وإنني -في مقامي هذا- أحمد الله -جل وعلا- أن أغاثنا وأفاض علينا من جزيل عطائه، بإنزاله هذا الغيث المبارك، فأجرى لنا الأودية ومجاري السيول، وعمّ بخيره الأرض، وانتفع به العباد، واخضرّت الأرض، وأثمرت الأشجار، وفرحت الطيور والبهائم بنسيم قطرات هذا الغيث، فلله الحمد والمنة على نعمه وفضله.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات، واعلموا أن تقوى الله خير زاد ليوم المعاد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن من النعم العظيمة التي يمتنّ الله -جل وعلا- بها على عباده نعمةَ الماء، وحيث ما وجد الماءُ وجدت الحياة، قال -جل وعلا-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30].
وهذا الماءُ هو أصلُ النَماء، وعُنصرٌ من عناصر الحياة، وسببٌ من أسباب البقاء، للبشرية جمعاء، وصدق الله العظيم: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) [الفرقان:48-50].
ولا يتحكم في إنزاله إلا الله -جل وعلا-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [النجم:68-70].
وكلنا يعلم أن الحياةَ على وجه هذه الأرض للإنسان والحيوان والنبات قوامها هذا الماء، وهو الذي يحمل في داخله كلَّ مكونات الحياة للإنسان.
عباد الله: إن تصريفَ السحاب وتجميعهَ واحتكاكَه ببعض، وصدور الرعد والبرق منه، وإنزالَ المطر إلى الأرض بمقاديرَ متفاوتةٍ من مكانٍ لآخر، وإعطاءَ الله -جل وعلا- لأناسٍ وحرمانَ آخرين، آيةٌ من آياتهِ العظيمة، ودليلٌ باهرٌ، وبرهانٌ ظاهرٌ، على توحيدِ الله، وعظيمِ قُدرتهِ -جل وعلا-.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن نزول المطر: "فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطراتٍ منفصلةً، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرةُ صاحبتَها فتمتزجُ بها، بل تنزلُ كلُّ واحدةٍ في الطريق الذي رُسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيبَ الأرض قطرةً قطرةً، قد عُينِّت كلُ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرضِ لا تتعداهُ إلى غيره، فلو اجتمع الخلقُ كلهُّم على أن يخلقوا قطرةً واحدةً أو يُحصوا عددَ القطر في لحظةٍ واحدةٍ لعجزوا عنه".
ثم قال -رحمه الله-: "فتأمل كيف يسوقه -سبحانه- رزقًا للعباد والدواب والطير والذَّر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش". انتهى كلامه.
فسبحان من خلق فسوى وقدر فهدى! وصدق الله العظيم: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) [الفرقان:50].
عباد الله: إن نُزولَ المطر يزيدُ المؤمن يقيناً بأن الله -جل وعلا- هو الذي يحي بهذا المطر الأرضَ بعد يبسها وجفافها، وأنه -سبحانه- قادرٌ على بعث العباد بعد الممات، قال -جل وعلا-: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الروم:50]، وقال الله -جل وعلا-: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق:9]، وقال -سبحانه-: (وَللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل:65]، وقال -سبحانه-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن إنزالَ الغيثِ نعمةٌ من أعظم النعم وأجلها، امتن بها -جل وعلا- على عباده، وأشاد بها في كتابه، وصدق الله العظيم: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:57].
وإنني -في مقامي هذا- أحمد الله -جل وعلا- أن أغاثنا وأفاض علينا من جزيل عطائه، بإنزاله هذا الغيث المبارك، فأجرى لنا الأودية ومجاري السيول، وعمّ بخيره الأرض، وانتفع به العباد، واخضرّت الأرض، وأثمرت الأشجار، وفرحت الطيور والبهائم بنسيم قطرات هذا الغيث، فلله الحمد والمنة على نعمه وفضله.
عباد الله: ومما يُسنُّ الإتيان به عند نزول المطر وبعده ما ورد عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-, ومن ذلك: أنه كان يقول -عليه الصلاة والسلام- إذا رأى الغيث: "اللهم صيبًا نافعًا" رواه البخاري، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول عند نزول المطر: "مطرنا بفضل الله ورحمته" رواه البخاري.
وإذا نزل المطر وخشي منه الضرر كان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" رواه الشيخان.
ومما يستحب فعله عند نزول المطر: استغلال وقت نزوله بالدعاء، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثنتان لا يرد فيهما الدعاء: عند النداء، وعند نزول المطر" رواه الحاكم وحسنه الألباني.
وكذلك يستحب كشف بعض البدن حتى يصيبَه المطر، لما ثبت عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض بدنه ليصيبه المطر، وقال: "إنه حديث عهد بربه" رواه مسلم، أي حديث عهد بخَلق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) [النور:43-44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أن فرحتنا بنزول الغيث ينبغي أن تضبط بموازين الشرع، وأن نستغلَّها فيما يرضي ربّنا -جل وعلا-، وواقع الحال أن بعض الناس يغفلون عن ذلك فيعرضون أنفسهم ومن معهم للمخاطر والهلكة.
فعلى الرغم من التحذيرات الشديدة للدفاع المدني بالابتعاد عن أماكن السيول والأودية وتجمعات المطر حفاظاً على سلامة الأشخاص وسلامة من معهم من الأسر من الغرق أو الانجراف الخطير في مجاري السيول، إلا أن بعض الشباب -هداهم الله- يعمدون إلى المغامرة باقتحام تلك الأودية ومجاري السيول بالسباحة أو بالسيارات غير عابئين بتوجيهات الدفاع المدني فيترتب على ذلك غرق بعضهم، والإضرار بما معهم من مركبات وسيارات وأغراض.
ونصيحتي للجميع، وخاصة الشباب، ألا يعرضوا أنفسهم ومن معهم للغرق أو التلف بالجلوس في بطون الأودية أثناء هطول الأمطار، أو إقامة مخيماتهم فيها، أو النوم بداخلها، أو الدخول بسياراتهم فيها أثناء التنزه بالأماكن الممتلئة بالسيول أو المستنقعات، وكذا التفحيط بالسيارات وصعود المرتفعات والسباق الذي لا تحمد عقباه، وكم من شباب راحوا ضحية لهذا التهور الذي فيه إلقاء للنفس بالتهلكة، وإسراف فيما تحت يده من المركوبات!.
وكذلك على أولياء الأمور الاهتمام بمراقبة النساء والأطفال وتحذيرهم من مغبة الاقتراب من أماكن تجمع السيول ومجاريها، وعدم تركهم يلعبون حولها بالسباحة فيها حتى لا يترتب على ذلك ضرر عليهم.
كما أدعو الجميع بأخذ الحيطة والحذر عند نزول الأمطار وتراكم السيول وأماكن ظهور الرعد والبرق، مع اتباع الإرشادات التي تقي -بعد الله جل وعلا- وتحقق الأمن والسلامة للجميع.
وأوصي من يريد الخروج للتنزه في البرِّ بما يأتي: التأذين لكل صلاة، وإقامتها في وقتها. عدم تتبع أماكن مجاري السيول لئلا يحصل الضرر -لا قدر الله-. أوصي النساء بعدم التبرج والسفور وكشف الوجه أمام السيارات المارَّة والمتنزهين. أوصي الشباب بترك العبثِ بالسياراتِ وإيذاءِ الآخرين وعدمِ تشغيلِ الموسيقى أو الأغاني المحرمة فهذا ينافي شكر هذه النعمة التي نتقلب فيها. على كل ولي أمر أن يشرك والديه وأهله الاستمتاع بمشاهدة الأجواء الجميلة بعد نزول المطر، وأن لا يقتصر في ذلك على أصدقائه فقط.
أسأل الله أن يبارك لنا فيما أنزل علينا من نعمة الغيث، وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يقر أعيننا بصلاح ذرياتنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي