كيف نقلل فرص الطلاق؟

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. ألصق الناس بالرجل زوجه، فهي لباسه وهو لباسها .
  2. ما يفعله الطلاق من التشريد والتشرذم في المجتمعات أشد مما تفعله الحروب .
  3. وجوب اجتناب أسباب الطلاق قبل الزواج وأثناءه وبعده .
  4. تقليل الصداق والنفقات، والاقتصاد في الولائم والحفلات يقلل فرص الطلاق .
  5. معرفة الزوج حقوق زوجته عليه وتأديتها، وتعليمه لها حقوقه عليها يقلص فرص الطلاق .
  6. أكثر عيوب الرجال والنساء يمكن استصلاحها، لكنها تحتاج إلى وقت وصبر وحكمة .
  7. نسب الطلاق تزداد بشكل مخيف جدا مما أدى لعزوف الفتيات عن الزواج .
  8. عواقب كثرة الطلاق في المجتمع تمس الجميع .
  9. لا يرفع بلاء كثرة الطلاق ولا يدفع إلا بالأوبة إلى الشريعة الربانية .

اقتباس

أَلْصَقُ النَّاسِ بِالرَّجُلِ زَوْجُهُ، فَهِيَ لِبَاسُهُ وَهُوَ لِبَاسُهَا، وَهِيَ سَكَنُهُ وَهُوَ سَكَنُهَا. وَلِأَنَّ الزَّوَاجَ أَقْرَبُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَأَلْصَقُهَا كَانَتْ فُرَصُ الْمَشَاكِلِ فِيهِ أَكْثَرَ، وَكَانَ الِاحْتِمَالُ وَالصَّبْرُ أَوْجَبَ.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189]، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ الْمُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الرِّبَاطَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَهْدًا وَثِيقًا، وَمِيثَاقًا غَلِيظًا، لَا يَفْصِمُهُ إِلَّا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187]، وَاللِّبَاسُ لَا يُفَارِقُ لَابِسَهُ إِلَّا بِخَلْعِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي: صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّقُوهُ فِي أَهْلِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَبُيُوتِكُمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].

أَيُّهَا النَّاسُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى الدُّنْيَا دَارَ خُلْدٍ وَبَقَاءٍ، وَلَا مَحَلَّ مُتْعَةٍ وَنَعِيمٍ. بَلْ هِيَ دَارُ عَيْشٍ مُؤَقَّتٍ، وَمَوْضِعُ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْشُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ. فَكَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مُبْتَلًى بِدِينِهِ لِيُقِيمَهُ فَهُوَ أَيْضًا مُبْتَلًى بِالتَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ، مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ وَمَنْ بَعُدَ؛ فَهُوَ مُبْتَلًى بِبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَمُبْتَلًى بِصِلَةِ أَرْحَامِهِ، وَمُبْتَلًى بِإِكْرَامِ جِيرَانِهِ، وَمُبْتَلًى بِحُسْنِ عِشْرَتِهِ مَعَ زَوْجِهِ، وَمُبْتَلًى بِتَرْبِيَتِهِ لِوَلَدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَايَشَ مَعَ النَّاسِ وَعَيْنُهُ عَلَى حُقُوقِهِمْ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِمْ لِيَفُوزَ فِي آخِرَتِهِ، وَيَحْتَمِلَ أَذَاهُمْ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تُسَاوِي الْخُصُومَةَ مِنْ أَجْلِهَا، وَمَنْ صَبَرَ ظَفِرَ، وَمَنْ (عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى:40].

وَأَلْصَقُ النَّاسِ بِالرَّجُلِ زَوْجُهُ، فَهِيَ لِبَاسُهُ وَهُوَ لِبَاسُهَا، وَهِيَ سَكَنُهُ وَهُوَ سَكَنُهَا. وَلِأَنَّ الزَّوَاجَ أَقْرَبُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَأَلْصَقُهَا كَانَتْ فُرَصُ الْمَشَاكِلِ فِيهِ أَكْثَرَ، وَكَانَ الِاحْتِمَالُ وَالصَّبْرُ أَوْجَبَ، وَإِلَّا انْفَضَّتِ الشَّرَاكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُدِمَتِ الْبُيُوتُ الْعَامِرَةُ، وَتَشَتَّتِ الْأُسَرُ الْمُجْتَمِعَةُ. وَمَا يَفْعَلُهُ الطَّلَاقُ مِنَ التَّشْرِيدِ وَالتَّشَرْذُمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ أَشَدُّ مِمَّا تَفْعَلُهُ الْحُرُوبُ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرُوبَ تَجْمَعُ الْقُلُوبَ وَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْأَجْسَادُ؛ لِمُشَارَكَةِ الْكُلِّ فِي الْمَأْسَاةِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَيُفَرِّقُ الْقُلُوبَ مَعَ تَفَرُّقِ الْأَجْسَادِ، وَيَتَشَتَّتُ الْأَوْلَادُ وَأَقَارِبُ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ رَغْبَةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَيَقْتَسِمُونَ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ أَحْقَادٍ وَثَارَاتٍ وَنَزَعَاتِ انْتِقَامٍ.

وَإِذَا عَرَفَ الْعَاقِلُ مَغَبَّةَ الطَّلَاقِ، وَأَثَرَهُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَالْأَوْلَادِ؛ اجْتَنَبَ أَسْبَابَهُ، وَسَعَى فِي تَضْيِيقِ طُرُقِهِ، وَتَقْلِيصِ فُرَصِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ الزَّوَاجِ وَأَثْنَاءَهُ وَبَعْدَهُ:

أَمَّا قَبْلَ الزَّوَاجِ: فَبِالِاخْتِيَارِ الْحَسَنِ لِلزَّوْجَةِ، وَقَبُولِ الْبِنْتِ بِالزَّوْجِ الْمُنَاسِبِ لَهَا، وَالْمِعْيَارُ الْأَوَّلُ لِذَلِكَ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى رَعَى الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَجَانَبَ الظُّلْمَ وَالْأَذَى؛ وَالْخِطَابُ النَّبَوِيُّ لِلْأَزْوَاجِ: "فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ" وَالْخِطَابُ لِلْبَنَاتِ وَأَوْلِيَائِهِنَّ: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".

وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِقَامَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَإِلَّا فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ ظَاهِرُهُ الصَّلَاحُ يَحْمِلُ قَلْبَ شَيْطَانٍ؛ فَلَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهِ سُبْحَانَهُ وَبِحُقُوقِ خَلْقِهِ، وَيُعْرَفُ حَالُ الشَّخْصِ بِسُؤَالِ الثِّقَاتِ الْمُخَالِطِينَ لَهُ، وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ.

وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ غَرَّهَا وَسَامَةُ شَخْصٍ أَوْ مَالُهُ أَوْ مَنْصِبُهُ عَاشَتْ مَعَهُ عَذَابًا لَا يُطَاقُ، وَمَا تَمَتَّعَتْ بِجِمَالِهِ وَلَا مَالِهِ وَلَا جَاهِهِ! وَكَمْ مِنْ زَوْجٍ قَدَّمَ فِي اخْتِيَارِهِ عَلَى الدِّينِ غَيْرَهُ، فَكَانَ زَوَاجُهُ نِقْمَةً. وَكُلَّمَا تَقَارَبَ مُسْتَوَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ جِهَةِ الْغِنَى وَالتَّعْلِيمِ، وَالْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِاسْتِمْرَارِ الزَّوَاجِ، وَأَقَلَّ لِأَسْبَابِ الْخِلَافِ وَالطَّلَاقِ.

وَالنَّظَرُ لِلْمَخْطُوبَةِ إِنَّمَا شُرِعَ لِأَجْلِ تَآلُفِ الْقَلْبَيْنِ فَيَقْتَرِنَان، أَوْ تَنَافُرِهِمَا فَيَبْتَعِدَان، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟"، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَإِذَا لَمْ تُعْجِبْهُ مَخْطُوبَتُهُ فَلَا يَضْغَطْ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبُولِهَا؛ رَحْمَةً بِهَا، أَوْ مُجَامَلَةً لِأَهْلِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ وَيَضُرُّهَا. وَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا نَفَرَتْ مِنْهُ فَلَا تُطِيعُ أَبَاهَا أَوْ أُمَّهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ عَنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ يُؤَدِّي إِلَى فَشَلِهِ.

وَبَعْضُ الْآبَاءِ يُحْرِجُ الْخَاطِبَ، وَكَأَنَّهُ يَغْصِبُهُ عَلَى ابْنَتِهِ، وَلَا يَضَعُ خِيَارًا لِخَاطِبِهَا، وَيَكْثُرُ وُقُوعُ ذَلِكَ بَيْنَ الْقَرَابَةِ، فَيُحْرَجُ الْخَاطِبُ مِنْ قَرِيبِهِ وَهُوَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي ابْنَتِهِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ لَهَا، وَمَا حَرَجُهُ إِلَّا بِسَبَبِ حِرْصِ أَبِيهَا عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَحِرْصُهُ هَذَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ كَفِيلٌ بِإِفْشَالِ الزَّوَاجِ، وَعَوْدَةِ ابْنَتِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَهَا أَنْ يَتْرُكَ لِخَاطِبِهَا الْحُرِّيَّةَ فِي الْإِقْدَامِ أَوِ الْإِحْجَامِ.

وَأَمَّا تَقْلِيلُ فُرَصِ الطَّلَاقِ أَثْنَاءَ الْإِعْدَادِ لِلزَّوَاجِ: فَبِتَقْلِيلِ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَاتِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي الْوَلَائِمِ وَالْحَفَلَاتِ. وَكُلَّمَا اقْتُصِدَ فِي التَّكَالِيفِ وَالرُّسُومِ أَحَاطَتِ الْبَرَكَةُ بِالزَّوَاجِ، وَكَانَ أَدْعَى لِلْأُلْفَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَشْعُرُ بِفَضْلِ أَهْلِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهِ، فَيُكْرِمُهُمْ فِي ابْنَتِهِمْ. وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا..." رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ".

وَإِذَا كَانَ الْعُرْسُ يُمْنًا وَخَيْرًا وَبَرَكَةً بِسَبَبِ تَقْلِيلِ نَفَقَاتِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِأَسْبَابِ نَجَاحِهِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ فِيهِ؛ عَادَ يُمْنُهُ وَخَيْرُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَأُسْرَتَيْهِمَا، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ بِتَكْوِينِ أُسْرَةٍ صَالِحَةٍ.

وَكَثِيرًا مَا حَالَتْ نَفَقَاتُ الزَّوَاجِ دُونَ إِتْمَامِهِ، وَكَثِيرًا مَا تَسَبَّبَتِ الطَّلَبَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي تَجْهِيزِ حَفْلَةِ الزَّوَاجِ إِلَى الْفِرَاقِ، بِسَبَبِ عَجْزِ الزَّوْجِ، وَإِلْحَاحِ الزَّوْجَةِ وَأَهْلِهَا عَلَى مَظَاهِرَ زَائِفَةٍ تَنْتَهِي فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَبْقَى فِي قَلْبِ الزَّوْجِ مَا عَلِقَ بِهِ أَثْنَاءَ الْإِعْدَادِ لِلزَّوَاجِ مِنْ طَلَبَاتٍ لَا دَاعِيَ لَهَا، فَيَطْلُبُ هُوَ الْكَمَالَ فِي ابْنَتِهِمْ، وَيَثُورُ عِنْدَ أَدْنَى تَقْصِيرٍ مِنْهَا. وَفِي زِيجَاتٍ كَثِيرَةٍ وَقَعَ الْخِصَامُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَأَوْلِيَاءِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَافْتَرَقُوا بِلَا عَقْدٍ، وَكُسِرَ قَلْبُ الْفَتَاةِ، وَرَاحَتِ النَّفَقَاتُ هَبَاءً مَنْثُورًا.

وَأَمَّا بَعْدَ الزَّوَاجِ: فَبِمَعْرِفَةِ الزَّوْجِ حُقُوقَ زَوْجَتِهِ عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيهَا، وَيُعْلِمُهَا حُقُوقَهُ عَلَيْهَا. وَبَعْضُ الرِّجَالِ يَطْلُبُ مِنْهَا حُقُوقَهُ، وَلَا يُؤَدِّي لَهَا حُقُوقَهَا. وَيَحْتَاجُ الزَّوْجَانِ إِلَى مُدَّةٍ لِيَفْهَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19]، وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِنْ رَأَى فِي صَاحِبِهِ سُوءًا أَنْ يَمْحُوَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ حَسَنٍ، فَرُؤْيَةُ الْحَسَنِ تَمْحُو الْقَبِيحَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَحْفَظَ فِي زَوْجَتِهِ إِحْسَانَهَا وَإِحْسَانَ أَهْلِهَا لَهُ حِينَ قَدَّمَتْهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَاخْتَارَتْهُ دُونَ سِوَاهُ، وَرَضِيَتْهُ حَلِيلًا لَهَا. فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى ذَلِكَ تَلَاشَى مَا يَرَاهُ مِنْ عَيْبٍ فِيهَا، وَاحْتَمَلَ عِوَجَهَا وَخَطَأَهَا.

وَأَكْثَرُ عُيُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يُمْكِنُ اسْتِصْلَاحُهَا، لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى وَقْتٍ وَصَبْرٍ وَحِكْمَةٍ فِي الْمُعَالَجَةِ، فَلَا يَكْسِرُ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِصْمَةَ بِيَدِهِ لِيَكُونَ الطَّلَاقُ حَيْثُ لَا عِلَاجَ، وَالرَّجُلُ الضَّعِيفُ هُوَ مَنْ يَجْعَلُ الطَّلَاقَ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الْعِلَاجِ؛ فَالْقُوَّةُ فِي الصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ وَمُحَاوَلَةِ الِاسْتِصْلَاحِ، وَالْكُلُّ يُحْسِنُ الْفِرَاقَ (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة: 237].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نِسَبُ الطَّلَاقِ تَزْدَادُ بِشَكْلٍ مُخِيفٍ جِدًّا، وَإِحْصَاءُ وِزَارَةِ الْعَدْلِ يَدُل عَلَى زِيَادَةٍ كَبِيرَةٍ فِي نِسَبِ الطَّلَاقِ، مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي تَخَوُّفِ كَثِيرٍ مِنَ الْفَتَيَاتِ مِنْ عَاقِبَةِ الزَّوَاجِ، وَتَفْضِيلِ الْعُنُوسَةِ عَلَى تَجْرِبَةٍ تَنْتَهِي بِالطَّلَاقِ؛ وَلِذَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَدَاعَى عُقَلَاءُ النَّاسِ وَوُجَهَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُمْ لِدِرَاسَةِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُنْذِرُ بِعَوَاقِبَ وَخِيمَةٍ، وَنَتَائِجَ أَلِيمَةٍ، وَبَحْثِ أَسْبَابِهَا، وَطُرُقِ عِلَاجِهَا، وَالِانْطِلَاقِ فِي كُلِّ خُطُوَاتِ الْعِلَاجِ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ.

وَعَوَاقِبُ كَثْرَةِ الطَّلَاقِ فِي الْمُجْتَمَعِ تَمَسُّ الْجَمِيعَ حَيْثُ كَثْرَةُ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْعَوَانِسِ، وَالْأَوْلَادِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْمُطَلِّقِينَ وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَمَا يُسَبِّبُهُ تَشَرْذُمُ الْأُسَرِ مِنْ أَضْرَارٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ.

وَأَسَاسُ هَذَا الْبَلَاءِ الْوَاقِعِ الْبُعْدُ عَنْ شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَةِ، وَفِي الْحَيَاةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ مِنْ خُطُوَاتِ الزَّوَاجِ.

وَلَا يُرْفَعُ هَذَا الْبَلَاءُ وَلَا يُدْفَعُ إِلَّا بِالْأَوْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا، فَلَنْ يَصْلُحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي