب تجنبه على اختلاف أديانهم وتخصصاتهم العلمية.
إن الدول العالمية الكبرى -كأمريكا- حاربت الخمر وأنفقت في سبيل ذلك أموالاً وقدرات كثيرة، لكنها لم تفلح؛ لكن الإسلام حينما ربى أهله على أساس الدين وغرس تعاليمه في نفوس معتنقيه لم يكن بحاجة إلى تلك الجهود الضخمة التي بذلتها تلك الدول، فالمسلم الصادق عندما يعلم أن السكر حرام في الإسلام ينكفّ وينتهي دون أن يراجع أو يراوغ أو يتردد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل". وهكذا يصنع التسليم لحكم الله -تعالى-.
عباد الله: إن الدولة في بلاد المسلمين عليها واجب عظيم تجاه هذه القضية الخطرة على أفرادها، وعلى استقرار شعبها، يحتمه عليها الشرع الحنيف والمصلحة العامة.
فمن مسؤوليتها: بث الوعي الديني والصحي والاجتماعي عن أخطار هذه الآفة عبر وسائل الإعلام المختلفة، وحجب كل الوسائل الإعلامية التي تسعى لترويجها ولتحسينها بين الناس.
ومن مسؤوليتها: منع التجارة بها: استيراداً وعصراً وتصنيعاً وبيعاً وشراء، وسن القوانين الرادعة للمخالفين ذلك.
ومن مسؤوليتها: مراقبة مظان وجودها وتعاطيها كالفنادق والمتنزهات وغيرها، وفرض العقوبات التعزيرية الصارمة على أصحاب هذه الأماكن التي تسهل للسكارى تناول السكر.
ومن مسؤوليتها: تطبيق حد الله -تعالى- على متناول المسكر: أربعين جلدة، وقد تزاد إلى ثمانين جلدة تعزيراً، وقد أقام هذا الحد على أهله رسولُ الله وخلفاؤه والأمراء العادلون بعد ذلك؛ فكان في ذلك ردع للناس عن أن يتناولوا هذه البلية؛ ولكن، حينما عُطل هذا الحد -كما عطل غيره من حدود الله- انتشرت الجريمة، وعظمت المصيبة، واتسع الخرق على الراقع.
أيها العقلاء الكرام: وأما المفسدات المعنوية فهي كل ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو السياسة أو الاجتماع أو غيرها، وهذه قد يكون بعضها أشد من الخمر والمخدرات! فكل تصور يفسد العقل عن التفكير السليم، والفهم الصحيح، ويعكر تصوراته النقية التي يأمر بها دين الإسلام والخلق الكريم فإنه تصور يجب إبعاده عن العقول؛ لأنه داء قتّال، ومرض عضال.
وبسبب تطور وسائل التأثير والإعلام، ولجهل كثير من الناس بدين الإسلام، وغلبة الشهوات على القلوب والشبهات على الأحلام، انتشرت بعض الأفكار المشبوهة والآراء المسمومة في بعض العقول التي قلت أنوارها من مشكاة الشرع، فتقبلت الإلحاد والعلمنة، والرفض والزندقة، والشك والحيرة، فجانبت الحق عندما تشربت تلك المفاهيم الخاطئة، وأفسدت أعمالها حينما أصبحت أسيرة تلك التصورات الهدامة حتى صار حال أصحابها كما قال أحدهم:
نهاية إقدام العقول عقال *** وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
نسأل الله أن ينير عقولنا بنور كتابه، وأن يرزقنا الهداية والرشاد إلى مرضاته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي أكرمنا بالعقول؛ لندرك بها المنقول والمعقول، والصلاة والسلام على خير رسول، محمد بن عبد الله الذي دلنا على معارج القبول، وسبيل الوصول، إلى أعظم مأمول، صلى الله عليه وعلى آله ذوي النفوس الزكية، والألباب النقية، وسلم تسليما.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن العقول إذا أظلمت وفسدت خلَّفت آثاراً سيئة على أصحابها وعلى الناس؛ فأصحاب العقول الناقصة المظلمة يتبعون أهواء أنفسهم الأمارة بالسوء، ويلبون رغباتها دون نظر إلى قبح ما يفعلون وجُرم ما يرتكبون، واتباع الهوى وطاعة النفس في الشر من أعدى أعداء العقل.
إذا ما رأيت المرء يقتاده الهوى *** فقد ثكلته عند ذاك ثواكله
وما يزع النفسَ اللجوج عن الهوى *** من الناس إلا حازمُ الرأي كامله
وإذا صار للهوى على الإنسان سلطان فقد ذهب العقل واندحر؛ لأن الهوى ملك غشوم، ومتسلط ظلوم.
وأصحاب العقول القاصرة لا يفكرون إلا بملذات أجسادهم وشهواتها العاجلة، ويقولون:
إنما الدنيا طعام *** وشراب ومُدام
فإذا فاتك هذا *** فعلى الدنيا السلام
وليس لديهم تفكير في أسباب النجاة في الآخرة، فهم في سكر الهوى والشهوة، فإذا جاءهم ملك الموت صحوا!.
وأصحاب العقول الصغيرة يحبون أن يستمتعوا بالإضرار بالآخرين وإيذائهم، وبالإفساد في الأرض، وإذهاب السكينة والطمأنينة في المجتمع، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
عباد الله: هناك صنف من الناس ينسبون أنفسهم إلى الثقافة والتنور والعقلانية، ويطلقون لعقولهم القاصرة العنان في شريعة الله فيعرضون ما جاء فيها على عقولهم، فما قبلته أخذوه وما أبته رفضوه، فقدموا عقولهم الصغيرة الضعيفة على وحي الله: القرآن والسنة!.
وأنتم تعلمون أن شرع الله معصوم، والعقول غير معصومة، وشرع الله واحد والعقول متعددة، والشرع متفق والعقول مختلفة، فكيف تقدم العقول على المنقول بعد هذا؟!.
ولهذا؛ فإن الذين قدموا العقل على نص الشارع الحكيم ضلوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ولو كانت عقولهم سليمة لما وجدوا في شرع الله مطعناً؛ لأن العقل الصحيح لا يعارضه النقل الصريح.
أيها المسلمون: أخيراً أقول: ما واجبنا تجاه نعمة العقل الذي وهبه الله لنا؟ إن من واجبنا أن نشكر الله -تعالى- على هذه النعمة، ونستعملها في الفضائل ودحر الرذائل، وأن تكون لنا نوراً يهدينا إلى سبيل الله الذي يسعد سالكه في الدنيا والآخرة، وأن نحاول أن ننمي عقولنا، ونزيدها بالمعارف النافعة، والتجارب المشرقة، وأن نحافظ على هذه النعمة من مفسداتها الحسية والمعنوية، وأن نحصنها بالثقافة النظيفة والوعي الصحيح ضد الشبهات والشهوات، وأن نعلم علم اليقين أن العقل البشري له حدوده التي ينبغي أن لا يتجاوزها بتفكيره؛ لأنه إذا سبح في غير جوه تاه وتحير.
هذا وصلوا وسلموا على خير البشر...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي