لماذا كانت الدياثة من كبائر الذنوب؟ إنّها من كبائر الذنوب؛ لأنّها تنكيس للفطرة التي فطر الله عليها الناس، ولأنّ الديوث ممسوخ، فإن لم يمسخ جسمه فقد مسخ قلبه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ولأن الديوث ذهبت الغيرة من قلبه ولا خير فيمن لا غيرة فيه كما...
بعد الحمد والثّناء...
أمّا بعد:
فإنّ مظاهر الفساد في هذه الأيّام لا تزال في تزايد مستمرّ، وفي انتشار واسع أكثر من انتشارها فيما مضى من سنوات وعقود، جميع مظاهر الفساد والمحرّمات، والخروج عن شريعة ربّ العالمين لا تزال كذلك، في مقدمتها: العري والفواحش، وإنّنا إذ رأينا ذلك حقّ لنا أن نتساءل: ما هي أسباب هذا الفساد؟ هل هو انتشار الجهل والأمّية؟
لا أظنّ ذلك، فإنّه لا مجال للمقارنة بين حال الأمّة في هذه الأيام، وحالها في الماضي، وخاصّة أيّام الاستعمار، فهل السّبب في ذلك هو تراجع الجهود الدّعوية؟
كلاّ وألف كلاّ، فإنّ الجهود المبذولة في هذه الأيّام في الدّعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- أضعاف ما كانت عليه في العقود الماضية، والجهود المبذولة في تنامٍ مستمرّ، والوسائل الّتي سخّرها الله -تعالى- للعباد قد تطوّرت وتنوّعت، ووُجِد منها في هذا الزّمان ما لم يتيسّر في السّبعينيات والثمانينيات أو أيام الاستعمار.
إنّ الّذي لا شك فيه أنّ ثمة أسبابا أخرى كثيرة، أسباب متنوعة متعاونة متآزرة يشد بعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا، وفي مقدمتها فيما نظن ونحسب غياب معاني الرجولة عن الناس، تلك المعاني العالية والسامية التي كان يتمتع بها آباؤنا وأجدادنا، وكذلك ضياع الحياء الذي بذهابه يذهب خير كثير، ويتجرّأ النّاس على ما كانوا يستقبحونه؛ كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ".
وعن الشّعبي -رحمه الله- أنّه قال: "كان النّاس يتعاملون بالدين زمانا، ثمّ ذهب الدّين فتعاملوا بالوفاء زمانا، ثمّ ذهب الوفاء فتعاملوا بالمروءة زمانا، ثمّ ذهبت المروءة -أي الرجولة- فتعاملوا بالحياء زمانا، ثمّ ذهب الحياء"، وإذا ذهبت كل هذه المعاني فماذا بقي للناس؟
وللرّجولة أو المروءة معان كثيرة معروفة عند العرب؛ كالشّجاعة، والنّجدة، ونصرة المظلوم،، والوفاء، الكرم، وردّ الإحسان، والعفو مع المقدرة.
ومن معانيها الظاهرة: الغيرة على الأعراض.
ولن نتحدّث عن جميعها ولكن عن معنى واحد منها هو "الغيرة على الأعراض".
في زمن مضى وليس بالبعيد كان أحدنا إذا رأى جارته وابنة حيّه غضّ طرفه وطأطأ رأسه، ولم يكن ذلك عند كثير من الناس من مقتضيات الشّرع، بل كان من مقتضيات الرجولة، رجولته تمنعه أن لا ينظر إلى جارته أو أخت أو زوجة صديقه، وإذا رأى من يُحدّ النظر إلى من ذُكِرْن أو يعتدي عليهنّ تأخذه العزة وتحركه الشهامة فيقوم ليدافع عنهنّ، ولم يكن ذلك بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذه الكلمة لم يكن لها وجود في قاموس الناس أو أكثرهم في تلك الأيام، لقد كان ذلك بدافع معاني الرجولة التي تسكن قلبه، واليوم لما ضاعت تلك المعاني أصبَحْت ترى ذلك "الرّويجل" هو الّذي يعتدي على جارته وهو الّذي يتّخذ أخت صاحبه عشيقة وخليلة، بل وربما ابنة عمّه، ثم يأتينا مختالا في مشيته يهز أكتافه ويتشدق في الكلام إذا تحدّث ليقنعنا بأنه رجل!
عباد الله: إنّ كثيرا من معاني الرجولة الّتي ذكرت واجبة في الشّرع يأثم من تركها ولم يتّصف بها، وعلى رأسها: الغيرة على الأعراض، الغيرة على أعراض الأقارب وأعراض المسلمين جميعا، فالغيرة واجبة، وتُعد من أهم خصال الإيمان، وفقدها يُعد من أعظم الكبائر؛ فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ثَلاَثَةٌ حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وَالعَاقُّ، وَالدَيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ الخبْثَ فِي أَهْلِهِ" [رواه النسائي وأحمد، واللّفظ له، وحسّنه الألباني].
"ثلاثة حرّمت عليهم الجنّة: أوّلهم مدمن الخمر"، وقد ورد في حديث آخر: أنّ مدمن الخمر كعابد وثن.
والعاقّ لولديه، والحديث عن عقوق الوالدين طويل، والنّصوص الواردة في ذلك كثيرة، وليس هذا موضع التّفصيل في ذلك، وذكر النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- الدّيوث، وعرّفه بأنّه الّذي يقرّ في أهله الخبث: "يقر في أهله" أي في زوجه، في ابنته، في أخته، في أقاربه من المحارم، ومن غير المحارم، و"الخبث" الزّنا ومقدّماته.
ومما ذكر العلماء في شرح الحديث -وقد جاء في بعض الروايات- أنّه "مَنْ لاَ يُبَالِي بِمَنْ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ"، وخلاصة المعاني التي ذكر العلماء: أنّ الديوث هو الذي لا غيرة له، وأنه الذي لا تتحرك نفسه إذا تعرض الناس لأهله وأقاربه وذويه.
حكم النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث على هؤلاء الثّلاثة بتحريم الجنة، والمقصود بتحريم الجنة هنا أنهم لا يدخلونها ابتداء، وأمّا التحريم الأبدي فهو لمن أشرك بالله -تعالى- ووقع في ناقض من نواقض الإيمان؛ كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72]، وأمّا من تلوث بغير ذلك من المعاصي فهو ممّن يستحق أن يدخل النار يطهر من معاصيه؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الطّاهرون، وحيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا يدخل الجنة كذا"، و "إنّ الله حرم الجنة"، فذلك الفعل من الكبائر، "لا يدخل الجنة قاطع"، "لا يدخل الجنة نمام"، "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" [رواه مسلم]، "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" [متفق عليه]، فهذه الأحاديث تدل على أن هذه الأعمال من كبائر الذنوب.
لماذا كان ذهاب الغيرة أو الدياثة من كبائر الذنوب؟
إنّها من كبائر الذنوب؛ لأنّها تنكيس للفطرة التي فطر الله عليها الناس، ولأنّ الديوث ممسوخ، فإن لم يمسخ جسمه فقد مسخ قلبه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا؛ كما قال أحد السلف: "ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب"، ولأن الديوث ذهبت الغيرة من قلبه ولا خير فيمن لا غيرة فيه كما قال الذهبي -رحمه الله-.
وقال ابن القيم: "أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له"، وقوله: بأنها أصل الدين باعتباره أن موجب هذه الغيرة هو محبة الله -تعالى- ومحبة الله هي أصل الدين، فمن كان في قلبه محبة الله ورسوله ودينه أثمرت هذه المحبة غيرة على الشرع، وغيرة من أن تنتهك حرمات الله -تعالى-، وإذا غابت هذه الغيرة كان ذلك دليلا على ضعف المحبة الواجبة أو ذهابها".
وقال سعد بن عبادة: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فقال: "تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" [رواه مسلم].
وإنه لا تقوم الساعة حتى تُنقَض عرى الإيمان عروة عروة، ولا تقوم الساعة حتى يذهب خيار الناس ويبقى شرارهم، وقد أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- أنه "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَسَافَدَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ تَسَافُدَ الحَمِيرِ"، وبيانه في الحديث الآخر: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ تَفْنَى هَذِهِ الأُمَّةُ حَتَّى يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى المَرْأَةِ فَيَفْتَرِشَهَا فِي الطَّرِيقِ، فَيَكُونُ خِيَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ مَن يَقُولُ: لَوْ وَارَيْتَهَا وَرَاءَ هَذَا الحَائِطِ".
ولا تزال أشراط الساعة التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في الظهور واحدة بعد أخرى، ولا تزال الأمة سائرة إلى المعنى الذي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلمَ-.
وإذا أردنا أن نعدّد مظاهر الدياثة وذهاب الغيرة المنتشرة في الأمة، فإنّنا نحتار من أين نبدأ؟ أمن أغلظها أم من أخفها؟ هل نبدأ بمن يترك أهله تطل من الشرفة بلا سبب؟ أم أبدأ بالذي يأخذ أهله إلى شاطئ البحر؟
لأنها مظاهر كثيرة نحتاج إلى أن ندمج بعضها في بعض طلبا للاختصار.
وبما أننا في فصل الصيف فإنّنا نبدأ بالحديث عن البحر، فما معنى أن يذهب بزوجته وأخته إلى البحر؟ أنا لا أتحدث عن الذي يذهب بها لتسبح عارية فذاك خرج من بشريته -أكرمكم الله-، ولكن أتحدث عمن يذهب بأهله إلى البحر لا للسّباحة ولكن لتبلّل أقدامها وتشمّ الهواء وتروّح على نفسها -زعموا-؛ لأنّ الشواطئ إن خلت من الرجال والنساء العراة فهي لا تخلو من الرجال العراة!
وأتحدث أيضا عمن يذهب بابنته البالغة أو التي قاربت البلوغ إلى شاطئ البحر، وكثير من الناس يتساهلون في هذا الأمر، يتركون بناتهم الصغيرات شبه عاريات تعرض مفاتنهن على الذئاب البشرية المتربصة هنا وهناك.
ويشبه هذا الأخير الذي يسمح لابنته أو أخته بممارسة الرياضة والانخراط في النوادي الرياضية لتمارس السباحة والعدو والمصارعة وغيرها، أليس هذا من مظاهر الدياثة؟!
وكيف تسمح الرجولة -إن كانت في القلب- للأب أن يرسل ابنته إلى المخيمات الصيفية، ونحن في زمن يخاف فيه على الأولاد الذكور فكيف بالبنات الصغار؟ تبقى البنت الأسابيع والشهور وهو لا يدري ما الذي حدث لها؟ وأين تبيت؟ وماذا تصنع؟
ومن ضعف الغيرة ورقة الدّين: أن يأذن الرجل لأهله بالسفر من مدينة إلى مدينة أو من بلد إلى بلد بلا محرم يرافقها، وفي زمان انحسار الرجولة وانتشار الدياثة أصبح كثير من الناس لا يعدون من المنكرات إرسال البنات إلى الأحياء الجامعية، التي تبعد عن سكناهم بمئات الكيلومترات، وتمكث فيها البنات الأسابيع بل الشهور! أين تمكث؟ تمكث في تلك الأحياء التي يعلم أنه تكثر فيها الفاحشة والفجور، وقد كثرت فيها الفضائح حتى وصفها بعض الصحفيّين ب "الأحياء الجِماعية"!
نسأل الله -تعالى- السلامة والعافية.
ومنها أيضا: أن يسمح الرّجل لأهله بالاختلاط بالرجال في الأعراس وغيرها، وأن تؤخذ لها الصور الثّابتة والمتحركة، أو أن يدخل عليها الرجال -غير المحارم- في غيبته ولو كانوا من الأقارب، قال صلى الله عليه وسلمَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحَمْوَ؟ قال: "الحَمْوُ المَوْتُ"، والحمو: أخو الزوج، وجعل الخلوة به بمنزلة الموت، فعليكم أن تكرهوه كما تكرهون الموت، واحذروه كما تحذرون الموت.
ومن الخلوة المحرمة: أن تركب المرأة السيارات مع الأجانب، ولو كان ذلك في البلدة الواحدة من غير سفر، وقد يستغرب بعض الناس هذا الكلام، ولكنه من أوضح الأمور عند من استنار قلبه بنور الكتاب والسنة.
ومن الدياثة: أن يلقي للزوجة الحبل على الغارب، تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء، ولا يعرف الوجهة التي خرجت إليها، ولا التي أقبلت منها.
ومنها: السماح للمرأة بالخروج للأسواق التي تكثر فيها المعاكسة والازدحام، وربما ترى ذلك "الرويجل" جالسا في السيارة ينظر وينتظر، وزوجته تخرج إلى البقالة لتبتاع! أو ترى بعضهم يجلس إلى جانب زوجته وهي من يقود السيارة تتعرض لنظرات الناس، ويوقفها الشرطي ويكلمها دونه وهو يسمع ويرى ولا يحرك ساكنا.
ومنها: نشر أسرار الزوجة وأسرار الجماع، وإن من فعل ذلك فهو من شرار الناس عند الله، قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" [رواه مسلم].
ومنها: تلك الظّاهرة الجديدة العجيبة الّتي تنتشر في مجتمعنا، ظاهرة هؤلاء الذكور الذين يكشفون عن أفخاذهم في الشوارع دون حياء من الله أو من عباده، ولننتبه إلى أنّهم ما خرجوا كذلك حتى كشفوا عن عوراتهم في البيوت أمام أمّهاتهم وأخواتهم وآبائهم، فهل يُشكّ أنّ هذا من مظاهر الدّياثة والتخنّث أيضا؟
ومن أعظم مظاهر الدياثة: الزّواج بالزّانية، وعدم تطليق من ثبت عليها الزّنا، أو أن يتقدم الخاطب للفتاة التي يعرف أنها كانت ذات خدن وهو مطلع على ماضيها السيئ، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن الديوث هو الذي يظن في أهله الفاحشة ثم يمسكها، "يظن" بمعنى يشك وليس هو على يقين.
ومنها: عدم مراقبة البنات في المدارس التي كثر فيها الفساد، والسماح لهن باكتساب جوال.
ومنها: أن يرضى بخروجهنّ دون حجاب شرعي يتفرّج عليهنّ الغادي والرائح، ولا يعنيه أن تخرج كاشفة عن عورتها للناس.
وبعد هذا السرد، قولوا لي بربّكم: أهذه الأشياء كانت موجودة عند آبائكم وأجدادكم؟ وهل كان أجدادنا أعلم بالدين منا؟
نعم، إنّهم كانوا أميين لا علم لهم، ولكن كانت فيهم الرجولة والفحولة، فلم يكونوا يرضون بما هو أدنى من هذا بمفاوز.
إن هذه الأشياء المذكورة مما لا يرضى به حتى أهل الجاهلية الأولى؛ ففي بعض الأحاديث - حديث عمّار- أنّ الصّحابة لما سمعوا قول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "الديوث"، قالوا: وما الديوث؟ فلنا أن نقول: إنهم لم يعرفوا معنى هذه اللفظة! ولم يعرفوا هذه الخصلة؛ لأنها لم تكن موجودة عندهم، وفي هذا الحديث يقول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ أَبَداً: الدَيُّوثُ، وَالرَّجُلةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الخَمْرِ" [قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه مساتير وليس فيهم من قيل إنه ضعيف"، وصححه الألباني]، والرَّجلة، هي: المترجلة المتصفة بصفات الرجال.
وقد حمله بعض أهل العلم على المستحلّ؛ لأنّ المعاصي لا تكون سببا للخلود في جهنم.
ومن صور الاستحلال: أن ينصح المرء في هذه الأمور، فيقول: بل هذا أمر عادي جائز ولا حرج فيه، وأن يقول: هذا تخلف ورجعية ووسوسة، فالمستحل ينكر أن تكون هذه المظاهر من المعاصي، مع أن الفطرة السليمة ترفضها، وتحريم أكثرها معلوم من الدين بالضرورة.
نسأل الله -تعالى- أن يردنا إلى ديننا ردا جميلا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
فبعد أن علمنا كل هذا، حُقّ لنا أن نتساءل عن الوسائل الّتي محت الرجولة، وقضت على الأنفة، وذهبت بالغيرة من مجتمعنا، وهي أشياء كثيرة مجتمعة متعاونة ومتآزرة، نذكرها باختصار، ثمّ نقف عند بعضها وقفات.
إنّ أسباب ضياع الرجولة وفقدان الغيرة هي: الأفلام، والغناء، والتشبه بالكفار، وحياة الترف، وسوء تربية الأولاد، ودعاوى حرية المرأة، وهجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفشو السحر، وانتشار المعاصي، وخصوصا الخمر والمخدرات، قلت: نقف مع بعضها؛ لأن الوقوف معها جميعا بالتفصيل يستدعي خطبا، ولكن حسبنا اليوم كلمات نسوقها في شرح بعضها عسى أن توقظ قلوبا أو تستنهض همما.
1- فأمّا الأفلام، فلا يخفى أثرها في نشر الفساد والدياثة، وكما يتدرج الطبيب في إعطاء جرعات الدواء المكسب للمناعة؛ تدرج المتآمرون على الأمة في جرعات الأفلام ودرجات تركيزها في الفساد لإذهاب مناعة الحياء والرجولة، فبعدما كانت تلك الأفلام -في زمن جسّ النبض- تبث في منتصف الليل خوفا من رد فعل الأمة المحافظة آنذاك، أصبحوا الآن يبثونها في منتصف النهار، وفي هذه الأفلام من الفساد ما لم يكن في تلك، ومع تطور الأمور وبروز الهوائيات ازداد الطين بلة، وهنا نطرح هذا السؤال: فكيف ينشأ الولد الذي ينشأ على مشاهدة تلك الأفلام التي تحكي عن الزنا والخيانة الزوجية واختلاط الأنساب، وتعرض فيها الصور الفاتنة والقبل والمعانقات يشاهدها مع أمه وأخته؟ وأي رجولة تبقى لهذا الولد وأي غيرة يتربى عليها؟
لقد أدركنا زمانا كان فيه الرجل لا يجرؤ أن يدخل بيته الجريدة إذا كانت فيها صورة غير لائقة، بل وإذا كان فيها خبر يخدش الحياة، أو على الأقل تجده يقطع الصفحة التي حوت ذلك الشيء الذي يخشاه على أولاده وأهله، كانوا يتصرفون هذا التصرف مع هذه الصور الثابتة، واليوم أصبحنا نتساهل مع صور التلفزيون المتحركة التي يهيج الغرائز وتزعجها إزعاجا.
2- ومن أسباب ضياع الرجولة: داء الغناء، وهذا الغناء الذي كان يقال عنه في زمن الرجولة أنه "عيب" بكسر العين، وبُحّت حلوق الدعاة والعلماء في بيان تحريمه، وكان الصبيان يستحيون ليس من الغناء أمام الأقارب فحسب، بل من ذكر أسماء المغنين، خاصة أولئك الذين كانت أسماؤهم تدل على الغناء الفاضح الخالي من الحياء، ولما تساهل الناس في أمره، وكانوا يقولون: هذا غناء عفيف، وهذا غناء ماجن، وهذا غناء فيه حِكم وصلاح، وهذا فيه فساد، تدرّج بهم شياطين الإنس والجن حتى تحول مغنّو بيوت الدعارة إلى نجوم وأبطال تبذل لهم الأموال، وتسمع أصواتهم في التلفاز، وفي الأعراس مع الجيران والأقارب، ويسمع ذلك الكلام القبيح مع الآباء والأمهات والأخوات والعمات والخالات -نسأل الله العافية-.
3- ومن أسباب ضياع الرجولة أيضا: التشبه بالكفار في اللباس والأخلاق والعادات، وذلك أن أمتنا قد انهزمت نفسيا أمام الكفار بعدما هزمت عسكريا واقتصاديا، والمغلوب دائما يقتدي بمن غلبه، وإبان الاستقلال نزعت كثير من النساء "الحايك" أو الجلباب وتبرّجن تبرجا سمي يومئذ تبرجا محتشما! ولا يزال هذا اللباس المحتشم يتناقص بتناقص الحياء في المرأة وبتناقص الرجولة في قلوب الرجال حتى أصبحن -كما ترون- كاسيات عاريات، كاسيات مجازا وعاريات حقيقة.
4- ومن الأسباب أيضا: ترك الأمر بالمعروف، فقد كان الناس لا يرضى أحدهم أن يرى الانحراف في الأولاد، ولا يصبر على ترك نصحهم، وكانوا يغارون على الأقارب بل وعلى الجيران، فإذا رأى أحدهم الانحراف في بنات بلّغ آباءهنّ؛ لأنهم كانوا يعلمون أن عدوى الانحراف تهدّد أولادهم، وكانوا يمنعون الغرباء من أن يجلسوا مواجهين لنوافذهم وشرفاتهم، بل ويمنعون أهل الفجور من المرور من أحيائهم، لأنهم كانوا يرون في ذلك إفسادا لبناتهم ولأهل حيهم، والآن صار الناس إلى ما ترون وتسمعون.
5- ومن أسباب ضياع الرجولة: المعاصي الّتي تميت القلب وتخرج الغيرة منه، والتي تضعف القلب حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح سواء من صاحبه أو من غيره، وإن أعظم ما يعاقب به مدمن المعاصي موت القلب، ومن المعاصي: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها: ترك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومنها: إطلاق البصر، ومنها: التجرؤ على الفاحشة، وكما تدين تدان والجزاء من جنس العمل، وقد قال الشافعي:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنّبوا مـا لا يليـق بمسلم
إنّ الزّنى ديـن فإن أقرضتـه *** كان الوفاء بأهل بيتك فاعلم
ومنها: تناول الخمور والمخدّرات، التي يظنّها كثير من الناس من علامات الرجولة، وهي على العكس من ذلك، إن المسكرات تورث برودة النفس، وتذهب بالغيرة، وتوقع في أسفل دركات الدياثة، وهي الاعتداء على المحارم.
ومن أسباب ضياع الرجولة: إهمال تربية الأولاد، والقدوة السيئة، والتساهل مع الأولاد في المعاملة واللباس وغيره، إننا في زمان أهمل الناس فيه تنشئة الأولاد على معاني الرجولة وعلى الغيرة على الأعراض، يقول ابن القيم وهو يوجه المربين وينصحهم: "والحذر كل الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عشرة من يخشى فساده أو كلامه له، أو الأخذ في يده، فإن ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد استسهل الدياثة، ولا يدخل الجنة ديوث، فما أفسد الأبناء مثل تغفل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب".
نعم، إنهم يتساهلون في تربية أولادهم، يترك أحد ولده يكشف عن فخذه، ويقول: ما زال صغيرا! فينشأ على ذلك، لكنه سيبقى صغيرا حتى بعد عقد أو عقدين من الزمن، ولو رباه على الاحتشام وعلى عدم كشف أعلى جسمه ولو كان على شاطئ البحر، لنشأ على ذلك.
نعم، إنهم يتساهلون مع البنات في أمر الحجاب، بقولهم: ما زالت صغيرة! وإذا كبرت يقولون: حتى تقتنع! ولو ربيت على العفة والحجاب منذ نعومة أظفارها لما انحرفت ولا عرفت طريق الانحراف!
فاللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي