لقد تعرض إبراهيم -عليه السلام- في هذا الموقف لتحديات عظيمة، تظهر ناصعة في قمة إيمانه؛ بتصديق الرؤيا التي تَحْمل أمر الله له بذبح ابنه، وليس هذا فقط بل يتولى هو بنفسه تلك المهمة أن يذبح ابنه بيده، فأي اختبار هذا الذي وُضع فيه...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
معاشر الصالحين والصالحات: هنيئا لمن تقرب إلى الله بالأضحية صادقاً محتسباً، وذلك برهان الإيمان والطاعة والانقياد، وشاهد الاستجابة والتسليم لرب العباد؛ تأسياً بسيرة أبي الأنبياء إبراهيمَ الخليل وابنِه إسماعيلَ -عليهما الصلاة والسلام-، يوم جاءهما الابتلاء الشديد بما لا تُطيقه الأنفس ولا تحتمله، حيث أُمر الأب الحليم بوحي في المنام، أن يذبح وليده الوحيدَ الصابر، فكانت الاستجابة منهما معا بمطلق الطاعة والتسليم لرب العالمين.
لقد تعرض إبراهيم -عليه السلام- في هذا الموقف لتحديات عظيمة، تظهر ناصعة في قمة إيمانه بتصديق الرؤيا التي تَحْمل أمر الله له بذبح ابنه، وليس هذا فقط بل يتولى هو بنفسه تلك المهمة أن يذبح ابنه بيده، فأي اختبار هذا الذي وُضع فيه أبو الأنبياء إبراهيمُ -عليه السلام-؟ فلو مات ابنه ميتة غير هذه، لكان ذلك هينا على النفس بعض الشيء.
ولكن إبراهيم لم يسأل ربه، ولم يعترض أو يتلكأ في الأمر، بل لبى الأمرَ بمطلق الطاعة والتسليم والرضا.
إبراهيم انقاد لأمر الله ولم يخالجه إلا شعورُ الطاعة، ولم يخطر له إلا خاطرُ التسليم والاستجابة للأمر الرباني.
وتظهر قمة الروعة في الرضا والتسليم والاستجابة للأمر الإلهي إخبار إبراهيم -عليه السلام- ابنه اسماعيل بهذه الرؤيا، فسلك في عرضه الأمرَ الإلهيَّ على ابنه أسلوب المشاورة، حتى ينقادَ هو الآخر لأمر الله، فينالَ أجرَ الطاعة، ويتذوقَ حلاوةَ التسليم، ويظفر بالخير الذي يرى أنه أبقى من الحياة: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].
وهنا تتجلى القصة العجيبة بكل معانيها وأبعادها، ويتجلى المنهج التربوي الإلهي الدقيق الذي أراد الله أن يُعلِّمه للناس ويُربيهم عليه، والذي نحن بأمس الحاجة إليه في عصرنا هذا الذي أصبحت فيه العلاقة بين الآباء والأولاد تقوم على التعصب وإصدار الأوامر دون نقاش، مما أدى إلى توتر العلاقات بين الأب والولد بسبب انعدام الحوار والثقة بين الطرفين: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102]، فجاء جواب الابن برداً وسلاماً على فؤاد والده المطمئن: (قال يَا أَبَتِ) أدب واحترام: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) فليس لك ولا ليَ خيار من أمر الله، طاعةٌ واستسلام برضى ويقين: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
ثم انتقل البلاء من الهم والقول إلى الفعل والتنفيذ، ولم يبق بعد ذلك إلا أن يراق الدم الزكي، إذ لا مناص من إنفاذ أمر الله، قال ربنا: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103] أي فلما أسلما أمرهما لله، وفوضاه إليه، ورضيا بقضائه، طلب إسماعيل من والده أن يَكبه على جبينه مستقبلاً الأرض بوجهه، لئلا يرى والدُه تقاسيمَ وجهه وهو يعالج سكرات الموت عند ذبحه، فيؤذيَه ذلك المنظر أو ربما يتراجع عن تنفيذ أمر ربه.
وهنا يكون الابتلاء قد تم، ويكون الاختبار قد وقع، وتكون النتيجة قد ظهرت ويكون إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قد جاوزا الابتلاء والاختبار الذي ابتلاهما به العزيز الجبارُ -جل وعلا-، فظهرت العبودية لله، وظهر الاستسلام لأمر الله، فالله -جل جلاله- لا يريد من عباده إلا العبودية والاستسلام والإذعان، حتى لا يُقدَّمُ العبد في نفسه شيئًا على الله ولا على أمره ولا على نواهيه ولا على حدوده.
وفي هذه اللحظة الحاسمة التي تجلت فيها معاني الطاعة والصبر بأجل المعاني، يأتي أمر الله، فكان الجزاء والفداء من رب حليم كريم، ونودي إبراهيم بالفرج: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 104 - 105].
كما جزيناك بطاعتنا يا إبراهيم، كذلك نجزي الذين أحسنوا وقدموا طاعة الله على طاعة النفس وشهواتها، فيناله الجزاءُ الأوفى، ونصرفُ عنه المكارهَ والشدائد، ونجعلُ له من أمره فرجا ومخرجا: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات: 106 - 108].
إنها شهادة من الله لخليله بالصدق والنجاح في الامتحان والبلاء المبين، فأكرمه كرامةً بفداء ابنه بكبش عظيم، فأصبح عبادةً من أجل العبادات، وسنةً دائمةً إلى يوم الدين، وأفاض عليه خِلعة الذكر الجميل بين الخلائق، فكان أبا الأنبياء، والأمة القانت، وأبا المسلمين، وصار ذكره خالدا ولزاما على كل مصلٍّ في تحياته.
فسلام على إبراهيمَ الأواهِ المنيب الحليم الذي وفى، والذي علم الدنيا حقيقة التضحية، وعظمة الفداء لله -جل وعلا-، فجاد عليه الرب بالسلامة المطلقة من كل ما يسوء في الدنيا والآخرة، قال ربنا: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 109 - 110]، كذلك جزاء من حقق مقام الإحسان من المؤمنين في سرائه وضرائه: نجاةٌ، وعوض، وذكرٌ حسنٌ خالد، وسلامةٌ في الدنيا والآخرة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
معاشر المؤمنين والمؤمنات: كثيرةٌ هي الدروس والعبر التي نستنتجها من قصة بلاء إبراهيم، فمن الدروس العظيمة الملحة التي كثيرا ما نحتاج إلى تمثلها في حياتنا وفي واقعنا: درس التضحية، التضحية التي قدمها إبراهيمُ وابنُه إسماعيل -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
فأنت -أيها المسلم- لم يُطلب منك مثلُ ما أُمر به إبراهيم، لم يُطلب منك أن تذبح ولدك، ولا أن تفارق زوجك، ولا أن تلقيهم في الصحراء.
المطلوب منك العمل والتحرك من أجل هذا الدين.
فإن ما نراه من واقع الأمة يحتاج لنفس تضحي بفضل وقتها ومالها وجهدها وكلماتها المخلصة وتتحرك لدين الله وتنقله للناس خطاباً معتدلاً وسطيا.
وهذه كلها أمور متاحة للكثيرين، لكن الركون للدنيا وطول الأمل، والاهتمام بتوافه الأمور يُعيق ذلك.
فأهل الكفر وأهل الباطل يتحركون بكل قوة وجرأة ويضحون بكل ما أوتوا من وسائل مادية ومعنوية ليشيعوا باطلهم الذين هم عليه، أهل الباطل ينتعشوا ويتحركوا في الوقت الذي يتقاعس فيه أهل الحق ويتكاسلوا ويركنوا إلى الدنيا.
أهل الباطل يصدعون بالباطل ويتكلمون بكل حرية وكأنهم هم أهل الحق وأهل الحق يكتمون ما أنزل الله من الحق والنور المبين وكأنهم أهل باطل.
ووالله ما انتفش الباطل وأهلَه إلا يوم أن تخلى عن الحق أهلُه.
ومن الدروس العظيمة التي نستخلصها كذلك: الاستجابة والاستسلام لأمر الله، فذلك من أهم العبادات التي يثيب الله عليها عباده المؤمنين.
أبلغ عظة وعبرة نستلهمها من بلاء الخليل هي الاستسلام لأمر الله بطاعة وصبر ورضى وثقة، لا نتألّى على الله، ولا نقَدَّمُ بين يديه.
علينا أن ندرك أن الله لا يريد أن يعذبنا بالابتلاء ولا أن يؤذينا به، إنما يريد أن نأتيه طائعين مستسلمين، حتى إذا عرف منا الصدق في هذا أعفانا من التضحيات والآلام، واحتسبها لنا وفاءً وأداءً، وقَبِل منا وأكرمنا كما أكرم أبانا إبراهيم -عليه السلام-.
ولنجعل من قصة بلاءِ إبراهيمَ وابنِه إسماعيلَ مولداً جديداً لنا مع الله، نحيي بها القلوب، وتنشط العزائم، ونقبل على ربنا طائعين مستسلمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي