في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‘بادروا بالأعمال‘

صالح بن فوزان الفوزان
عناصر الخطبة
  1. الحث على المبادرة للأعمال الصالحة .
  2. خطر تسويف الأعمال الصالحة .
  3. قواطع وموانع الأعمال الصالحة .

اقتباس


أرأيتم -يا عباد الله- لو أعلن عن مساهمة دنيوية في شركة يحتمل أن تربح ويحتمل أن تخسر؛ ألستم ترون الناس يتزاحمون على تقديم ما لديهم من أموال فيها رجاء ربحها، مع أنه ربح مظنون، وشرّه غير مأمون. في حين أن المتقدم للمساهمة التي يعلن عنها رب العالمين قليل من الناس؛ وما ذاك إلا لضعف اليقين، وإيثار الدنيا على الدين

الحمد لله الذي أمرنا بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات. وحذرنا من التكاسل والتشاغل بهذه الدنيا عما خلقنا لأجله. وأمرنا بالاستعداد له من يوم لقائه والوقوف بين يديه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 88: 89]

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إليه المصير. وإليه ترجع الأمور. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حث على المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال، واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات، وكان أول المبادرين إلى الطاعات والسابقين إلى الخيرات. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واعلموا أن الفرص تفوت، وأن أجل الإنسان موقوت، وإقامته في هذه الدنيا محدودة، وأيامه فيها معدودة، وأن الآخرة هي دار القرار، والمصير فيها إلى الجنة أو النار.

إن سعادتك أو شقاوتك -أيها الإنسان- تتركز على هذه الأيام؛ فإما أن تكون من الذين يقال لهم غداً: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24] وإما أن تقول هناك: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]

إن ربنا -سبحانه وتعالى- يحثنا على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل فوات وقتها، ويعرض علينا أغلى السلع بأيسر الأسعار فيقول سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21]

هذه هي الإعلانات الربانية في الآيات القرآنية عن المساهمة في التجارة الرابحة في الدار الباقية والجنة العالية. إنه إعلان من أصدق القائلين. إعلان ممن لا يضيع لديه عمل عامل. إعلان عن مساهمة تربح أضعافاً مضاعفة تكون الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]

أرأيتم -يا عباد الله- لو أعلن عن مساهمة دنيوية في شركة يحتمل أن تربح ويحتمل أن تخسر؛ ألستم ترون الناس يتزاحمون على تقديم ما لديهم من أموال فيها رجاء ربحها، مع أنه ربح مظنون، وشرّه غير مأمون. في حين أن المتقدم للمساهمة التي يعلن عنها رب العالمين قليل من الناس؛ وما ذاك إلا لضعف اليقين، وإيثار الدنيا على الدين.

إن الناس يسارعون إلى طلب الدنيا؛ لأنهم يعلمون أنها لا تحصل إلا ببذل الأسباب وارتكاب الصعاب؛ فما بالهم لا يطلبون الجنة ببذل الأسباب الموصلة إليها؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "الكيس من دان نفسه أي: حاسبها وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142]

عباد الله: إن لكل عامل جزاء، ولكل مفرط ندامة، ولكل شيء في هذه الدنيا نهاية، وكل ما هو آت قريب، ولكل أجل كتاب. وقد أعطيت -يا ابن آدم- إمكانيات تستطيع بها أن تعمل لنفسك في دنياك ما ينفعك في آخرتك، وإن هذه الإمكانيات يوشك أن تسلب منك عما قريب؛ فلا تستطيع حينئذ العمل؛ فاحذر من التسويف والجري وراء الأماني الكاذبة والآمال الخادعة، وانتهز ساعتك التي أنت فيها للعمل للآخرة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" رواه الترمذي.

إنها كلمات جامعة، ووصايا نافعة. كل كلمة منها تحمل نذارة وتحذيراً من خطر محقق إن لم يتداركه الإنسان وقع فيه.

إنه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث يأمرنا بالمبادرة بالعمل الصالح قبل أن تحول بيننا وبينه القواطع المانعة، وهي قواطع وموانع كثيرة إن سلم الإنسان من واحدة منها لم يسلم من بقيتها؛ لأنه في هذه الدنيا معرض للآفات؛ فهو إما أن يصاب بالفقر الذي ينسيه العمل؛ لأن الفقر يجلب الغم والهم الذي يشغل النفس ويكدر البال، فينشأ عن ذلك نسيان العمل.

والآفة الثانية: أن يصاب بغنى وفيض من المال يحمله على الطغيان فيشغله بتحصيل ملذاته، ويتلهى به في جميع أوقاته. بحيث لا يبقى عنده وقت للعمل للآخرة، أو يرى أنه ليس بحاجة إلى العبادة (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق 6: 7]

وهذه هي آفة كثير من الناس في عالمنا المعاصر؛ فإن الله أفاض عليهم الأموال وأدر عليهم النعم فاستكبروا عن طاعة الله إلا من قل، وأترفوا في أنفسهم، وصار همهم تزويق المساكن، وتفخيم المراكب، وتنويع المآكل والمشارب، وإعطاء النفس مشتهياتها -ولو من الحرام-، وأعرضوا عن الطاعة؛ فهجروا المساجد، وثقلت عليهم العبادة، وقل خوف الله في قلوبهم، وصاروا عبيداً للدنيا والشهوات، وغرتهم الدنيا بزهرتها. قد هان عليهم دينهم. وضعف بالآخرة يقينهم. هذا ما يحصل من جراء الغنى والفقر.

والآفة الثالثة: أن يصاب الإنسان بمرض مفسد يفسد عليه عقله أو بدنه. فإن فسد عقله لم يبق عنده شعور بالعبادة. وإن فسد بدنه لم يبق عنده استطاعة للقيام بها. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" فاغتنم أيها المسلم صحتك قبل مرضك.

والآفة الرابعة- لو سلم الإنسان من المرض ومتّع بالصحة فإنه معرض لموت مجهز؛ والمجهز هو السريع الذي يأخذه بغتة، وهو في حال الصحة وعنفوان الشباب، وما أكثر ما نشاهد هجمات الموت على الأفراد والجماعات في حالات أمنهم وغفلتهم وسرورهم واغترارهم بصحبتهم.

والآفة الخامسة: إذا سلم الإنسان من الموت المبكر ومُّدَّ في عمره لم يسلم من الهرم المفند. أي الذي يفضي بصاحبه إلى حد التخريف والهذيان فلا يعقل شيئاً من أمره. قال تعالى: (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [النحل :70]

والآفة السادسة: أن الإنسان ما دام على قيد الحياة فهو معرض لفتنة عظيمة لا ينجو منها إذا وقعت إلا قليل من الناس، ألا وهي فتنة المسيح الدجال الذي يظهر على الناس في آخر الزمان، ويجري على يديه محن عظيمة وفتن شديدة. ولذلك حذرت منه الأنبياء أممها. وأشدهم تحذيراً منه لأمته نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقد شرع لنا أن نستعيذ من فتنته في آخر كل صلاة. وقد أصبح ظهوره قريباً بالعلامات الواضحة. أعاذنا الله وإياكم من فتنته وثبتنا على ديننا.

الآفة السابعة: وهي أشد الآفات وأعظم البليات قيام الساعة، ذلك الحدث الذي يذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع من هوله كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

عباد الله: أيليق بنا أن نتكاسل عن العمل الصالح ونحن معرضون لهذه المخاطر، ونضيع الفرض ونهدر الإمكانيات ونفتح لأنفسنا أبواب الأمل والأماني ونطمع بالنجاة من غير بذل لأسبابها؟ لقد ظلمنا أنفسنا فلنتب إلى الله قبل فوات الأوان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) السورة.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي