والإرجاف أشد من الإشاعة؛ لأن الإشاعة عامة في نقل جميع الأخبار حسنها وسيئها؛ وأما الإرجاف فهو خاص بنقل الأخبار السيئة فقط، وهو حرام؛ لأنَّ فيه أذية للمسلمين، قال الله -تعالى- عن المُرجفين في المدينة ونحوهم: (لئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب:60-61]. واللَّعن لا يكون إلاَّ على الذنب الكبير.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات، واعلموا أن تقوى الله خير زاد للعباد، يوم التناد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
عباد الله: لقد ابتُليتْ أمةُ الإسلام على مرِّ العصور والأزمنة منذ الصدر الأول، عهد النبوة، إلى وقتنا الحاضر، بصنف من البشر قلوبُهم مريضة، وأفعالُهم حقيرة، وأقوالُهم خطيرة، وألسنتُهم سليطة، وأخبارُهم موهنة، ابتلى اللهُ -جل وعلا- أمةَ الإسلام بهم، وجعلهم اختباراً وامتحاناً للمؤمنين، قلوبُهم سوداءُ على أهل الإسلام، يحبون الشر ويروِّجون له؛ وهم عالةٌ على الأمة، ومعولُ هدمٍ فيها، وسكاكين طعن في جوفها، ليس لهم هدف في الحياة إلا الانشغال بما فيه إهانةٌ وضعفٌ للإسلام وأهله، يتخذون الإرجاف حرباً نفسية على المسلمين، وعن طريقه يزرعون الإشاعات، ويبثون وينشرون الأخبار المثبطة والمحبطة؛ بغرض إحداث الاضطراب، وزعزعة الثقة والأمن والإيمان في نفوس المؤمنين.
والإرجاف أشد من الإشاعة؛ لأن الإشاعة عامة في نقل جميع الأخبار حسنها وسيئها؛ وأما الإرجاف فهو خاص بنقل الأخبار السيئة فقط، وهو حرام؛ لأنَّ فيه أذية للمسلمين، قال الله -تعالى- عن المُرجفين في المدينة ونحوهم: (لئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب:60-61]. واللَّعن لا يكون إلاَّ على الذنب الكبير.
قال الطبري -رحمه الله-: "والمرجفون في المدينة قومٌ كانوا يُخبرون المؤمنين بما يسُوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّهم قد قُتلوا أو هُزموا، وإنَّ العدوَّ قد أتاكم، قاله قتادة وغيره، وقيل: كانوا يقولون: أصحابُ الصُّفَّة قوم عُزَّاب؛ فهم الذين يتعرَّضون للنِّساء، وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة؛ حُبًّا للفتنة، وقد كان في أصحابِ الإفك قومٌ مسلمون، ولكنَّهم خاضوا حبًّا للفتنة، وقال ابن عباس: الإرجاف: التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعةُ الكذب والباطل للاغتمام به".
عباد الله: ومن صور الإرجاف وأشكاله ما يلي: أولا: الأخبار الكاذبة التي يفتريها أعداء الإسلام ومروِّجو الإشاعات والأكاذيب، على الإسلام وأهله. ثانياً: الأخبار المشكِّكة، وهي التي عناوينها صحيحة، ومضامينها كاذبة. ثالثاً: الأخبار السيئة: وهي التي يجب أن تستر، فيفشيها ويضخمها أعداء الدين ومشعلو نار الفتنة، ومنها أخبار الفتن والشر.
ومن أسلحة الإرجاف وأدواته: أولا: مصدر الإرجاف: وهم أعداء الإسلام من الداخل والخارج، وكذلك المنافقون، والمخذِّلون، والمثبِّطون. ناقل الإرجاف: وهم الدهماء الذين يتَّبعون كلَّ ناعق، وهم مروجو الإشاعات، ومثيرو الفتن والاضطرابات. متلقي الإرجاف: وهم العوام والجماهير.
ومن أسباب الإرجاف ودواعيه:
أولا: إظهار ضعف المسلمين، وتوهين قواهم؛ وفي المقابل تعزيز العدو وتمكينه، وهو ما يسمى: بـ "الإرهاب الفكري" ، أو "الحرب النفسية".
ثانياً: حبّ نقل الأخبار دون أن يكون هناك قصدٌ سيئ، ودون علم بنتيجة ما يقال أو ينقل.
ثالثا: بثُّ الفتن والاضطرابات والإشاعات بين الناس.
رابعا: الحرب النفسية والهزيمة النفسية.
خامسا: التخذيل والتثبيط للهمم.
سادسا: نقل الأخبار بلا روية وتثبت.
سابعا: دعوة إلى الخمول واليأس، وفقدان الثقة.
ثامنا: إسقاط الرموز.
تاسعا: الصد عن سبيل الله.
عاشرا: خذلان الجيوش.
حادي عشر: كثرة المعارضين.
ثاني عشر: ضعف الإيمان.
ثالث عشر: الخيانة العظمى للدين والوطن.
رابع عشر: الجهل؛ كظن بعض الناس أن ما ينشره من أكاذيب وأقاويل هي حقائق مُسَلَّمة لا تقبل الجدل، وهي في الحقيقة أكاذيب مُلَفَّقة.
عباد الله: ومن نماذج الإرجاف وصوره في الماضي:
أولا: ما أشاعه المشركون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة من أنه كاهن، وشاعر، وساحر، وأنه مجنون، وأنه كذاب، حتى إن بعض القادمين للحج وضعوا القطن في آذانهم لئلا يسمعوا صوته!.
ثانيا: لما أشيع أن أهل مكة أسلموا، وكان المهاجرون وقتها في الحبشة، تركوا الحبشة ورجعوا، ظنًّا أن مكة صارت دار إسلام، ولما اقتربوا من مكة وعرفوا كذب هذا الخبر، أصيبوا بالهم والغم، ولم يدخلوا مكة إلا في جوار أحد من رؤوس المشركين، أو مستخفين، وكان ذلك سبباً لتعرضهم لمزيد من الابتلاءات والتعذيب من قريش.
ثالثا: حينما أشيع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قُتل في أحد، فتَّ ذلك في عضدِ كثيرٍ من المسلمين حتى ولوا الأدبار وألقوا السلاح، ورجع بعضهم إلى المدينة.
خامسا: لما أشاع المنافقون أن عائشة -رضي الله عنها- وقعت في الفاحشة، أثر ذلك في النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي بيت النبوة، وفي الصحابة، وسائر المسلمين.
سادسا: كانت الإشاعات هي مطية عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه من المتسرعين والغوغاء فثاروا على عثمان -رضي الله عنه-، وكان ذلك سبباً في مقتله.
عباد الله: ومن صور الإرجاف في وقتنا الحاضر:
أولا: الإرجاف من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق نشر القصص الفاسدة والباطلة، وتهويلها وتضخيمها، سواء كانت صحيحة أم غير صحيحة، وكذا الطعن في العلماء والمصلحين.
ثانيا: الإرجاف في الصحف: كنشر الأخبار الكاذبة، وتضخيمها وتهويلها؛ لنشر فكرة فاسدة للناس عن المجتمع وما يجري فيه.
وكذا نشر الأخبار السيئة التي تكون صحيحة، مثل نشر بعض الحوادث التي تحصل في المجتمع؛ مما يوحى للناس بفساد المجتمع، وأنه لا أمل في الإصلاح، وهذه الأخبار يجب أن تُستَر ولا تُذكَر.
وأيضاً نشر سير وقصص أهل الباطل والمجرمين وتلميعها، ومحاربة أهل الصلاح والإصلاح، وتشويه صورتهم، بافتراء الأكاذيب عليهم.
ثالثا: إرجاف المنافقين: وهم الذين يقومون بتخذيل الأمة وتثبيطها عن مواجهة عدوِّها، وبثّ الفرقة والشقاق، والوقيعة والدسائس، واليأس من تحقيق النصر.
فمحاربة هؤلاء أشدُّ من حرب الأعداء أنفسهم، وسورة الأحزاب تحكي خطورةَ الإرجاف وأهله على الأمَّة إن لم تأخذ حذرها، وتتمسك بإيمانها ودينها وكتابها وسنة نبيِّها -صلى الله عليه وسلم-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) [الأحزاب:18-19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على فضلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجِه إلى يومِ الدِّين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أن الجنَّةَ سلعتُها غاليةٌ وتحتاجُ منَّا إلى نيةٍ طيبةٍ وعملٍ صالحٍ.
عباد الله: إن واجب المسلم تجاه هذا المرض الخطير -ألا وهو الإرجاف- عظيم وكبير؛ لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة على الفرد والمجتمع والأمة.
ومن ذلك الواجب ما يلي:
أولا: التثبت والتروي عند سماع الأخبار: فالتثبُّت من الخبر وتمحيصه قبل نقله وإشاعته بين المسلمين منهج قرآني، قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]. فلا بد أن يتربى المسلم على هذا المنهج الرباني، ويكون له فيها نصيب كبير من الاهتمام بالتثبت، والتوثق، وعدم الإذاعة ونشر الإشاعات؛ لما فيه من المفاسد، كاتهام بريء، أو الخوض في عرض رجل أو امرأة، أو رمي الناس بالظنون الفاسدة، أو إلقاء المثبطات والوهن بين أفراد الجيش الذي يحمي الدولة.
ثانيا: عدم تصديق أي نبأ مزعج إلا بعد التثبت من صدقه؛ فكم من أخبار وروايات نقلت في المجالس، وسار بها الركبان، وليس لها في أرض الواقع حقيقة.
ثالثا: تقوية جانب الرجاء بالله -جل وعلا-، وتفويض الأمر إليه، والاعتماد عليه؛ حتى تخف وطأة هذه الأراجيف في قلوبنا؛ فإذا سمع واحد منا حدثاً مقلقاً، فليقل كما قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لقومه حين ألقوه في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل! فهي بلسم نافع، وعلاج ناجع، لمثل تلك الأراجيف والأقاويل.
رابعا: تقوية القلب وتعويده على استقبال أي نبأ غير سارٍ بنفسٍ ملؤها الهدوء والثقة والاطمئنان بأن ما يحدث إنما هو بقدر الله وقضائه.
ينبغي أن يعلم السامع لهذه الأراجيف أن الشر لا يكال بمكيال، ولا يوزن بميزان، ليس له أرض دون أرض؛ فما يقع اليوم قد وقع مثله بالأمس، وسيقع مثله غدًا؛ لأن الحق والباطل يتصارعان إلى أن تقوم الساعة، فلا يكن سماع هذا الحدث وهذا الإرجاف مكبلاً للإنسان عن عمل الخير، والوقوف أمام هذه التيارات بضعف وخواء؛ فالجبال لا تهزها الرياح.
سادسا: الثقة بالله -جل وعلا-، وفي موعوده بنصر المؤمنين؛ قال -جل وعلا-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51].
وسأبين في الخطبة القادمة -إن شاء الله تعالى- الآثار المترتبة على الإرجاف وخطورته على الفرد والمجتمع والأمة، وطرق الحماية منه.
أسأل الله -جل وعلا- أن يحمي بلادنا من الإرجاف والمرجفين، وأن يعصمنا وإياكم من الزلل والخطأ وما يودي إلى سخطه وأليم عقابه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي