وتعظم منزلة هذا الولي حتى إن الله -تعالى- يكره أذاه ومساءته؛ فالموت حق كتبه الله على البشر، والبشر يكرهون الموت لما فيه من الشدة والكرب؛ فيرحم الله أولياءه ويلطف بهم، ويشفق عليهم، ويحسن لهم الختام، وهذا معنى قوله في الحديث: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" فسبحان الله ما أعظم شأن أوليائه عنده!
الحمد لله، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُه وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الاهْتِداءَ بالوحي، والسير في ضَوْءِ النَّصِّ مسلك المُوَفَّقِين من عباد الله، الذينَ اطْمَأَنَّتْ قلوبُهم في الدنيا، ولسوف يفوزون في الآخرة، لا كمن جعلوا السلطان لعقولهم على وحي الله -تعالى-، فما لم تفهمه وتستوعبه عقولهم طرحوه وتركوه؛ بل وكذبوه، ولو كان في ثبوته مثل الشمس في رائعة النهار، فهم أهل الحيرة والشك والارتياب، ولا كأهل الوجْدِ والحِسِّ، الذين عبدوا أَهْواءَهُمْ وشياطِينَهُمْ، وأضلُّوا أتباعَهُمْ مِنَ العامَّةِ ودهماءِ النَّاس بخرافاتهم وأكاذيبهم وشعوذاتهم.
إنَّ أَهْلَ الإيمان والحق يسيرون على طريق واضِحَة، يتبعون المُحْكَم من كتاب الله -تعالى-، والصحيح من سُنَّةِ نَبِيِّه -صلى الله عليه وسلم-، ويؤمنون بالمتشابه منهما ويقولون: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران:7].
أيها الإخوة: وهذه وقفة مع نصٍّ من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أعذبُ الحديث وأبلُغه، وأجمعُه وأنفعه بعد كلام الله -تعالى-، نأخذ من هذا الحديث العِبْرةَ والمَوْعِظَةَ الحسنة، والطريق الصحيحة التي تأخذ بنا نحو التسديد والتوفيق، في الدنيا والآخرة ومن منا لايريد ذلك؟!
حديث قدسي عظيم مخرج في الصحيح (1) يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: "مَنْ عادى لي وليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحرب، وما تَقَرَّبَ إليّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، ومايزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصرَهُ الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعله تَرَدُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموْتُ وأنا أكره مساءَته"؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة عن هذا الحديث: "هو أَشْرَفُ حديثٍ رُوِيَ في صِفَة الأولياء"(2)
لقد بيَّن هذا الحديثُ منزلةَ أولياءِ الله عنده -تعالى-، وولي الله هو: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته(3). جمع بين الإيمان والتقوى، فجمع الله له البشرى في الدنيا والآخرة، وأذهب عنه الخوف والحزن: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [يونس:62-64].
وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنَّ أولياءَ الله هُمُ الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله -تعالى-.(4)
وما ذاك إلا لأنَّ ذِكْرَ اللهِ في قُلُوبِهِمْ وأَلْسِنَتِهِمْ، وأثره ظاهر على جوارحهم فهم يُذَكِّرون النَّاسَ رَبَّهُمْ؛ فمن رآهم ذكر الله -تعالى-.
ما أَعْظَمَ مَنْزِلَةَ أَوْلِياءِ اللهِ -تعالى- حينما يُنْذِرُ اللهُ -تعالى- مَنْ عادَاهُمْ بِالحَرْبِ!! عاداهم بسبب صلاحهم أو عبادتهم أو دعوتهم أو جهادهم، وما أكثر الذين يعادون أولياء الله ويظلمونهم، فويل لهم! كيف يقابلون الله وقد عادَوْا أولياءه؟!
قال ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ الله تعالى-: "فقد آذَنْتُهُ بالحرب: فقد أعلمته بأني مُحَارِب له حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي"، ولهذا جاء في حديث عائشة: "فقد استحل محاربتي"(5) وفي حديث أبي أمامة: "فقد بارزني بالمحاربة"(6) إلى أن قال: "واعلم أن جميع المعاصي محاربةٌ لله -عز وجل-، قال الحسن: "يابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنبُ أقبح كان أشد محاربة لله، ولهذا سمى الله -تعالى- أكلة الربا، وقطّاع الطريق محاربين لله -تعالى- ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده؛ وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه؛ فإنه -تعالى- يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه"ا. هـ.(7)
وقال الفاكهاني: "في هذا تَهْدِيدٌ شديد؛ لأنَّ من حاربه الله أهلكه، ومن كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله" ا.هـ(8)
"وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" نعم، ما تقرب المتقربون بشيء أحب عند الله من فرائضه التي فرضها، ولولا عظمةُ تلك الفرائض لما جعل العباد يتعبدونه بها، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ الله، وصدق النية عند الله -عز وجل-" ا. هـ (9)، وهذه الدرجة هي درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
أمَّا السابقون المقرَّبُون: فإنهم تقرَّبُوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بِالوَرَعِ؛ وذلك يوجب للعبد محبة الله؛ كما قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أُحِبَّه" فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته، والاشتغال بذكره وخدمته؛ فأوجب له ذلك القرب منه، والزُّلْفَى لديه، والحظوة عنده(10)
ومحبَّةُ اللهِ ومحبَّةُ ما يُحِبُّ الله من أعظم المقامات وأرفعها؛ لذلك علّم الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- سؤال ذلك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا بربي -تبارك وتعالى- في أحسن صورة-إلى أن قال-: يا محمد: قل اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من يحبك وحبّ عملٍ يقرب إلى حبك"؛ صححه البخاري والترمذي(11)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ارزقني حبّك وحبَّ من ينفعني حبُّهُ عندك، اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحبُّ فاجعله فراغًا لي فيما تحب"؛ أخرجه الترمذي وحسنه(12)
فمتى امتلأ القلب بعظمة الله -تعالى-، محا ذلك من القلب كلَّ ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به؛ فهذا هو المراد من قوله -تعالى- في الحديث: "فإذا أَحْبَبْتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".
ومن هذا المعنى قَوْلُ عَلِيّ -رضي الله عنه-: "إن كنا لنرى أنَّ شيطان عمر ليهابُه أن يأمره بالخطيئة"(13).
فيا لها من منزلة عظيمة حينما يسدّد الله العبد ويوفقه لطاعته حتى لا تعمل جوارحه إلا ما يرضي الله -تعالى-، وتباعدُ كلّ البعد عما لا يرضيه، هذه والله هي السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كان كذلك كان جديرًا أن يُعْطِيَهُ الله سؤله، ويعيذه إذا استعاذه، وينصره إذا استنصره، ويجيبه إذا دعاه، كيف وقد قال: "وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" فمع تسديد الله وتوفيقِه لهذا العبد الصالح يجعله مجاب الدعوة؛ لكرامته عليه - عز وجل-.
عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كم من ضعيف متضعِّف ذي طِمْرَيْنِ لو أقسم على الله لأَبَرَّهُ، منهم البراء ابن مالك"(14).
لاحظوا قوله في الحديث: "ضعيف متضعف"؛ أي يتضعفه الناس ويتجبرون عليه في الدنيا للفقر ورثاثة الحال، منهم البراء بن مالك، والبراء بن مالك المذكور في الحديث لقي زحفًا من المشركين فقال له المسلمون: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم؛ فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى فقالوا: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك -صلى الله عليه وسلم-، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء -رضي الله عنه-(15)
وعن ثَوْبان -رضي الله عنه- عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ من أمتي من لوجاء أحدكم يسأله دينارًا لم يعطه، ولو سأله درهمًا لم يعطه، ولو سأله فلسًا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ذو طِمْرَيْن، لا يُؤْبَهُ به، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ"(16)، وربما دعا المؤمن الولي المُجابُ الدعوة بما يعلمُ اللهُ الخِيَرة له في غيره، فلا يجيبه إلى سؤاله، ويعوضُه عنه ما هو خير له في الدنيا أو في الآخرة.
وفي حديث أنس المرفوع أن الله يقول: "إن من عبادي من يسألني بابًا من العبادة، فأكفه عنه؛ كيلا يدخله العُجْب"؛ أخرجه الطبراني وصححه العراقي(17).
وتعظم منزلة هذا الولي حتى إن الله -تعالى- يكره أذاه ومساءته؛ فالموت حق كتبه الله على البشر، والبشر يكرهون الموت لما فيه من الشدة والكرب؛ فيرحم الله أولياءه ويلطف بهم، ويشفق عليهم، ويحسن لهم الختام، وهذا معنى قوله في الحديث: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" فسبحان الله ما أعظم شأن أوليائه عنده!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [يونس:62-64].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره على نعمه التي لا تُعَدّ ولا تُحْصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، خلق فسَوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى -صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي النهى-، وأعلام التقى، والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: فإن ولاية الله -تعالى- لا تُنَال إلا بالتقوى، والمتقون هم أولياء الله -تعالى-: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ) [الجاثية:19]
أيها المؤمنون: يُظْهِر هذا الحديث الفرق العظيم بين الطاعة والمعصية؛ فالطاعة تقرب إلى الله -تعالى- حتى تجعل صاحبها من أوليائه الذين يتولاهم بعنايته ورعايته، ويحفظهم من شياطين الجن والإنس، ويعلن الحرب على من عاداهم من أهل المعاصي والفجور.
قال أبو الفضل ابن عطاء: "في هذا الحديث عظم قدر الولي؛ لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله، ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليًّا ثم لم يُعَاجَل بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو ولده بأنه سَلِم من انتقام الله؛ فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه؛ كالمصيبة في الدين مثلاً" ا.هـ(18)
وهذا يفسر لنا تردي أحوال الذين يؤذون أولياء الله -تعالى- خاصة في جوانب الدين والأوامر والنواهي؛ فكم من عدو لله -تعالى- آذى أولياءَه بيده أو لسانه أو قلمه، من علماء ودعاةٍ وصالحين، ومع ذلك تراه يتقلب في مَلَذَّات الدنيا، لم يُؤْذَ في نفسه أو ماله أو ولده؛ بل ربما يزيده الله من ذلك؛ لكن لو فتشت عن دينه لوجدت أنه ينحدر من معصية إلى أعظم منها؛ حتى يقترف أنواع الفجور والآثام؛ بل ربما ارتكس في الكُفْر والإلحاد والزَّنْدَقَة، فيكون انتقامُ الله منه لأوليائه الذين آذاهم أن سهل عليه أَمْرَ الكفر والفجور حتى يخلد في العذاب، ويكون حسابه في الآخرة أشد وأنكى.
ويبيِّنُ هذا الحديث بجلاء خطأ من يهمل الفرائض ويجتهدُ في النوافل، تجده يحافظ على قيام الليل في رمضان، ويتنفل بالحج والعمرة؛ لكنه يهمل الصلوات المفروضة بقية العام؛ ربما يتصدق على الفقير والمسكين، ويبذل ماله وجاهه لمساعدة المحتاجين، ويحرص على بناء مسجد قبل أن يموت لكنه لا يخرج زكاة ماله، أو لا يجتنب الطرق المحرمة في كسبه من ربًا وغيره، فهذا وأمثاله حافظوا على أنواع من النوافل؛ لكنهم أهملوا الفرائض فخرجوا عن ولاية الله تعالى.
كما يبين الحديث ضلال المُبْتَدِعَة، الذين شرعوا لهم عبادات لم تفرض، وأهملوا العبادات المفروضة؛ فما تَعَبَّدَ مُتَعَبِّدٌ لله -تعالى- بأفضل ولا أحبَّ إليه مما افترضه على عباده.
وهذه الفرائض: إما أن تكون ظاهرة يفعلها العبدُ؛ كالصلاة والزكاة وغيرهما، أو يتركها؛ كترك الزنا والخمر وسائر المعاصي، وإما أن تكون باطنة؛ كالعلم بالله -تعالى-، والحبِّ له، والتوكل عليه، والخوف منه، وغير ذلك(19).
ومن هِدَايات هذا الحديث: الإلماح إلى ما يحتاجه العبد من تسديد الله وتوفيقه.
كم نحتاج إلى أن نسدد في أقوالنا وأفعالنا؛ فالمعاصي تكثر فينا، والفتن تحيط بنا من كل جانب، واحتمالُ الوقوع في الإثم أقرب إلينا من شراك نَعْلِنا؛ فكيف يكون إبصارُ الحق، والثباتُ عليه، ومجانبةُ الإثم والحرام إلا بتسديد الله لأسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا.
يا تُرَى كيف سيكون حال العبد إذا فقد توفيق الله وتسديده؟! وكم سيكون تخبطه في الإثم والفتن إذا تخلى الله عنه؟! بل إن التسديد والتوفيق نحتاجه حتى في أمور دنيانا؛ من بيع وشراءٍ، وذهاب ومجيء، ووظائف وأعمال.
ونحتاج إلى التَّسْدِيد في بُيوتنا وفي تعاملنا مع أهلنا وأولادنا وقراباتنا؛ فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ لم يُسدَّدْ يخطئ الاختيار في عمله ووظيفته، ويسيء التصرف في بيته ومع أهله؛ فاستحالت حياته شقاءً، ولو كان مُسَدَّدًا لكان أسعد الناس: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".
وهذا هو التوفيق والتسديد؛ فالزموا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله -تعالى-، وتقربوا إليه بالفرائض ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، وجانبوا سخطه ومعاصيه، ووالُوا أولياءه، وعادُوا أعداءه؛ حتى تكونوا من أوليائه.
ثم صَلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى؛ كما أمركم بذلك ربكم.
ـــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب التواضع (6502)، والبيهقي في الكبرى (3/346)، وأبو نُعَيْم في الحلية (1/4)، والبغوي في شرح السنه (248).
(2) مجموع الفتاوى (18/129).
(3) فتح الباري لابن حجر (11/350).
(4) انظر الروايات في تفسير ابن كثير (2/655)، والدر المنثور للسيوطي (3/556)، وقد جاء مرفوعًا عند ابن المبارك، والحكيم، الترمذي، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور".
(5) أخرجه أحمد (6/256)، وأبو نُعَيْم في الحِلْيَة (1/5).
(6) أخرجه الطبراني في الكبير (8/264) برقم (7880)، قال الهيثمي: وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" (2/251).
(7) جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/334).
(8) فتح الباري لابن حجر (11/350).
(9) جامع العلوم والحكم (2/336).
(10) جامع العلوم والحكم (2/337).
(11) كما في حديث معاذ بن جبل، وهو حديث عظيم طويل أخرجه أحمد (5/243)، وابن خزيمة في التوحيد (218)، والترمذي في تفسير القرآن؛ باب من سورة ص (3235)، والحاكم وصححه الذهبي (1/702) والطبراني في الكبير (20/108)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح، انظر: جامع الترمذي (5/344).
(12) أخرجه ابن المبارك في الزهد (430)، والترمذي في الدعوات؛ باب (74) من حديث عبدالله بن يزيد الخطمي الأنصاري، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (3491).
(13) جامع العلوم والحكم (2/347).
(14) أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك في المناقب؛ باب مناقب البراء بن مالك -رضي الله عنه- وقال: هذا حديث صحيح حسن من هذا الوجه (3854)، والحاكم من وجه آخر عن أنس، واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي (3/292).
(15) مستدرك الحاكم وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" (3/292).
(16) أخرجه الطبراني في الأوسط (7548) قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح" (10/264).
(17) أخرجه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (10/264)، وكذا قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/152)، وصححه العراقي في تخريجه للإحْيَاءِ (3/277).
(18) فتح الباري لابن حجر (11/354).
(19) انظر: فتح الباري (11/354).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي