هؤلاء السبعة هم بشر فيهم صفات البشر ونوازعهم، لكنّهم انتصروا على دواعي الهوى ونَهُوا النّفس عن هواها وآثروا رضوان الله فاستحقّوا ما أكرمهم الله به من الظلّ بإيمان إخلاصهم وصبرهم ومشقّتهم.. ولابدّ أن نعلم أنّ هذه الخصال السبعة ليست موقفا واحدا في الحياة وانتهى، بل هي حالٌ دائمٌ مستمرٌّ عند صاحب كلّ شخصية طيلة حياته.. ولابدّ أن نعلم أيضًا أنْ يُمكن أن تتوفّر أكثر من خصلة في كلّ منّا حتّى يمكن أن يكون الشخص الواحد: هؤلاء السبعة معا.. وقد كان هذا حال كثير من المؤمنين.. ولنبدأ بأهمّ وأصعب وأخطر شخصيّة على الإطلاق:
الحمد لله..
عباد الله: هؤلاء السبعة هم بشر فيهم صفات البشر ونوازعهم، لكنّهم انتصروا على دواعي الهوى ونَهُوا النّفس عن هواها وآثروا رضوان الله فاستحقّوا ما أكرمهم الله به من الظلّ بإيمان إخلاصهم وصبرهم ومشقّتهم.. ولابدّ أن نعلم أنّ هذه الخصال السبعة ليست موقفا واحدا في الحياة وانتهى، بل هي حالٌ دائمٌ مستمرٌّ عند صاحب كلّ شخصية طيلة حياته.. ولابدّ أن نعلم أيضًا أنْ يُمكن أن تتوفّر أكثر من خصلة في كلّ منّا حتّى يمكن أن يكون الشخص الواحد: هؤلاء السبعة معا.. وقد كان هذا حال كثير من المؤمنين..
ولنبدأ بأهمّ وأصعب وأخطر شخصيّة على الإطلاق:
الشخصية الأولى التي ورد ذكرها في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلُّهُ"، وهي شخصية الإمام العادل.. وأودّ أن أوضّح كي لا تذهب أذهاننا وعقولنا أنّ المقصود بالإمام هنا: هو الحاكم بمعنى رئيس الدّولة أو إمام المسجد مثلا.. كان لا بدّ أن نذكر أنّ مفهوم الإمامة يتّسع ليشمل كلُّ من وُلِّيَ شيئا من أمور المسلمين، واتّبع أمر الله فيه، وعدل فيه بوضع كلّ شيء في موضعه من غير تقصير..
وهذا حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يؤكّد لنا ذلك الواقع، واقع إمامة كلّ إنسان في هذه الحياة "كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عن رعيّته"، الحاكم، القاضي، الأب، الأمّ، المعلّم، صاحب العمل، الطبيب، التاجر، المحامي، وغيرهم كثير، كلّهم أئمّة.. وعلى هذا المعنى، فكُلُّ منّا إمام بحسب ما أولاه الله تعالى من مسؤوليات في هذه الحياة.. فكان لا بدّ أن نعدل فيما أولانا الله سبحانه..
ولِعُلُوُّ منزلة العدل وأهميته، جعله الله أمرا منزلا إلى عباده، يقول تعالى: "إنّ الله يأمر بالعدل"، أمرنا به سبحانه كما أمرنا بالصلاة والصيام والحجّ والزكاة، وقال تبارك وتعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، والعدل لرفعته، أُنْزِل مع الكتب السماوية، يقول الحقّ سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد: 25]، أي: لنعيش بالعدل مع أنفسنا ومع من حولنا، ونعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ..
فقد بيَّن لنا تعالى في القرآن الكريم حقوق العباد، والله عزّ وجلّ إذ وضع لنا هذا الميزان الدقيق الذي يعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ، ذلك لتتفرّغ نفوسنا للمهمّة الأساسية التي خُلقنا من أجلها، ألا وهي: عبادة الله تعالى وطاعته فيما أمر به وما نهى عنه، تمهيدا لسعادتنا الحقّ في الدّنيا وفوزنا في الآخرة..
فلو أنّك قصّرت في الحقوق والواجبات وظلمت، تدخل في مشاكل كثيرة ومتاهات تُشغلك وتبعدك عن الله، وهذا ما وقع مع الأسف في هذا العصر، انتشر الظلم وأَكْل الحقوق وسياسة الكيل بالمكيالين، حتّى صرنا نرى في حياتنا قصّة القاضي والثّور في كثير من المعاملات الخاصّة والعامّة، بل وعلى الصعيد الدولي..
إنّه ذاك القاضي الكبير المهمّ الذي دخل عليه يوما في مكتبه قوم كثّر.. فنظر وقال: ما أدخلكم وماذا تريدون؟ فقال كاتبه الخاص: هؤلاء جاءوك يعتذرون فقد تهجّم ثورهم على أراضيك ودمّر كلّ المحاصيل، فغضب القاضي غضبًا شديدًا وقال: هذه جناية عظمى عليها الحكم التّالي، والعقوبة الفلانيّة، وراح يزيد ويستفيض، ثيران تدخل وتدمّر محصول الأراضي، هذا إجرام واعتداء سافر.. فجأة هنا قال أحد هؤلاء الناس: معذرة يا صاحب السعادة، لقد أساء كاتبكم الفهم، بل إنّ ثيرانكم من دخلت أراضينا ودمّرت المحاصيل!
هنا صَمَتَ القاضي قليلاً ثم قال: إليّ بكُتُبِ القانون والنظام الدّولي كي ندرس الملابسات والأسباب ونسأل الإداريين والجهات الأمنية والمختصّين، فلعلّنا نجد تفسيرًا ديمقراطيًّا لما فعله ثورنا..
إنّها سياسة الكيل بالمكيالين مع الأسف، نلمسها في هذا الزمان في حالات فردية بل ودولية، وهي ممّا أوقع فوضى في هذا العالم.. نعم فالعدل هو ميزان الله تعالى الذي وضعه للخلق ونصّبه للحقّ، فهو إحدى قواعد الدّنيا التي لا انتظام لها إلاّ به، ولا صلاح فيها إلاّ معه.. والعدل يدعو إلى الألفة ويَبْعَثُ على الطّاعة.. به تعمر البلاد وتنمو الأموال، ومعه يكبر النّسل..
وقد قال أحد السّلف: إنّه العدل واجب على كلّ أحد في كلّ حال، والظّلم محرّم لا يباح بحال.. وأوّل وأهمّ العدل المطالب به كلّ إنسان: حقّ الله، توحيد الله سبحانه، فهو أعدل العدل، ومن أظلم الظّلم: الشرك بالله، أليس يقول تعالى على لسان لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
ولله المثل الأعلى، تخيّل نفسك تسبّ إنسانا وتصفه بصفات ليست فيه أبدا، بل هو منزّه عنها تماما، وهذه الصفات تسيء إليه، ألا تكن بها قد ارتكبت ظلما عظيما ؟!! ولله المثل الأعلى، من يشرك بالله فيقول هناك أكثر من إله أو أنّ له ولد أو يصفه وصف فيه إشراك به، فقد ارتكب ظلمًا عظيمًا، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، أي: إن لم تحكموا بالعدل بين الناس، فالله يسمع صوت المظلومين فهو السميع وإن سكتوا، يرى أحوالهم فهو البصير سبحانه..
واليوم كم من مظاهر الظلم انتشرت وعمّت؟ كمسألة الطلاق مثلاً، الذي صار على لسان بعض الرجال أسهل من شربة الماء لأتفه الأسباب.. الحمد لله أنّ مجتمعنا تمكّن من معالجة هذه الظاهرة بحكمة ومرونة وتبصّر معتمدا في ذلك على ما جاء في ظاهر الكتاب والسنّة..
لكن نرى ونسمع في بعض المجتمعات العربية، من طلّق نسائه الأربع في دقائق من أجل طبخة لم تعجبه.. وإن ذكرت هذا فذلك لأقدّم الدّليل إلى أي درجة وصل الخلق في تجاوزهم وظلمهم..
واعلموا أيها المسلمون أن حفظ الأمانة ورعايتها، حمل ثقيل لا يقدر عليه إلاّ من تلقّى الأمر، فوعيه وسارع في التطبيق.. والحقّ تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، أمر من الله أن نعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ، الأب، الأمّ، الجيران، الأولاد، إخوانك وأخواتك المسلمين والمسلمات..
والله إذ يأمر بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ، يأمر بعدم إنقاص الناس حقوقهم، فأحيانا قد يجنح الإنسان إلى حقٍّ على حساب حقٍّ، يؤدّي مثلا حقّ أمّه على حساب حقّ زوجته، أو يؤدّي حقّ زوجته على حساب حقّ أمّه، أو يؤدّي حقّ نفسه وراحتها على حساب حقّ جيرانه وراحتهم، أو يؤدّي حق عمله على حساب حقّ أولاده..
أمّا الإمام العادل فيعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ دون زيادة أو نقصان.. فهو يوازي بين الحقوق فلا يعطي حقّ أحد على حساب حقّ غيره.. يقول تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، قال أحد المفسّرين: فأمّا الحكم بالعدل بين النّاس فالنصّ يطلبه هكذا عدلا شاملا بين الناس جميعا، لا عدلا بين المسلمين بعضهم مع بعض وحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنّما هو حقّ لكلّ إنسان بوصفه إنسانا..
وقد قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]، ويقول تبارك سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء: 135].
وهناك فرق كبير بين قائمين بالقسط، وقوّامين بالقسط.. نقول: فلان قائم بعمله، قائم بمهمّته، قائم بوظيفته، قائم بأداء الحقوق.. لكن الحقّ تقدّس اسمه، أراد منّا أن نكون قوّامين بالقسط على أكمل وجه، وليس قائمين فحسب، بل قوّامين أي: أن نتقصّى ونراعي أدقّ حيثيات العدل وتفاصيله، أن نكون متحمّسين للحقّ والعدل إلى أقصى درجة..
أيّها الإخوة القرّاء، لا تدعوا الهوى يؤثّر في عدلكم وحزمكم: يقول عزّ من قائل: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26].
الإمام العادل لا يتّبع الهوى فيفضّل أهله وأصحابه وأتباعه عن البقيّة، أو يغمط حقّ من يكرهه، لذلك من استطاع أن يقاوم شهوة التحكّم من منطلق مركز النّفوذ والقرار، كما يمليها هوى النّفس، كان معنى ذلك أنّ فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقّ بأن يكون واحد من هؤلاء السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه..
اللهمّ إنّا نسألك أن تطيل في أعمارنا وتحفظنا من كلّ شرّ وترجعنا سالمين غانمين بإذنك، إنّك على كلّ شيء قدير..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي