لغنى الله -عز وجل- صورٌ كثيرة, ومظاهر عديدة, منها: أنه -سبحانه- لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلو آمن أهل الأرض كلهم جميعاً ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كفروا جميعاً لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، قال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، وقال تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6]...
الحمد لله رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلمه الأسماء, وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة دار البقاء, وحذره من الشيطان ألد الأعداء، ثم أنفذ فيه ما سبق به القضاء، فأهبطه إلى دار الابتلاء, وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء, نحمده -تبارك وتعالى- على النعماء والسراء، ونستعينه على البأساء والضراء, ونعوذ بنور وجهه الكريم من جَهد البلاء، ودرك الشقاء، وعضال الداء، وشماتة الأعداء, ونسأله عيش السعداء، وموت الشهداء، والفوز في القضاء، وأن يسلك بنا طريق الأولياء الأصفياء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء, وأشهد أن نبينا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء, وإمام المجاهدين والأتقياء, والشهيد يوم القيامة على الشهداء.
أما بعد:
عباد الله: إن الفقر من أخص صفات المخلوقين, فالفقر هو وصف ذاتيّ للمخلوقات، لا ينفك عنهم بحال, فهم فقراء في وجودهم، فقراء في بقائهم, فقراء في الإمداد بالنعم الظاهرة والباطنة, وحصول الأرزاق والأقوات، فقراء في صرف النقم عنهم ودفع المكاره وإزالة العقبات، فقراء في تعلّم ما يجهلون وإدراك ما لا يعلمون، ولو وكلوا إلى أنفسهم لهلكوا، فقراء في معرفة الخير من الشر, الصديق من العدو, النافع من الضار, الهداية من الضلال, ولكن برحمة الله يلجؤون إلى ربهم الغني, الذي يكفيهم حاجاتهم كلّها مهما تنوّعت واختلفت، ولذا فحديثنا في هذه الخطبة عن اسم الله الغني ودلالاته.
الغني اسم من أسماء الله تعالى، وهو من ليس محتاجا لغيرة, والغنى يدلّ على الكفاية كما ذكر أهل اللغة, وفي القرآن الكريم استعمالٌ للغنى على عدّة معانٍ تدور جميعها في معنى الكفاية وعدم الاحتياج. فالله -جل وعلا- غني غنىً مطلقا عن جميع خلقه، فليس محتاجا إلى أي منهم؛ لأنه -سبحانه- هو خالق الخلق، ومالكهم، ومدبر أمرهم، الغني تعالى خزائن كل شيء عنده وحده، يمد منها خلقه بقدر معلوم حسب مشيئته -سبحانه-, كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر21].
والله -سبحانه- هو الغني بذاته، المستغني عن الخلق بقدرته وعزّ سلطانه، فله الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات؛ لكمال ذاته وكمال صفاته, قال أبو إسحاق الزجاج: "والله هو الغَنِيُ المُسْتَغْنِي عن الخلق بقدرته وعز سلطانه والخلق فقراء إلى تَطَوُّلِهِ وإحسانه, كما قال تعالى (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) [ محمد:38 ]". وقال الزجاجي: "فاللَّه -عز وجل- الغني ليس بمحتاج إلى أحد فيما خلق ويخلق ودبَّر ويُدبِّر ويُعْطِي ويَرْزُق ويَقْضِي ويُمْضِى, لا رادَّ لأمْرِه وهو على ما يَشاءُ قدير", وقال الخطابي: "الغَنِىُ هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكه، فليست به حاجة إليهم، وهم إليه فقراء محتاجون إليه".
وغنى الله غير غنى العباد, فغنى الله -سبحانه وتعالى- هو الغنى الكامل المطابق للمعنى اللغوي من الكفاية والاستغناء وعدم الحاجة، بينما غنى العباد غنىً نسبي ناقص، فقد يستغني أحدنا عن رجل ويكون غير محتاج له, مع حاجته لغيره، ولن يعدم مخلوق أن يكون محتاجاً لغيره في معونة أو تصرّف أو فعل أو غيرها من الأمور، ولذلك سخّر الله تعالى الخلائق بعضها لبعض, والحاصل أن غنى العباد مشوب بالنقص، أما غنى الله تعالى فهو الغنى الحقيقي عن كلّ شيء، والخلق إليه مفتقرون، قال -سبحانه-: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر:15].
عباد الله: لقد ورد اسم الله (الغني) في القرآن الكريم في ثمانية عشر موضعا، عشر مرات منها مقترنا مع اسم الله (الحميد) ومرة مع اسم الله (الكريم), ومرة مع اسم الله (الرحيم), وخمس مرات منفرداً, ولكل اسم اقترن مع اسم الله (الغني) معانٍ ودلالات, وإشارات لا يفهمها إلا أولو النهى والأبصار.
فاقتران اسم الله (الغني) باسم الله (الحميد) يدل على أن الله المتصف بالغنى المطلق هو وحده المستحق للحمد المطلق على نعمه وآلائه التي لا تعد ولا تحصى, فالله -عز وجل- غني عن خلقه, وجميع خلقه فقراء إليه؛ لذلك وجب إفراد الغني تعالى بالحمد والثناء المطلق.
وورد اسم (الغني) مقترنا باسم (الحليم) -سبحانه- مرة واحدة في قوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [البقرة 263]فهو -سبحانه- مع غناه المطلق الذي لا يحتاج به إلى أحد من خلقه؛ فإنه حليم عليهم حين يعصونه رغم عدم حاجته إليهم.
كما ورد اسم الله (الكريم) مع اسم الله (الغني) في قوله تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [ النمل 40], إن الله الكريم كرما مطلقا لا يسلب عباده الذين يعصونه نعمه التي تفضل بها عليهم إلا بعد أن يذكروا ويوعظوا ويبين لهم، فإذا نسوا ما ذكروا به سلبهم ما أعطاهم, كما يقول تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [ الأنعام 44], فسبحان الغني واسع الكرم لا يسلب عباده العاصين بمجرد عصيانهم نعمه، بل يمهلهم وقد يزيد في الإنعام عليهم، فإذا ما ظلوا في غيهم سادرين أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وورد اسم (الغني) مقترنا بصفة الرحمة في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام 133], فهو تعالى رحيم بمن عصاه من خلقه، لا يعاجلهم بعقوبته فور عصيانهم، يمهل عباده العاصين لعلهم يرجعون إليه ويتوبون, وهذا من كمال رحمته وكرمه -سبحانه-.
أيها المؤمنون: لغنى الله -عز وجل- صورٌ كثيرة, ومظاهر عديدة, منها: فهو -سبحانه- لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلو آمن أهل الأرض كلهم جميعاً ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كفروا جميعاً لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، قال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، وقال تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6]، وقال تعالى: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن: 6]، وقال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم: 8]. وفي الحديث القدسيّ يقول الله تعالى: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وقال: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني" [رواه مسلم].
ومن صور كمال غناه تعالى: أن إنفاق المنفقين وبذل الباذلين في سبيله وابتغاء مرضاته لا ينفعه بشيء، وكذلك بخل البخلاء وإمساك المقترين لا يضره شيئاً, قال الله تعالى: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة: 267].
بارك الله لي ولكم في القرآن, وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق. والصلاة والسلام على حبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
أما بعد: فمن صور كمال غناه: تنزهه -تبارك وتعالى- عن النقائص والعيوب، فمن نسب إليه تعالى نقصاً فقد نسب إليه ما ينافي غناه، قال تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [يونس: 68], كذلك تعالى غنيٌ عن الطعام والشراب والنوم, وكل ما يعتري البشر من حاجات تدل على الافتقار, قال تعالى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات: 57], وقال: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ) [البقرة: 255].
ومن صور كمال غناه: تنزّهه -تبارك وتعالى- عن الشركاء والأنداد؛ إذ كيف يسوى الفقير الضعيف بالغني, الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟!!، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، الذي جميع رقاب العبيد تحت قبضته وطوع تدبيره، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة: 17].
ومن صور كمال غناه: أن خزائن السموات والأرض بيده تعالى، وأن جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأن يديه سحاء في كل وقت, (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [لقمان: 26].
ومن صور كمال غناه: أنه يدعو عباده إلى سؤاله في كلّ وقت، ويعدهم بالإجابة مهما عظم السؤال، ويأمرهم بعبادته ويعدهم القبول والإثابة، وهو -تبارك وتعالى- واسع الفضل، جزيل النوال، وقد آتاهم من كل ما سألوه، وأعطاهم كل ما أرادوه وتمنوه.
ومن صور كمال غناه: أنه لو اجتمع أهل السموات والأرض, وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه كل ما تعلقت به نفوسهم فأعطاهم سؤلهم؛ لم ينقص ذلك مما عنده، ففي الحديث القدسي يقول تعالى: "يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر" [رواه مسلم].
عباد الله: إن من عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربّه بالعزِّ التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربَّه بالحكمة والعلم التام عرف نفسه بالجهل، وإن عِلمَ العبد بافتقاره إلى الله تعالى دائماً وأبداً هو ثمرة هذه المعرفة باسمه تعالى الغني, والذي هو عنوان سعادة العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة.
واعلموا -أيها الناس- أن أكمَلُ الخلْق عبوديَّةً لله تعالى؛ أعظمهم شُهُودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه تعالى، وعدم استغنائه عنه طرْفة عين، ولهذا كان من دعائه -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ, وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ". [رواه أحمد وأبوداؤد].
اللهم اغننا بالافتقار إليك, وأعزنا بالذل بين يديك, واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا, وما أسررنا وما أعلننا, وما أنت به أعلم منه, أنت المقدم وأنت المؤخر, وأنت على كل شيء قدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي