أخطاؤنا عند زيارة المقابر (1)

محمد بن إبراهيم النعيم
عناصر الخطبة
  1. استحباب زيارة المقابر .
  2. آداب وسنن زيارة المقابر .
  3. أخطاء ترتكب عند زيارة المقابر .
  4. الاتعاظ بالقبر أول منازل الآخرة .

اقتباس

فأحب في هذه الخُطبة التنويه على بعض سنن زيارة المقابر، والتعريض على بعض أخطائنا فيها؛ لأننا نلاحظ أن قلوبنا لا تزال غافلة قاسية رغم زياراتنا المتكررة للمقابر، وهي أعظم موطن لأخذ العبرة، فما الخلل الذي نرتكبه عند زيارتنا للمقابر؟ وما السنن التي هجرناها عند زيارة المقابر، فأخللنا بالحكمة من زيارتها؟.

الخطبة الأولى:

إن القبر أول منازل الآخرة، والمحطة الأولى من محطات الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه.

القبور، وما أدراكم ما القبور؟! لفظة تروع القلوب، وتهز النفوس، وتقطع السرور، وتدمع العيون.

هي أول منازل الآخرة، شُرع لنا زيارتها لنتذكر لحظات الموت، ولنتذكر عالم الآخرة، ففيها كل العِبرة، وعندها تسكب العَبرة، والندم والتوبة.

روى بريدة بن الحصيب –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة، ولتزدكم زيارتها خيرا، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا" أي لا تقولوا كلاما باطلا". رواه الإمام مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي.

وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ولا تقولوا ما يسخط الرب" رواه الإمام أحمد والحاكم.

وروى أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تُرِق القلب، وتٌدمع العين، وتُذكرُ الآخرة، ولا تقولوا هجرا" رواه الإمام أحمد والحاكم.

أيها الإخوة في الله: إن زيارة القبور عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، حث عليها الإسلام؛ لحكم سمعنا معظمها آنفا من أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-.

فأحب في هذه الخُطبة التنويه على بعض سنن زيارة المقابر، والتعريض على بعض أخطائنا فيها؛ لأننا نلاحظ أن قلوبنا لا تزال غافلة قاسية رغم زياراتنا المتكررة للمقابر، وهي أعظم موطن لأخذ العبرة، فما الخلل الذي نرتكبه عند زيارتنا للمقابر؟ وما السنن التي هجرناها عند زيارة المقابر، فأخللنا بالحكمة من زيارتها؟.

إن زيارة القبور مستحبة؛ لأنها تذكر بالآخرة وتنفع الميت بالدعاء والاستغفار له، إلا أن تكون المقبرة أو الميت على مسافة بعيدة يضطر الزائر معها إلى شد رحل وسفر خاص فإنها حينئذ لا تشرع، لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

ولقد كان من هدي المصطفى –صلى الله عليه وسلم- أنه إذا دخل المقبرة سلم قائلا: "السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، أنتم لنا سلف، ونحن بالأثر" رواه الترمذي.

وروى بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولَ قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" رواه الإمام مسلم والنسائي.

ويسن زيارة القبر في كل وقت، ولا ينبغي تخصيص يوم الجمعة أو يوم العيد بذلك، خصوصا أن يوم العيد هو يوم فرح وسرور فلا ينبغي تحويله إلى يوم حزن.

ومن أدب زيارة المقابر السلام على الميت المزار، والاتعاظ بحاله، والدعاء له، ولا يشرع مناجاته وطلبه أن يأتي إليك في المنام، ولا الاستغاثة به وطلب الحوائج منه كما يفعله كثير من جهلة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي حين يزورون قبور وأضرحة الأولياء المزعومين فيستنجدون بهم ويستغيثون بهم وينزلون إليهم حاجاتهم ومصائبهم من دون الله، وهذا شرك أكبر والعياذ بالله قد حذّر الإسلام منه؛ لأن التوسل والدعاء والسؤال من حقوق الله -عز وجل- ومن خصائصه -سبحانه وتعالى-، والله -تعالى- وحده الذي يوجه له الدعاء وترفع إليه الشكوى، فهو الذي يغيث المكروبين ويجيب المضطرين، ولا يستطيع الأموات ولا الأحياء تحقيق شيء من ذلك، وقد أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا سألنا أن نسأل الله -عز وجل- فقال: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، فالموتى محتاجون إلى الأحياء بالدعاء لهم، ولتزويد حسناتهم، والتخفيف عنهم؛ وليس العكس.

ولا يشرع لمس القبر عند الدعاء للميت، ولا طرق مقدمة القبر بالحصى، وهل يظن من يفعل ذلك أنهم يوقظون الميت من نومه؟.

كما لا يسن قراءة القرآن عند القبر وتثويبها للميت كما يفعله بعض العوام، بقولهم الفاتحة على روح فلان، فإن ذلك لم يصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا أدري ما سر تخصيص سورة الفاتحة في ذلك؟ وكل الذي صح عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يسلم على الموتى ويدعو لهم إذا زار قبورهم، ولو كانت القراءة نافعة للميت لعلّمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام حينما سألوه عما يقولون إذا زاروا المقابر.

ومما يقوي عدم مشروعية قراءة القرآن في المقابر قوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة" رواه مسلم؛ فهذا الحديث فيه إشارة إلى أن المقبرة ليست موضعا لقراءة القرآن، ولذلك أمرنا -صلى الله عليه وسلم- بقراءة القرآن في بيوتنا حتى لا نجعلها كالمقبرة التي لا يُقرأ فيها القرآن.

ومن الأخطاء الأخرى عند زيارة المقابر ما يفعله البعض من رش القبر بالماء عند كل زيارة له، ظنا منهم أن ذلك يخفف عن صاحب القبر العذاب، وإنك لترى العديد من هؤلاء الزوار، خصوصا يوم الجمعة، كل واحد منهم حاملا سطل ماء ومتجها إلى قبر قريبه ليرشه، فهذا عمل غير مشروع واعتقاد غير صحيح، ينبغي التحذير منه ونصح من يفعله، ولو كان الماء يخفف من عذاب القبر لحفر السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- عشرات الآبار في المقابر ولرشت القبور بالماء رشا ليل نهار، وإنما التخفيف عن الميت ونفعه يكون بالدعاء والاستغفار له، والصدقة عنه، كما صح ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وليس رش القبر بالماء عند كل زيارة.

وإذا نصحت بعض من يفعل ذلك تلعثم وما عرف كيف يرد عليك، وبعضهم يعلل فعله بأنه يريد مجرد تثبيت تربة القبر، أقول: ولو كان هذا مقصده فالأولى عدم فعله، لئلا يظن العوام ممن يزور المقبرة أن ذلك سُنّة أو ينفع الميت خصوصا إذا رأوا الكثرة الكاثرة من الناس تفعله.

ومن أخطاء الناس في المقابر الكتابة على القبور للتعرف عليها، وهذا عمل منهي عنه، حيث صح عن جابر –رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" رواه مسلم. وفي زيادة عند الترمذي والنسائي: "أو يكتب عليه".

فينبغي علينا الاستجابة لأوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والوقوف عند حدود الله، وأن لا نحكم العقل على النقل، ولا نقل أننا مسلمون وموحدون، ولا نعتقد بأهل القبور ونحو ذلك من كلمات قد قالتها أمم غابرة قبلنا ثم وقعت في الشرك وفي تعظيم القبور وعبادتها والعياذ بالله. وما يفعله جهلة المسلمين في معظم دول العالم خير شاهد على صدق ذلك وخطر التساهل فيه.

ومن أخطائنا في المقابر وضع الرياحين أو جريد النخل على القبر، ظنا أن ذلك يخفف عن عذاب القبر، وترى البعض يتعاهد هذه الجريدة بالسقي لئلا تيبس، وهذا عمل غير مشروع، ولم يعمله سلف الأمة من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولو فعلوه لرأينا مقابر المسلمين تحولت إلى غابات وحدائق.

ولقد حدث أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مر ذات يوم بقبرين يعذب من فيهما فأمر –صلى الله عليه وسلم- بوضع جريدتين من النخل عليهما وقال: لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا؛ فهذا العمل عده العلماء من خصائص النبي –صلى الله عليه وسلم- لأنه كُشفَ له عذاب هذين المقبورين الذين كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لا يتنزه من البول، واعتبر العلماء أنها شفاعة مؤقتة منه –صلى الله عليه وسلم- لهما.

أما نحن فلو عملنا ذلك للميت فكأننا ندّعي أن الميت يعذب في قبره وهذا سوء ظن به لا يليق.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخلق ورزقهم ولم يتركهم هملا، بل أنزل عليهم الكتب وأرسل إليهم رسلا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته ولم يرتضوا بها بدلا، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن زيارة المقابر سنة عظيمة لم يستفد منها كثير من الناس، فالقبر واعظ صامت، لا يملك العبارات المنمقة، وإنما له لغة أشد تأثيرا من كل اللغات والعبارات، ولترابه الصامت صوت لا يسمعه ولا يعي مدلوله إلا من وقف أمامه متعظا يتأمله وهو يضم بين جنباته جثثا هامدة لصديق وغريب، وأخ وحبيب.

القبر يضم بين جنباته جثثا لا حراك لها ولا نفس، فيه أجسام بالية وعظام نخرة وأشلاء مبعثرة، فهو موطن العظماء والحقراء، والحكماء والسفهاء، والأغنياء والفقراء.

السكون يرفرف على فضائه، والرهبة تنتشر بين أجوائه، فهو الواعظ الصامت. في باطنه السؤال والمناقشة، والتوفيق والتثبيت، فهو روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، قال عنه –صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه". فهل يعي ذلك كل من زار المقابر؟ أو شهد دفن جنازة؟.

أيها الأخ الكريم: إذا زرت القبور تذكر يوم موتك، وإذا رأيت القبور المحفورة تذكر أنك سترقد في واحد مثلها في يوم ما، وكلّما غفل قلبك، واندمجت نفسك في الحياة الدنيا، اخرج إلى القبور بمفردك، وتفكر في أهلها الذين كانوا بالأمس مثلك على الأرض، يأكلون ويشربون، ويتمتعون، ويأملون، فصاروا مرتهنين بأعمالهم لا ينفعهم إلا ما قدّموا.

فإذا زرت المقبرة، قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أُغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك.

فماذا تتمنى -يا ترى- في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا؟ لتركع ركعة؟ لتسبح تسبيحة؟ لتذكر الله -تعالى- ولو مرة؟ ها أنت على ظهر الأرض حيا معافى، فاعمل صالحا قبل أن تعض على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى تتمنى ولا مجيب لك.

فإذا وسدت في قبرك فلا أنت في دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.

نسأل الله أن يحسن ختامنا، ويبصرنا بعيوبنا، ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.

اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يخزينا، ومن كل أمل يلهينا، ومن كل فقر ينسينا، ومن كل غنى يطغينا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي