كانت مرحلة الجاهلية قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرحلة قاتمة سوداء، عم فيها الظلام، وخفق فيها نور الهدى والإيمان، ولكن كان لتلك المرحلة القاتمة المظلمة مواقف تسترعي الانتباه، وتدعو إلى التأمل فيها، وتستحق الوقوف طويلا عندها لا لأجل التسلية والترفيه، ولكن لأجل العبرة والعظة، خاصة...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون -عباد الله-: كانت مرحلة الجاهلية قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرحلة قاتمة سوداء، عم فيها الظلام، وخفق فيها نور الهدى والإيمان، ولكن لتلك المرحلة القاتمة المظلمة كانت هناك مواقف تسترعي الانتباه، وتدعو إلى التأمل فيها، وتستحق الوقوف طويلا عندها لا لأجل التسلية والترفيه، ولكن لأجل العبرة والعظة، خاصة إذا قارنا بين تلك المواقف التي حصلت في زمن الجاهلية، وبين المواقف اليومية التي نشاهدها أو نسمع عنها، وتأملنا في الفارق المؤسف بين أخلاق بعض أهل الجاهلية، وأخلاق بعض أهل الإسلام.
لعلكم -أيها الأحباب- سمعتم عن الحصار الذي ضرب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب، كان ذلك في السنة السابعة من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
رأت قريش أن الإسلام قد انتشر فاجتمعوا واتفقوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب كانوا أبناء عمومة حتى يسلم إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقتلوه، اتفقوا أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكتبوا بهذا صحيفة، وعلقوا هذه الصحيفة في جوف الكعبة.
وبالفعل بدأ هذا الحصار وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب جميعا مؤمنهم وكفرهم إلا أبا لهب انحازوا إلى شعب أبي طالب، وصاروا فيه محاصرين لا يباع لهم، ولا يشترى منهم، ولا يعاملون في شيء، فانقطع عنهم الطعام، وقل الزاد حتى أكلوا أوراق الشجر، وجلود الحيوانات، حتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وأطفالهم وهم يتضاغون من الجوع.
ومر على هذا الحال ثلاثة أعوام كاملة حتى تحركت النخوة في نفوس بعض القرشيين المشركين، ففكر هشام بن عمرو وهو من بني عامر فكر في هذا الأمر، وذهب إلى زهير بن أبي أمية، وكانت أمه هي عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال له: يا زهير أترضى أن تأكل وتشرب وأخوالك -يعني بني هاشم- وأخوالك حيث تعلم محاصرين لا يأكلون ولا يشربون؟
فقال له زهير: ويحك فماذا أصنع وأنا رجل واحد لو كان عندي رجل آخر لقمت إلى هذه الصحيفة فنقضتها؟ فقال له هشام بن عمرو: قد وجدت رجلا، قال: فمن؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا؟ فذهب إلى المطعم بن عدي فأقنعاه ووافق، ثم ذهبوا إلى أبي البختري بن هشام فأقنعاه ووافق، ثم ذهبوا إلى زمعة بن الأسود فأقنعوه ووافق.
فاتفق هؤلاء الخمسة وكلهم من المشركين اتفقوا على نقل هذه الصحيفة فغدوا في الصباح على أنديتهم، وهي أماكن تجمع الناس وكانوا قد اتفقوا أن زهير هو الذي سيبدأ بالمطالبة بنقض الصحيفة.
وبالفعل جاء زهير وطاف بالبيت سبعة، ثم قام وخطب في الناس وقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟!
والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقام أبو جهل وقال: كذبت والله لا تشق أبداً، فقال زمعة بن الأسود وهو أحد الخمسة قال: بل والله أنت أكذب، والله ما رضينا كتابتها حين كتبت ولا نقر ما فيها.
وقام المطعم بن عدي وقال: والله لا نرضى ما كتب فيها، ونبرأ لله مما فيها.
وقام أبو البختري بن هشام وقال مثل ذلك.
وقام هشام بن عمرو وقال مثل ذلك بحسب الاتفاق الذي كان بينهم.
وارتفعت الأصوات، وبدأ الخلاف يشتد، وكان أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حاضرا يسمع هذا الكلام، فجاء إليه وأخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبره أن الصحيفة التي في جوف الكعبة قد أكلتها الأرضة، أكلت ما فيها من جور وظلم وقطيعة إلا ما كان من ذكر الله.
فقال لهم أبو طالب: فإن كان ابن أخي كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، فقالوا له: قد أنصفت يا أبا طالب.
فقام المطعم بن عدي ليأخذ الصحيفة ويشقها، فإذا هي قد أكلت، أكلتها الأرضة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق فيها إلا عبارة: "بسمك اللهم"، فانتهى الحصار ونقضت هذه الصحيفة بفضل الله -تعالى-.
تأملوا -أيها الأحباب- في موقف هؤلاء الخمسة من المشركين، كانوا مخالفين للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الدين والعقيدة، ولم يؤمنوا به، لكنهم لم يقبلوا أن يعاني الأطفال والنساء والشيوخ، لم يقبلوا أن يتألموا ويجوعوا بغير ذلك، فقاموا لينقضوا هذه الصحيفة، ويرفعوا هذا الظلم، ليس لأي مصلحة لهم؛ إنما هي الشهامة العربية، والنخوة الإنسانية التي لم تمت في زمن الجاهلية وماتت للأسف في زمن العلم والتقنية.
موقف آخر من المواقف التي نحتاج إلى وقوف عندها: أبو سفيان بن حرب سيد من سادات قريش وكبرائها يدعوه هرقل ملك الروم ليسأله أسئلة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان في ذلك الوقت لا زال أبو سفيان مشركا، فجاء أبو سفيان ومعه جماعة من أصحابه وقومه، وكان هرقل رجلا عاقلا ذكيا، فقال لأبي سفيان: تقدم، وجعل أصحابه منه خلفه، وقال لهم: إني سائل هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، وهذه حركة ذكية؛ لأنهم لو كانوا بجانب أبي سفيان فكذب لخافوا أن يكذبوه فيراهم، لكن هرقل جعلوهم خلفه حتى إذا كذب أبو سفيان يستطيع الواحد من الخلف أن يشير دون أن يراه أبو سفيان، ولكن أبو سفيان كان واثقا أن أصحابه لن يكذبوه مهما قال، لقوة العصيبة القبلية بينهم.
مع هذا، اسمعوا ماذا يقول أبو سفيان يقول: فو الله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذبا لكذبت عليه؟
لولا الحياء أن يخرج الناس، فيقولوا: أبو سفيان كذب وهو سيد من السادات، حتى لا يتكلم الناس أن هذا الرجل الكبير كذب، فيسأله هرقل يقول له: كيف نسبه فيكم؟ فيقول: هو فينا ذو نسب، فيقول له: هل كان من آبائه من ملك؟ فيقول له: لا، فيسأله: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم؟ فيقول له: ضعفائهم، فيقول هرقل: فهل يزيدون أم ينقصون؟ فيقول أبو سفيان: بل يزيدون، فيسأله: هل يرتد أحد منهم سخطة عن دينه؟ فيقول أبو سفيان: لا، فيسأله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فيقول: لا، فيسأله: هل يغدر؟ فيقول: لا.. إلى آخر الأسئلة.
لاحظوا -أيها الأحباب- لم يكذب كذبة واحدة، أجاب عن جميع الأسئلة بإجابات صادقة مع أنه في ذلك الوقت كان محاربا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن على قريش عدو أعدى له من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت فرصة عظيمة أن يكذب أمام ملك الروم، أن يستعين به على حرب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا كله لم يكذب كذبة واحدة، بل أجاب بكل صدق وصراحة، ونطق بالحق الذي رآه من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قارنوا بين هذا وبين موقف كثير من السادات والوجهاء من المسلمين الذين يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون، ويعلمون أن الناس يعلمون أنهم يكذبون، ولا زالوا يكذبون على الناس ليل نهار دون حياء.
تأملوا في هذا الموقف واسألوا مواقع التواصل والصحف والقنوات الفضائية أين نجد رجلا منصفا كهذا ينصف خصمه ولا يكذب عليه كذبة واحدة؟
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
أيها الأحباب الكرام: من هذه المواقف التي تسترعي الانتباه موقفان آخران جريا في حادثة واحدة في السنة السادسة للهجرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يريدون بيت الله الحرام، ليعتمروا لا يريدون حربا ولا قتالا، ولم يأخذوا معهم سلاح الحرب، فقط أخذوا سلاح المسافر الخفيف، وتوجهوا إلى مكة ناوين بذلك العمرة.
بلغ الخبر لقريش، فعزمت أمرها على منع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجمعت رجالها لهذا الغرض، فعرض عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرضا حسنا، عرض عليهم الصلح، فإن أبوا فالقتال.
ففكر أهل قريش فوجدوا أن هذا العرض حسن جميل، فوافقوا على فكرة الصلح، وأرسلوا المفاوضين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الواحد تلو الآخر، وكان ممن أرسلوه رجلا يدعى: الحليس بن علقمة، لما أشرف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وصار قريبا منهم عرفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال لأصحابه: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها".
فبعث الصحابة ما كان عندهم من الإبل التي ساقوها للهدي، وصاروا يلبون يرددون التلبية: "لبيك اللهم لبيك" فلما رآهم هذا الرجل وكان مشركا لما رآهم على هذا الحال، قال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت".
فرجع إلى قريش مباشرة، وقال لهم: إني رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، سيقت للهدي، ورأيت الناس يلبون، فما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، وجرى بينه وبين قريش كلام ونزاع.
انظروا لهذا الرجل من أهل الجاهلية يعظم شعائر الدين، لما رأى الصحابة يرددون التلبية ويظهرون نية العمرة، نسي الخلاف الذي بينه وبينهم تعظيما لهذه الشعيرة، فأين هذا ممن لا يراعي حرمة لمسجد ولا مصحف؟ أين هذا ممن لا يراعي حرمة كلمة لا إله إلا الله، فيقتل المصلين، ويبيح دماء المؤمنين؟ أين هذا ممن يستخف ويستهزأ بالقرآن والسنة والدين؟
هذا أحد الموقفين.
موقف آخر لمفاوض آخر أرسلته قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول له: يا محمد أرأيت لو استأصلت قومك؟ فهل سمعت عن أحد من العرب اجتاح قومه قبلك؟ وإن تكن الأخرى يعني القتال فإني لا أرى وجوها لا أرى معك رجالا، إنما أرى أوباشا خليقا أن يفروا عنك ويدعوك.
فنطق أبو بكر وكان بجانبه وسبه سبا مقذعا، وقال له: أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال عروة: من هذا؟ قالوا: هذا أبو بكر، فقال عروة واسمعوا لهذه الكلمة، قال: "لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك" أي معروف صنعته لي لم أجزك، لم أرد هذا المعروف إليك إلى الآن لأجبتك، لكن لأن هناك معروف في عنقي لأنك صنعت لي جميلا وإلى الآن لم أرد لك هذا الجميل فلا أستطيع أن أجيب عليك.
حفظ المعروف، حفظ الإحسان، وفاء عجيب ربما نفتقده كثيرا في هذا الزمن، في زمن صار شعار الكثيرين فيه: "اتق شر من أحسنت إليه"، وهذا رجل مشرك حفظ معروف لأبي بكر وهم في حالة حرب وقتال، ولم ينس هذا المعروف، ولم يرد على أبي بكر ما قال له.
هذه بعض المواقف التي نأخذ منها العبر، نأخذ منها العظة، فنحن أولى بهذه الشيم والأخلاق، إن كانوا هم أهل شرك فنحن أهل توحيد، إن كانوا هم أهل كفر فنحن أهل إيمان، إن كانوا هم أهل جاهلية فنحن أهل إسلام.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهد لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي