أصل عظيم تجب العناية به وكثرة الحديث عنه؛ لمكانته من الدين، ولأثره على الأعمال، ولحرص الذين سبقونا بالإيمان على تحقيقه وتطبيقه، ذلك بأن قوام العمل عليه، بل هو شرط في قبوله، إنه إخلاص العمل لله -عز وجل-...
الحمد لله الذي (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الحميد، القوي المجيد، له الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وهو العليم بذات الصدور، (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، اللهم صل وسلم على هذا النبي الكريم، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، وأنلنا شفاعته، وأجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته. وارض اللهم عن آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون بالله ولقائه، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، والإخلاص له في الأقوال والأعمال، فهذا -والله- طريق السعادة والفلاح.
أيها المسلمون: أصل عظيم تجب العناية به وكثرة الحديث عنه؛ لمكانته من الدين، ولأثره على الأعمال، ولحرص الذين سبقونا بالإيمان على تحقيقه وتطبيقه، ذلك بأن قوام العمل عليه، بل هو شرط في قبوله، إنه إخلاص العمل لله -عز وجل-، فهو واجب في العبادات، وهو عمل القلب، الإخلاص الذي هو تصفية العمل وتخليصه عن ملاحظة الناس، الإخلاص الذي هو القيام بالعمل لإرادة وجه الله -عز وجل- لا لحظ من الناس.
إن كل عمل لا بد له من نية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، وهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عده العلماء نصف الإسلام، ومنهم من قال: ثلث الإسلام؛ ولهذا كان السلف يتعلمون النية للعمل كما نتعلم العمل؛ لأهمية ذلك وشدته على النفس.
قال بعضهم: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد، وذلك بسبب تقلب القلب، وسرعة تحولاته، وكثرة الواردات عليه".
قال سهل بن عبد الله: "القلب رقيق تؤثر فيه الخطرات"، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وفي المسند وسنن ابن ماجة: "ما من قلب إلا وهو معلق بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه".
وفي المستدرك ومسند أحمد عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقلب ابن آدم أشد تقلبا من القِدر إذا استجمعت غليانا".
أيها المسلمون: إخلاص العمل لله، وإرادة وجه الله، سبب للنجاة من شدائد الدنيا والآخرة، وسبب لنيل السعادة فيهما، فكم رفع الله أقواما بسببه، وكم نجا آخرون لإخلاصهم، وكم تبوأ أقوام المنازل العالية في الجنان لصدقهم مع الله وإخلاصهم في أعمالهم.
لما حضرت غزوة تبوك حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على البذل والإنفاق، فكلٌّ جاء بما يقدر عليه، بينما وجد عدد من فقراء المسلمين لا يجدون ما ينفقون، فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدق وإخلاص يريدون منه أن يحملهم للجهاد، فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فانصرفوا تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، كما ذكر الله ذلك في القرآن.
ولكن، تأمل: لما علم الله صدق نياتهم بلغهم منازل المجاهدين المنفقين، وكان من هؤلاء علبة بن زيد -رضي الله عنه-، قام يصلي من الليل ثم دعا وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغّبت فيه، ولم تجعل في يدي ما أجاهد به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يجهزني للخروج، وإني أتصدق على كل مسلم ومسلمة بكل مظلمة ظلمني فيها من مال أو عرض"، فلما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر كان الوحي قد جاءه من السماء، فقال: "أين المتصدق البارحة؟"، فلم يقم أحد، فقال: "أين المتصدق البارحة؟ فليقم!"، فقام علبة بن زيد فقال: أنا يا رسول الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أبشر! فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة".
ولما رجعوا من الغزوة قال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرة ولا قطعتم واديا إلا شركوكم في الأجر، حبسهم العذر". هكذا شأن النيات والمقاصد، ترفع أقواما وتجعلهم في مصاف العاملين، بل هم قد عملوا.
إن شأن النية وثوابها جسيم عظيم، والمخلصون هم الناجون في الدنيا والآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إِلى غَارٍ فَدَخلُوهُ، فانْحَدرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أنْ تَدْعُوا اللهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ.
قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مالاً، فَنَأَى بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْماً فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أو مالاً، فَلَبَثْتُ -والْقَدَحُ عَلَى يَدِي- أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ، والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَميَّ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ.
قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمّ، كَانَتْ أَحَبَّ النّاسِ إليَّ -وفي رواية: كُنْتُ أُحِبُّها كأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النساءَ- فأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا فامْتَنَعَتْ منِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمئةَ دينَارٍ عَلَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا -وفي رواية: فَلَمَّا قَعَدْتُ بَينَ رِجْلَيْهَا- قالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاّ بِحَقِّهِ، فَانصَرَفْتُ عَنْهَا وَهيَ أَحَبُّ النَّاسِ إليَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيتُها. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وأَعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُل واحدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهبَ، فَثمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنهُ الأمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعدَ حِينٍ، فَقالَ: يَا عبدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أجْرِكَ، مِنَ الإبلِ وَالبَقَرِ والْغَنَمِ والرَّقيقِ، فقالَ: يَا عبدَ اللهِ، لاَ تَسْتَهْزِئ بي! فَقُلْتُ: لاَ أسْتَهْزِئ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يتْرُكْ مِنهُ شَيئاً. الَّلهُمَّ إنْ كُنتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" رواه البخاري ومسلم.
فتأمل -رحمك الله- في قول كل واحد منهم: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك"، أي: خالصا لا رياء فيه ولا سمعة؛ فاستجاب الله لهم وفرج عنهم.
أيها المسلمون: الإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، وهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة عمل الخير، فمن يصلي رياء أو حياءً لا بد أن تمر عليه أوقات لا ينهض فيها إلى صلاة، ومن يفعل المعروف ليذكر في المجالس أو في وسائل الإعلام قد يرى بعينه بابا من أبواب الإحسان فيصرف وجهه عنه لأنه خفي ليس بجانبه لسان ولا قلم ليذكر هذا الإحسان إطراءً ومدحا، وهكذا في سائر أبواب الخيرات.
ومن هنا كان السلف يواصلون عمل الخير ويخفونه عن أقرب الناس إليهم، قالت زوجة حسان بن أبي سنان: "كان حسان يجيء فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم قام يصلي، فقلت له: يا أبا عبد الله، كم تعذب نفسك! أرفق بها! فقال: ويحك! يوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا".
وجاء في ترجمة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- عن محمد بن أعين وهو صاحبه في أسفاره قال: "كنا ذات ليلة في غزو الروم، فذهب ابن المبارك ووضع رأسه ليُريني أنه نام، فقمت أنا برمحي في يدي فقبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني نمت، قال محمد: فظن ابن المبارك أني نمت، فقام يصلي حتى طلع الفجر، فأيقظني يظن أني نائم، فقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني كلاما ينبسط فيه إلي طوال الغزوة، كأنه لم يعجبه ذلك حين فطنت إليه في ذلك العمل، فلم أزل اعرفها فيه حتى مات، وما رأيت رجلا أسرّ بالخير منه".
وكان -رحمه الله-، أي: ابن المبارك، يتردد إلى بلدة طرسوس، وكان ينزل في مكان له، فكان شاب يتردد إليه ويتعلم منه ويسمع منه الحديث ويقوم بحوائجه، وفي إحدى المرات فقده ابن المبارك، فقيل محبوس بدين مقداره عشرة آلاف درهم، فسأل ابن المبارك عن صاحب المال فأعطاه المبلغ وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش ابن المبارك، فأُخرج الشاب من الحبس، وسافر ابن المبارك، ولحقه الشاب على مسافة مرحلتين من البلد، فقال له ابن المبارك: يا فتى، أين كنت؟ لم أرك! قال: كنت محبوسا بدين، قال وكيف خلصت؟ قال جاء رجل فقضى ديني ولم أدر من هو، قال: فاحمد الله، ولم يعلم هذا الشاب بأن ابن المبارك -رحمه الله- هو الذي قضى دينه إلا بعد موت ابن المبارك.
نسأل الله الكريم أن يوفقنا للإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يصلح القلوب؛ إنه جواد كريم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا أن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة على قدر إخلاصه لله -عز وجل-، والمخلص تتحقق له طمأنينة القلب، والرفعة في الدارين، وقبول الدعاء، وتفريج الكرب.
وبالإخلاص يبعد الإنسان عن الوساوس والأوهام، قال الداراني: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء، وكلما كانت العبادة عن عيون الناس وأسماعهم أخفى كان نفعها أعظم، وكان صاحبها أسلم".
وقد مر أبو أمامة -رضي الله عنه- على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي ويدعو، فقال: "نِعم أنت لو كان هذا في بيتك!".
فيا أيها المتصدق، ويا أيها المؤلف والمغرد والإعلامي، ويا باغي الإحسان، ويا أصحاب العلم والقرآن، ويا معاشر العاملين والعباد، ويا عموم المسلمين، الله اللهَ في إخلاص الأقوال والأعمال للواحد القهار! فلا تخفى على الله خافية، ولكل امرئ ما نوى، وربنا علام الغيوب، إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:7] (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:13-14].
يا ربنا، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، اجعلنا من عبادك المخلصين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي