فضل الصيام في شهر شعبان

جابر السيد الحناوي

عناصر الخطبة

  1. هدي النبي عليه السلام في شعبان
  2. حكمة إكثاره -عليه الصلاة والسلام- من صوم شعبان
  3. صوم سُرَر شعبان

نحمد الله –تبارك وتعالى- على أن مد في أعمارنا وأنعم علينا حتى أظلنا شهر شعبان، ذلك الشهر الكريم الذي أحاطه الله -عز وجل- بشهرين عظيمين هما شهر رجب الحرام، وشهر رمضان المبارك، وقد قيل: إن شعبان سمي بهذا الاسم لأنهم كانوا يتشعبون في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، أو لتشعبهم في طلب الماء، والأول أولى وأرجح.

وشهر شعبان من الأشهر القليلة التي يهتم بها المسلمون الآن، أما سلفنا الصالح فكانوا يهتمون به، بصومه وقراءة القرآن وغير ذلك من أعمال رمضان، اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وباعتباره مدخلاً لشهر رمضان، ثم درج الخلف على الاهتمام فيه ببدع ما أنزل الله بها من سلطان، خاصة في ليلة النصف من شعبان، فينبغي للمسلم –شكرًا لنعمة الله عليه- اغتنام تلك الأيام الفاضلة والأوقات الشريفة، بالأعمال الصالحة، وأن يضع في ميزان أعماله اليوم، ما يسره أن يراه فيه غدًا: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ [آل عمران: 30].

فما هو هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر؟!

عَنْ أُمُّنَا عائشة -رضي الله عنها- قالت: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي شَـهْرٍ أَكْثَرَ صـِيَامًا مِنْهُ فِي شـَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُهُ إِلا قَلِيلاً، بَلْ كَانَ يَصُـومُهُ كُلَّهُ. والمعنى أنه -صلي الله عليه وسلم- كان يكثر من الصوم تطوعًا فى شعبان وغيِِرِه, وكان صيامه في شعبان أكثر من أي شهر في العام خلاف رمضان طبعًا، بل إنه في بعض السنوات كان يصوم شعبان كله، فقد أخرج الإمام أحمد -رضي الله عنه- فى مسنده عن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا يُعْلَمُ إِلا شَعْبَانَ يَصِلُ بِهِ رَمَضَان.

وأخرج أيضًا الإمام مسلم عن أبى سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- فِي الشَّهْرِ مِن السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ يَقُولُ: "خُذُوا مِنْ الأعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا". وَكَانَ يَقُولُ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ".

وحديث أبي سلمة هذا يبين أن المراد في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا -غير رمضان- إلا شعبان، كان يصومه كلَّه، يصله برمضان في بعض السنوات، وفى بعضها الآخر يصومه إلا قليلاً، وذلك رحمة بأمته، حتى لا يظنوا أن صيام شعبان فرض عليهم، ولذلك ختم -صلي الله عليه وسلم- الحديث بقوله: "خُذُوا مِنْ الأعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا"، وَكَانَ يَقُولُ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلّ".

ففي الحديث إشارة إلى أن صيامه -صلى الله عليه وسلم- لا ينبغي أن يتأسى به فيه إلا من أطاق ما كان يُطيق, وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خُشي عليه أن يمل فيفضي إلى تركه, والمداومة على العبادة -وإن قلت- أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت, فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع.

"فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا": والإملال هو استثقال النفس من الشيء ونفورها عنه بعد محبته، وقيل: إن معناه: أن الله لا يمل أبدًا وإن مللتم، ولو مللتم، وقيل: معناه: أن الله لا يمل من الثواب ما لم تملوا من العمل، أي لا يقطع الإقبال عليكم بالإحسان حَتَّى تَمَلُّوا في عبادته.

فـ"خُذُوا مِنْ الأعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا"، والمعنى -والله أعلم-: اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم, فإن الله تعالى لا يعرض عنكم إعراض الملول، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا؛ فإنكم إذا مللتم من العبادة وأتيتم بها على فتور كانت معاملة الله معكم حينئذ معاملة الملول.

وقيل: المراد بقولها: كَانَ يَصُـومُهُ كُلَّهُ. أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره تارة أخرى، ومن أثنائه طورًا، فلا يخلي شيئًا منه من صيام، ولا يخص بعضه بصيام دون بعض, وأصحاب هذا الرأي يؤيدونه برواية عبد الله بن شقيق عن عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم ولفظه: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ.

وقد اختُلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صوم شعبان، وقد ورد على لسان أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".

ففي هذا الحديث بَيّنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكمة من إكثاره من الصيام في شعبان، فذكر لذلك أمرين:

الأمر الأول: أن شعبان شهر يغفل الناس عن فضله؛ لأنه يقع بين رجب -وهو شهر حرام يعرفه كل الناس- وبين رمضان -وفضله يعرفه الخاص والعام-، ومن هنا جاءت غفلة الناس عن فضل شعبان، فيُقَصِّرُون في العبادة فيه، رغم أنه عند الله عظيم؛ فالرسول -صلي الله عليه وسلم- يصومه ليعبد الله في زمن يغفل الناس عن العبادة فيه.

ومعلوم أن العبادة في وقت غفلة الناس يحبها الله تعالى ويثيب عليها أكثر من غيرها؛ ولهذا كان ذكر الله تعالى في الأسواق وقت اللغط والبيع والشراء له أجر عظيم، وكانت الصلاة في جوف الليل حين ينام الناس أفضل الصلوات بعد الفرائض، وكذلك كان الصبر في الجهاد حين انهزام الأصحاب له أجر عظيم، ومنه الصدقة مع قلة الزاد، ومن هذا الباب كذلك أن للمتمسك بدينه في زمان الصبر أجر خمسين من الصحابة ومثل هذا كثير.

الأمر الثاني: أن شهر شعبان ترفع فيه أعمال العباد -طول السنة- إلى الله، "فأحب أن ترفع إليه أعمالي وأنا صائم". قيل: ما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله -عز وجل- يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، قال السندي في شرحه لسنن النسائي: يحتمل أمرين:

أحدهما: أن أعمال العباد تعرض على الله تعالى كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان، فتعرض عرضًا بعد عرض، ولكل عرض حكمة يُطْلع الله -سبحانه وتعالى- عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.

ثانيهما: أن المراد أنها تعرض في اليوم تفصيلاً ثم في الجمعة جملة أو بالعكس.

فكان النبي -صلي الله عليه وسلم- يكـثر من الصيام فيه لتكون أعماله حين ترفع محلاً للعفو والمغفرة، فالصـوم لا مثل له، وهو جُـنَّة ووقاية من عذاب الله، وقد أجزل الله ثواب الصائمين، وجعل لهم فرحة عند لقائه -عز وجل-.

الأمر الثالث: وأورد أهل العلم فائدة ثالثة في الصيام في شعبان، وهي توطين النفس وتهيئتها للصيام؛ لتكون مستعدة لصيام رمضان، سهلاً عليها أداؤه، فهو كالتمرين على الصيام -التسخين قبل المباريات الرياضية- حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة.

وفائدة أخرى رابعة في الصيام في شعبان وهي أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض, وليس فى رمضان مجال لصوم التطوع، فكان يكثر من الصوم في شعبان تعويضًا عما يفوته من التطوع في أيام رمضان.

الأمر الخامسة: قيل: الحكمة هي أن صوم شعبان بالنسـبة لرمضان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة، ويكون كأنه تقدمة لشهر رمضان، أي كأنه سُـنَّة قبلية لشهر رمضان، ولذلك سن الصيام في شهر شعبان، وسن الصيام ستة أيام بعد رمضان من شهر شوال كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها.

وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ: "هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا؟!". يَعْنِي شَعْبَانَ، قَالَ: لا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ". وجمهور العلماء من أهل اللغة والحديث والغريب أن المراد بالسرر آخر الشهر, سميت بذلك لاسترار واختفاء القمر فيها.

وأيًا ما كان الخلاف فالحديث يدل على حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يكون للمسلم صيام في شهر شعبان، لدرجة أنه أمر الرجل الذي لم يصم من سـرر شعبان، أن يصوم يومين بعد الانتهاء من صوم رمضان، بدلاً من سرر شعبان التي لم يصمها.

فينبغي للمسلم أن يبادر باغتنام الأيام الفاضلة، وخاصة في هذا الزمان الذي نعيشه -زمان الفتن والعياذ بالله- حيث انقلبت الموازين، وتبدلت المعايير، وغير ذلك كثير مما لا يخفى على أحد، إنه زمان الفتن التي حذرنا منها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".

فمن جماع ما سبق دليل على فضل الصوم في شعبان؛ ولهذا كان يكثر -صلى الله عليه وسلم- من الصيام فيه، ولا شك أن الغرض من ذلك أن تقتدي به أمته -صلى الله عليه وسلم-، وها نحن قد جاءتنا الفرصة الكبيرة والمنحة الجليلة، وأنعم الله علينا بمجيء شهر شعبان الذي اهتم به سلفنا الصالح اهتمامًا عظيمًا؛ إذ هو كالمقدمة لشهر رمضان المبارك؛ ولذلك كانوا يقضونه كله في أعمال رمضان كالصيام وقراءة القرآن وغيرها من العبادات؛ ليحصل التأهب والاستعداد لتلقِّي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.  


تم تحميل المحتوى من موقع