أشرتُ في الخطبة الماضية إلى جملة من آداب المجالس التي دل عليها الكتابُ والسنةُ وآثارُ سلف الأمة، والأعراف المحمودة، ونكمل في هذه الخطبة ما تيسر من هذه الآداب. جمّلنا الله وإياكم ظاهراً وباطنًا بأدب الشرع المطهّر.
أما بعد: فقد أشرتُ في الخطبة الماضية إلى جملة من آداب المجالس التي دل عليها الكتابُ والسنةُ وآثارُ سلف الأمة، والأعراف المحمودة، ونكمل في هذه الخطبة ما تيسر من هذه الآداب. جمّلنا الله وإياكم ظاهراً وباطنًا بأدب الشرع المطهّر.
فمن تلك الآداب: أنه إذا دخل مجلساً فلا يقيم أحداً من مجلسه ثم يجلس مكانه، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. ومعنى: "تفسحوا وتوسعوا: أي توسعوا فيما بينكم، ولينضم بعضكم إلى بعض حتى يفضل من الجمع مجلس للداخل".
"والحكمة في هذا النهي: منعُ استنقاصِ حقِّ المسلم المقتضي للضغائن، والحثُّ على التواضع المقتضي للمواددة. وأيضًا: فالناسُ في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيءٍ استحقّه، ومن استحق شيئًا فأُخِذَ منه بغير حقٍ فهو غصْبٌ، والغصبُ حرام". قاله ابن أبي جمرة، كما في فتح الباري. وفي سنن أبي داود -بسند حسن- أن النبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا".
حفظ أمانة المجالس: فحفظ الأمانة والعهد واجب شرعي: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء:34]، ويتأكد في المجالس والمهمات الخاصة، ففي صحيح مسلم، عن أنس، قال: "أتى عليَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سِرٌّ، قالت: لا تحدثنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا -قال أنس-. والله! لو حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت".
وفي حديثٍ حسّنه بعض أهل العلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا حدَّث الرجلُ بالحديثِ ثمَّ التفتَ فهيَ أمانةٌ". قال مكحول -رحمه الله-: "إذا حدّثك الرجل بحديث، ثم التفتَ هل يسمعه أحد؛ فقد لزمك كتمانُه"، بل قال ابن العربي: "الالتفاتُ معاقدة من المحدِّث".
الإقبال بالوجه على الضيوف، وإقبال الضيوف على مضيفهم: وهذا مما جُبلت الفِطَر على استحسانه.
ومما كدّر هذا الأدبَ في عصرنا: الانشغال غير المبرر بالأجهزة والجوالات، حتى قيل: اجتمعت الأبدان، وتفرّقت المشاعر والأذهان، وهذا شيء تفشّى وللأسف، حتى إن بعض الناس ربّما حادثك وعينُه على جهازه دون عذر، وهذا لا شك أنه خلاف المروءة والأدب.
ويزداد ذمّ هذا إذا كان بحضرة الوالدين، أو من له حقٌّ على الشخص - كشيخه مثلا- ومع التأكيد على أن الأعراف والنفوس تتفاوت في هذا، إلا أن ثمة قدْراً يتفق الناسُ على ذمّه، والعاقل من يقيس ويقدّر.
ومن أدب المجالس: عدم الاستئثار بالحديث، والتصدر، وادعاء المعرفة أو ما يوحي بتجهيل الآخرين. قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "إياك أن تتصدى في مجالسك مع الناس للترؤس عليهم وأنت لست برئيس، وأن تكون ثرثاراً متصدراً بكل كلام، وربما -من جهلك وحمقك- ملكتَ المجلس على الجلوس، وصرت أنت الخطيب والمتكلم دون غيرك، وإنما الآداب الشرعية والعرفية مطارحةُ الأحاديث، وكلٌ من الحاضرين يكون له نصيبٌ من ذلك، اللهم إلا الصغار مع الكبار، فعليهم لزوم الأدب، وأن لا يتكلموا إلا جواباً لغيرهم".
ومن أدب المجالس: ترك التفاخر، ومدحُ النفس، وما يتبع ذلك من التنقص من بعض الناس أو بعض المدن أو القبائل، أو الفخر بالأحساب، أو غير ذلك من صور التباهي، فإن هذا منافٍ للتواضع الذي أوحى اللهُ به إليه نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: "إِنَّ الله أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ".
إنكار المنكر بحكمة: فبعض الناس قد يرى شيئاً يقع في المجلس، فهنا عليه أن يتأكد أنه منكر قبل أن يُنْكِر، لأن بعض الناس -لقلة علمه- قد ينكر ما يسع فيه الخلاف بين العلماء. ثم ليلتمس الطريقة المناسبة في الإنكار، وليتذكر أن أكثر الناس يكره مواجهته بالإنكار أمام الآخرين، فمن المنكرات ما يمكن تأجيل التنبيه عليه، ومنها ما لا يمكن، كما لو سمع غيبة أو سخرية؛ فليستعمل الرفق، والحكمة، ففي الغيبة -مثلاً-: سيكون من المؤثر لو قلتَ للذي اغتاب: لا تعط حسناتك من اغتبته، ونحو هذه الأساليب الطيبة. والعاقل من راعى المصالح والمفاسد في هذا كلّه.
ومن أدب المجالس: تقبل اختلاف الآراء فيما لا نصّ فيه، فإن بعض الناس -وللأسف- يريد بلسان الحال أو المقال أن يوافقه الآخرون على طرحه، ويغضب إن خولف، أو يقطع الطريق على من يريد بيان وجهة نظره، ولا شكّ أن هذا مما تكرهه النفوس، ولا تحترم مَنْ كان هذا حاله، إذْ لسان الحال: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيكم خطأ لا يحتمل الصواب، ومن كانت هذه حاله، فقد أزرى بنفسه.
ومن أدب المجالس أن الإنسان إذا دُعي إلى طعام، فعليه ألا يُثقِل على صاحب الوليمة بالجلوس، اللهم إذا كان يعلم محبته لذلك، وأنسه بالجلوس عنده، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب:53]. أي: "فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فتفرقوا واخرجوا من منزله، ولا تبْقوا متحدثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناساً من بعضكم لبعض به".
ومن أدب المجالس: قول كفارة المجلس، فقد رُوي -بسند حسّنه بعضُ أهل العلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ؛ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ" رواه أبوداود والترمذي وصححه، واستدل بعضهم بهذا بعموم قوله -تعالى-: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)، قال سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح: أي قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرًا ازددت فيه إحسانا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
ومن أدب المجالس: إلقاءُ السلام عند الانصراف، كما سبق في حديث: "إذا انتهى أحدُكم إلى المجلس فليُسَلِّم، فإذا أرادَ أن يقومَ فليُسَلِّم، فليست الأولى بأحقَّ مِن الآخِرَة" رواه أبو داود بسند قوي. وللحديث بقية.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....
أما بعد: فلقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- نوعاً خاصاً من المجالس، وهي مجالس الطرقات، فقال، كما في الصحيحين : "إياكم والجلوس في الطرقات!"، قالوا: يا رسول الله! ما لنا بدٌّ من مجالسنا؛ نتحدث فيها! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
وفي صحيح مسلم، قال أبو طلحة: كنا قعودًا بالأفنية نتحدث، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام علينا فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات؟! اجتنبوا مجالس الصعدات!"، فقلنا: إنما قعدنا لغيرما باس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، قال: "إمّا لا، فأدوا حقها: غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام". هذه آداب يجب على من رغب الجلوس في الطرقات أن يراعيها، وإلا فلا يجوز له الجلوس فيها.
أيها المسلمون: هذه الآداب التي تيسّر ذكرها اليوم وفي الأسبوع الماضي، كلها شاهدة على عظمة هذه الشريعة، وكمالها، وجمالها، وأنها ما تركت خيراً إلا دلّت عليه، ولا شرّاً إلا حذّرت منه، فاحمدوا الله على أن هداكم لها، وتمسكوا بها، وطبقوها ظاهرًا وباطناً؛ تسعدوا وتفلحوا، وسلوا ربكم الثبات والوفاة عليها.
اللهم أدّبنا بأدب كتابك وسنة نبيك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي