إِنَّ شَأْنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمٌ، وَمَقَامَهُ مِنْ دِينِهِ سُبْحَانَهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ السِّلَاحُ الَّذِي لَا يُكْسَرُ، وَالْحِصْنُ الَّذِي لَا يُهْدَمُ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي لَا تُقْهَرُ. وَمَا أُتِي الْمُسْتَهِينُونَ بِسِلَاحِ الدُّعَاءِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَهَزِيمَةِ نُفُوسِهِمْ، وَانْهِيَارِ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ، وَسَيْرِهِمْ خَلْفَ مَنْ لَا يَفْقَهُونَ مِنْ مَعَانِي النَّصْرِ إِلَّا احْتِلَالَ الْأَرْضِ، وَالْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ.
الخُطْبَةُ الأولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؛ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَنَاصِرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78] نَحْمَدُهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي الْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ، فَلَا يُحْمَدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ دُعَاءَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَعِدَةً فِي ابْتِلَائِهِ، وَشُؤْمًا عَلَى أَعْدَائِهِ، وَنَصْرًا لِأَوْلِيَائِهِ، فَكَمِ اسْتَنْصَرُوهُ فَنُصِرُوا، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ فَأُغِيثُوا، وَدَعَوْهُ فَغَلَبُوا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال: 9]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَعَلُّقًا بِاللهِ تَعَالَى، وَدُعَاءً لَهُ، وَاسْتِنْصَارًا بِهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَيَقِينًا بِوَعْدِهِ، وَثِقَةً بِمَا عِنْدَهُ، وَفِي بَدْرٍ ظَلَّ يَسْتَغِيثُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبِهِ مِنْ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ يَطْلُبُ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، عَالِمٌ بِنَوَازِلِهِمْ، يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ، وَيُجِيبُ نِدَاءَهُمْ، وَيَرْحَمُ ضَعِيفَهُمْ، وَيُمْلِي لِظَالِمِهِمْ، وَيَمْكُرُ بِفَاجِرِهِمْ، قَالَتْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ: فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]".
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي النَّوَازِلِ وَالْأَزَمَاتِ تَمْحِيصٌ لِلْقُلُوبِ، وَتَمْيِيزٌ لِلصُّفُوفِ، وَاخْتِبَارٌ لِلْإِيمَانِ، وَكَشْفٌ لِلنِّفَاقِ؛ فَالشَّدَائِدُ إِمَّا أَنْ تُورِثَ الرِّضَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَحَمْدِهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ وَدُعَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ تُورِثَ التَّسَخُّطَ وَالِاعْتِرَاضَ وَالشُّكُوكَ، وَتَدُلَّ عَلَى ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ.
وَفِي مَأْسَاةِ حَلَبَ عَلَتْ أَصْوَاتٌ تَتَسَاءَلُ عَنْ جَدْوَى الدُّعَاءِ، أَوْ تَلُومُ مَنْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الِاسْتِنْصَارِ بِاللهِ تَعَالَى حِينَ خَذَلَ الْعَالَمُ كُلُّهُ أَهْلَ حَلَبَ، وَأَسْلَمَ دِيَارَهُمْ وَرِقَابَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ إِلَى أَحَطِّ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى وَأَقْذَرِهِمْ وَأَنْجَسِهِمْ.
وَالْمُؤْمِنُ يَفْرَحُ أَنَّ هَذِهِ اللَّوْثَةَ النِّفَاقِيَّةَ لَمْ يَتَلَوَّثْ بِهَا أَهْلُ حَلَبَ فِي مِحْنَتِهِمْ حِينَ تَلَوَّثَ بِهَا غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ وَهُمْ يُعْلِنُونَ ثِقَتَهُمْ بِاللهِ تَعَالَى، وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ بِقَدَرِهِ سُبْحَانَهُ.
إِنَّ شَأْنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمٌ، وَمَقَامَهُ مِنْ دِينِهِ سُبْحَانَهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ السِّلَاحُ الَّذِي لَا يُكْسَرُ، وَالْحِصْنُ الَّذِي لَا يُهْدَمُ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي لَا تُقْهَرُ. وَمَا أُتِي الْمُسْتَهِينُونَ بِسِلَاحِ الدُّعَاءِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَهَزِيمَةِ نُفُوسِهِمْ، وَانْهِيَارِ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ، وَسَيْرِهِمْ خَلْفَ مَنْ لَا يَفْقَهُونَ مِنْ مَعَانِي النَّصْرِ إِلَّا احْتِلَالَ الْأَرْضِ، وَالْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ. وَهَذَا جُزْءٌ مِنَ النَّصْرِ وَلَيْسَ النَّصْرَ كُلَّهُ؛ إِذْ إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ أَعْظَمُ نَصْرًا مِنْ كَسْبِ أَلْفِ أَرْضٍ. وَعَدَمُ قُدْرَةِ الْعَدُوِّ عَلَى تَغْيِيرِ دِينِ ضَحَايَاهُ وَمَبَادِئِهِمْ وَقَنَاعَاتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى هَزِيمَتِهِ وَلَوْ مَزَّقَ قُلُوبَهُمْ، وَقَطَّعَ أَشْلَاءَهُمْ، وَأَحْرَقَ أَجْسَادَهُمْ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هُمُ الْمُنْتَصِرِينَ مَعَ أَنَّهُمْ أُحْرِقُوا، وَبَقِيَ ذِكْرُهُمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ مُنْذُ تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ وَإِلَى أَنْ يُرْفَعَ الْقُرْآنُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمُ انْتَصَرُوا بِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ رَغْمَ حَرْقِهِمْ، وَكَانُوا مِثَالًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الثَّبَاتِ، وَيَا لَهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أُسْوَةً لِغَيْرِهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ.
إِنَّ أَعْظَمَ النَّصْرِ أَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ ثَابِتًا عَلَى دِينِهِ وَلَوْ حُرِّقَ وَمُزِّقَ وَعُذِّبَ. وَأَمَّا الْبُلْدَانُ وَالدُّورُ وَالْأَمْوَالُ فَتَزُولُ وَيَزُولُ أَثَرُهَا، وَرُبَّمَا اسْتُرْجِعَتْ بَعْدَ حِينٍ فَإِنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَالْحُرُوبَ سِجَالٌ. وَلَكِنَّ الدِّينَ لَا يَزُولُ بِقَتْلِ حَامِلِهِ، بَلْ يَبْقَى لَهُ ثَوَابُ ثَبَاتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَثَبَاتُهُ حَتَّى الْمَوْتِ يُحْيِي أُمَّةً مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي خِضَمِّ اسْتِعْرَاضِ الْجِرَاحِ وَالْآلَامِ؛ يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْبِيَاءَ كُثُرٍ أُصِيبُوا وَأَتْبَاعُهُمْ بِآلَامٍ شَدِيدَةٍ لَكِنَّهَا لَمْ تُحْبِطْهُمْ، وَبِجِرَاحٍ أَلِيمَةٍ لَكِنَّهَا لَمْ تُضْعِفْهُمْ، بَلْ ثَبَتُوا وَصَبَرُوا، ثُمَّ يَحْكِي اللهُ تَعَالَى لَنَا لُجُوءَهُمْ فِي مُصَابِهِمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، يَسْأَلُونَ رَبَّهُمُ الثَّبَاتَ فِي نَوَازِلِهِمُ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمْ، وَافْتَتَحَ اللهُ تَعَالَى الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِـ(كَأَيِّنْ) الَّتِي تُفِيدُ كَثْرَتَهُمْ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْهَجَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمُ اسْتِعْظَامُ أَمْرِ الدُّعَاءِ، وَتَفْخِيمُ شَأْنِهِ، وَالْهَرَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَزَمَاتِ؛ لِلرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ بِهِ، وَتَأْمِينِهَا مِنَ الْخَوْفِ، وَتَقْوِيَتِهَا مِنَ الضَّعْفِ، وَإِخْرَاجِهَا مِنْ دَائِرَةِ الْعَجْزِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالْوَهَنِ وَالْيَأْسِ إِلَى اسْتِثْمَارِ الْحَدَثِ، وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلهِ تَعَالَى فِيهِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمُصَابِ، وَكَثْرَةِ الْإِلْحَاحِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَأْلِ، وَالتَّحَزُّمِ بِالْيَقِينِ وَالتَّوَكُّلِ (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146 - 148].
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الدُّعَاءِ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُؤْمِنُ فِي الرَّخَاءِ وَفِي الشِّدَّةِ، وَلِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ عَوْنٍ يُقَدِّمُهُ الْمُؤْمِنُ لِمَكْرُوبٍ أَوْ مَهْمُومٍ أَوْ مُحَاصَرٍ أَوْ مُعَذَّبٍ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَهَلْ يَظُنُّ مُؤْمِنٌ أَنَّهُ يُقَدِّمُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ سِلَاحًا أَمْضَى مِنَ الدُّعَاءِ وَهُوَ أَكْرَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؟! وَهَلْ يُصَغِّرُ شَأْنَ الدُّعَاءِ مُؤْمِنٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَكْرَمُ شَيْءٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ وَهَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ وَهُوَ أَكْرَمُ شَيْءٍ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ؟
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَمَنْ ظَنَّ بِاللهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْلِمُ دِينَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ لِأَرْذَلِ خَلْقِهِ فَبِئْسَ مَا ظَنَّ؛ إِذْ إِنَّ ظَنَّ الْمُؤْمِنِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ أُصِيبَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَعُذِّبُوا وَقُتِلُوا وَحُرِّقُوا وَشُرِّدُوا مِنْ دِيَارِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَدَّخِرُ لَهُمْ مَنَازِلَ لَا تَبْلُغُهَا أَعْمَالُهُمْ، فَيَبْتَلِيهِمْ لِبُلُوغِهَا، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحْيِي بِعَذَابِهِمْ أُمَّةً كَامِلَةً يُحْدِقُ بِهَا الْخَطَرُ وَهِيَ لَاهِيَةٌ غَافِلَةٌ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُضَيِّعْ دُعَاءَ الُمْحَاصَرِينَ وَهُمْ يَضْرَعُونَ إِلَيْهِ، وَلَا دُعَاءَ إِخْوَانِهِمْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَكِنَّهَا حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ بِنَصْرٍ مُسْتَحَقٍّ، تَسْتَحِقُّهُ الْأُمَّةُ بَعْدَ تَوْبَتِهَا مِنْ ذُنُوبِهَا، وَعَوْدَتِهَا إِلَى دِينِهَا، وَنَفْيِ خَبَثِ النِّفَاقِ عَنْهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِقَطْعِ كُلِّ الْحِبَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْيَأْسِ مِنْ كُلِّ الْمَعُونَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِظْهَارِ الْأَعْدَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا يَقَعُ الْآنَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ.
وَكَيْفَ يَسْتَهِينُ بِالدُّعَاءِ مَنْ يَعْلَمُ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ" نَعَمْ.. لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ فَهُوَ أَقْوَى سِلَاحٍ، فَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ حَذَرٌ مَهْمَا كَانَ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ حُصُونٌ مَهْمَا ارْتَفَعَتْ وَأُحْكِمَتْ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ جَيْشٌ مِنَ الْمُخَابَرَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ تِرْسَانَةٌ مِنَ الْأَسْلِحَةِ النَّوَوِيَّةِ. بَلْ قَدْ تَنْقَلِبُ وَبَالًا عَلَى أَصْحَابِهَا. وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِ هَذَا الْحَدِيثُ لِيَعْلَمَ أَنَّ الدُّعَاءَ أَقْوَى سِلَاحٍ، فَلَا يَتْرُكُهُ فِي مُصِيبَةٍ وَاقِعَةٍ، كَمَا لَا يَتْرُكُهُ فِي دَاهِيَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ قَدَرَ اللهِ تَعَالَى مَاضٍ فِي الْبَشَرِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ، وَيَتَسَلَّحُ بِالدُّعَاءِ فِي رَدِّ مَا يُكْرَهُ مِنْهُ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى فَرَجًا مِنْ عِنْدِهِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَرُدَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْبَاطِنِيِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِهِ فِي دُعَائِكُمْ، فَظُنُّوا أَنَّهُ يَقْبَلُهُ وَيُجِيبُهُ، وَلَا تَسْتَبْطِئُوا الْإِجَابَةَ، وَلَا تَمَلُّوا كَثْرَةَ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ. وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الدَّاعِي لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: حِينَ كَانَ أَهْلُ الْإِيمَانِ قِلَّةً مُسْتَضَامِينَ فِي مَكَّةَ كَانُوا يَعْلَمُونَ قِيمَةَ الدُّعَاءِ فِي رَفْعِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ؛ وَلِذَا طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ مَعَ دُعَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِإِخْوَانِهِمْ، وَقَالُوا فِي طَلَبِهِمْ: "أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟". طَلَبٌ يُوحِي بِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ قُلُوبٍ أَمَضَّهَا الْعَذَابُ، وَأَنْهَكَهَا الْجَهْدُ، وَهَدَّتْهَا الْبَلْوَى؛ فَهِيَ تَلْتَمِسُ الْفَرَجَ الْعَاجِلَ، وَتَسْتَبْطِئُ النَّصْرَ, فَتَسْتَدْعِيهِ. وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَدْعُو لَهُمْ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ تَعَالَى بِالْفَرَجِ.
وَالدُّعَاءُ جِهَادٌ كَمَا قَالَ الشَّامِيُّ فِي سِيرَتِهِ تَعْلِيقًا عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ: "وَقَاتَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ بِنَفْسِهِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا كَانَا فِي الْعَرِيشِ يُجَاهِدَانِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، ثُمَّ نَزَلَا فَحَرَّضَا وَحَثَّا عَلَى الْقِتَالِ، وَقَاتَلَا بِأَبْدَانِهِمَا، جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ" اهـ.
فَلَا تَكِلُّوا وَلَا تَمَلُّوا مِنَ الدُّعَاءِ لِإِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ وُطِئَتْ أَرْضُهُمْ، وَدُنِّسَ عِرْضُهُمْ، وَأُهِينَ رِجَالُهُمْ، وَعُذِّبَ أَطْفَالُهُمْ؛ فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ لَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ وَمِنَ النُّصْرَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النُّصْرَةِ.
وَفِي رُجْحَانِ الدُّعَاءِ عَلَى أَيِّ سِلَاحٍ يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةٌ، مُوَالِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، مُعَادِيَةٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْدَاءِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُلُوبُهُمْ الصَّادِقَةُ، وَأَدْعِيَتُهُمْ الصَّالِحَةُ هِيَ الْعَسْكَرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْجُنْدُ الَّذِي لَا يُخْذَلُ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي