فلنَعُد بالذاكرة إلى الوراء، إلى قصةٍ من قصص النصر والتمكين، نطوي السنين؛ لنعود إلى زمنِ العزة والتمكين، والمجد والشموخ، معاً إلى الجيل الذي ربّاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على عينه، لنعيش معهم هذه الدقائق، ولكن تحت ظلال السيوف. خيبر وما خيبر! قصةُ خيانةٍ وخداع، قصةُ عداء وبغضاء، قصةُ تآمر على هذا الدين العظيم، وعلى نبيه الكريم! خيبر وما خيبر؟ مَنْ كان يسكنها؟ وما الذي حمل النبيَّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- لغزو ديارهم؟ وكيف كان سَير وقائع هذه الغزوة وهذا الفتح العظيم للمسلمين؟...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: ففي مثل هذا الشهر من السنة السابعة من الهجرة - أي قبل: 1429 سنة - وقعت غزوةٌ من الغزوات العظام، فلنَعُد بالذاكرة إلى الوراء، إلى قصةٍ من قصص النصر والتمكين، نطوي السنين؛ لنعود إلى زمنِ العزة والتمكين، والمجد والشموخ، معاً إلى الجيل الذي ربّاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على عينه، لنعيش معهم هذه الدقائق، ولكن تحت ظلال السيوف.
خيبر وما خيبر! قصةُ خيانةٍ وخداع، قصةُ عداء وبغضاء، قصةُ تآمر على هذا الدين العظيم، وعلى نبيه الكريم!
خيبر وما خيبر؟ مَنْ كان يسكنها؟ وما الذي حمل النبيَّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- لغزو ديارهم؟ وكيف كان سَير وقائع هذه الغزوة وهذا الفتح العظيم للمسلمين؟
أيها الإخوة:
- لقد كانت خيبر -وهي الآن شمال شرق المدينة بنحو مائة وسبعين كيلو - كانت دياراً لليهود يسكنها لفيفٌ من الخونة وناكثي العهود ممن باعوا آخرتهم بدنياهم، وكذبوا وكتموا ما دلّتهم عليه التوراةُ التي يتلونها صباحًا ومساءً، تخبرهم بصفات النبي الكريم، - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - وتأمرهم باتباعه ومناصرته، لكنهم كتَموا وكذَبوا.
- وأمّا الذي حمل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- على قتالهم وغزوهم: فهو أخلاقُ اليهود المنحطّة، وتشجيعُهم للمشركين على غزو المدينة فيما عُرف بـ(غزوة الأحزاب)؛ إذْ كانت اليهود تمثّل أحدَ الأجنحة المُقلقة لأمنِ المسلمين في المدينة، فأراد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يَتفرغ لتصفيةِ الحسابات معهم بعد عقد الصلح - صلح الحديبية - مع المشركين ليأمَن شرَّهم.
فكان ما كان مِن إعدادٍ وتجهيزٍ لاقتلاع هذه البذرة الخبيثة التي طالما عانى المسلمون من شرها طويلاً.
خرج إليهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليلاً (كما في الصحيح البخاري ح: 4196)، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد بعث عَبّاد بنَ بشرٍ عيناً له على يهود (مغازي الواقدي: 2/640)، فأَسَرَ عَبّادُ جاسوساً لليهود، وأخرج منه بعض أسرار اليهود.
ثم توجّه نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- بجيشه المبارك المكون من (ألف وأربعمائة) مجاهد قاصدين خيبر. (انظر: الرحيق المختوم).
وكانت الأخبارُ قد وصلت إلى يهودِ خيبر عن توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، والذين سرّبها: المنافقون! فتأهبوا لذلك، ولكنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَغَتَهم في وقتٍ لم يحسبوا له حسابه.
- ما تفاجأ اليهودُ إلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على رأس الجيش، وقد وطئ أرضَهم وديارَهم، فصاحوا صيحةَ الملهوف: محمد والخميس!! أي: محمد والجيش - ويا له من خَميس لا يُبقي ولا يذر!!
- ففتح اللهُ عليه خيبر، وأعطاه الله تعالى وأعطى أصحابَه خيرَ تلك القرية، فما شبع الصحابةُ حتى فُتحت خيبر، ثم أعطاه اللهُ تعالى خيرَ أهل تلك القرية، فتزوَّج من صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها-، ووقاه اللهُ شر تلك البلاد وشرَّ أهلها، فقتل الصناديد من اليهود.
- لقد تحصَّن اليهودُ في حصونهم المنيعة، التي ظنُّوا أنها مانعتهم من أمر الله وقدَرِه، فما صمدت تلك الحصونُ إلا أيامًا، ثم تساقطت حصنًا بعد حصن أمام صمود المسلمين.
وقد دار قتالٌ بين فارسِ خيبر: مرحبِ اليهودي، وبين فارس الإسلام: علي -رضي الله عنه-، فلم يصمد عدوُّ الله أمام عليٍّ طويلاً حتى أُردي قتيلاً يتشحط في دمه.
وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: «لأعطينَّ الراية غداً رَجُلاً يفتح الله على يديه، يُحِبُّ الله ورسولَه، ويحبُّه الله ورسولُهُ»، قال الراوي: فبات الناسُ يَدُوكون ليلتَهم: أيُّهم يُعطَاها! فلما أصبح الناسُ غَدَوْا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، كُلُّهم يرجو أن يُعطَاها، فقال: «أين عليُّ بنُ أبي طالب؟» فقيل: هو يا رسولَ الله يشتكي عينَه، قال: «فأَرسِلوا إليه»، فَأُتِيَ به فبَصق في عينه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأَعطاه الراية.
فقال عليٌّ: يا رسولَ الله! أُقاتلُهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: «انْفُذْ على رِسْلك، حتى تنزلَ بساحتهم، ثُمَّ ادْعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله -عز وجل- فيهم؛ فوالله لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النَّعَم».
قال سلمة بن الأكوع: فخرج -والله- يهرول هرولة، وإنّا لخلفه نتبع أثَرَه، حتى ركز رايتَه في رضم من حجارة تحت الحصن.
- ورغم ما وقع من قتال بين المسلمين وبين اليهود إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جرى بينه وبين مَن تبقى من يهود خيبر صلحٌ على:
1- حقن دماء مَنْ في الحصون.
2- ترك الذراري لليهود.
3- خروج اليهود من ديارهم مع الذرية.
4- تملك الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأرض خيبر ومالهم وسلاحهم.
- وقد جرت في هذه الغزوةِ قصةٌ عجيبة - ذكرها ابن القيم وغيره -: فقد جاء عبدٌ أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنمٍ لسيّده، فلما رأى أهلَ خيبر قد أخذوا السلاح سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفسه ذِكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل بغنمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه؟ قال: "أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن لا تعبد إلا الله". قال العبد: فما لي إن شهدتُ وآمنتُ بالله -عز وجل-؟ قال: "لك الجنة إن متَّ على ذلك"، فأسلم.
ثم قال: يا نبي الله! إن هذه الغنم عندي أمانة. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أخرجها من عندك وارمها بالحصباء؛ فإن الله سيؤدي عنك أمانتك"، ففعل، فرجعت الغنمُ إلى سيدها، فعلِم اليهوديُّ أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس فوعظهم وحضَّهم على الجهاد.
فلما التقى المسلمون واليهود قُتل -فيمن قتل- العبدُ الأسود، فاحتمَله المسلمون إلى معسكرهم، فأُدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اطّلع في الفسطاط ثم أقبل على أصحابه، وقال: "لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يُصلِّ لله سجدة قط".
فتأملوا - عباد الله - فسبحان الله! كيف أكرم اللهُ -تعالى- هذا العبد الأسود بهذه الكرامة التي حُرمها أحبار اليهود، والأعمال بالخواتيم.
لقد انتهت هذه المعركةُ الدامية وخلّفت من الشهداء: بضعة عشر وقيل: بضعة وعشرين شهيداً، وقُتل من اليهود: ثلاث وتسعون قتيلاً من حطب جهنم وبئس المصير.
وفي هذه الغزوة دروس وعبر، نتناول بعضَها في الخطبة الثانية بمشيئة الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ....
الحمد لله ... أما بعد:
إن من الدروس والعبر التي نستفيدها من هذه الغزوة ما يلي:
1- أن دينَ الله منصورٌ مهما تكالب عليه الأعداءُ والخصوم.
2- أن الجهادَ في سبيل الله لإعلاء كلمةِ الله هو سنةُ الأنبياء.
3- أن طباع اليهود طباعُ سوءٍ، ومهما حاول اليهود أن يَظهروا بمظهر الأوفياء إلا أن طباعهم تخونهم، وكم علّمتنا فلسطينُ هذا الدرس جيداً، لا يكاد يَظهر جيلٌ من اليهود إلا ويَظهر منهم من الخيانات والغدر؛ ما يبرهن عمليّاً على هذا الخلُق الذميم.
4- قوة العلاقة بين المنافقين واليهود، ومَن أراد تبيُّن هذه العلاقة الاستخباراتية، والمادية، والمصلحية؛ فليقرأ سورةَ الحشر، فلقد فضحَهم مَنْ لا تخفى عليه خافية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ..)[الحشر: 11]، الآيات.
والمنافقون على مرّ التاريخ هم من أشدّ الأعداء على الأمة ضرراً، وسلوا المسجد الأقصى وقضية فلسطين؛ فعندهما الخبر اليقين.
5- أن المنَح قد تأتي في طيّ المِحَن، فهذه غزوةٌ ذهب ضحيتَها عشراتٌ من اليهود، لكنها لم تكن شراً محضاً، بل قُدِّر لبعضهم خيراً؛ إذْ أسلم بعضُهم، وأعجب من ذلك كلّه: حصول زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيي، التي يتصل نسبُها بهارون -عليه الصلاة والسلام-، فهي ابنةُ نبي تزوجها خيرُ نبي..!
فماذا كان شعور صفيةَ حين بلغتها أخبارُ الغزوة؟ لقد كانت كارهةً بلا شك، لكن صدق الله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
6- ظهور آيةٍ من آيات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنقبة من مناقب الإمام السيد الكبير عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهي مواقف تقع، يُظهر اللهُ بها كرامةَ مَن يشاء من أوليائه، وتزداد قلوبُ المؤمنين إيمانًا بنبوته -صلى الله عليه وسلم-.
7- أن اليهود متى ما اجتمع المسلمون عليهم؛ فهم أحقر مِن أن ينتصروا، فهم في أنفسهم كما قال الله عنهم: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر: 14]، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران: 112].
لكن المحزن أن واقعَ المسلمين اليوم لم يَصِلْ إلى مستوى واقع اليهود! فليسوا جميعاً، وقلوبُهم شتَّى؛ فنَفَذ اليهودُ من هذه الثغرة، وجثموا على صدورنا في فلسطين منذ خمس وستين سنة، لم تستطع أمةُ المليار أن تطردهم! بينما لو اتحدوا ضدَّهم، لأهلكوهم بنعالهم فضلاً عن سلاحهم!
8- أن الهدايةَ بيد الله –تعالى-، ليست بذكاءٍ ولا حنكة، وإنما مَن يعلم الله في قلبه خيرًا يوفّقه للهداية، كما في قصة الغلام الأسود، فاطلبها يا عبدالله مِن واهبها؛ فالهداية أعز مطلوب، وربّنا خير مسئول ومجيب.
هذه ومْضةٌ شريفة، وصفحةٌ مشرقة من سيرة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- الذي بذل مع الصحابةِ ما بذلوا من الجهاد باللسان والسنان، فصلُّوا وسلموا عليه، وعلى آله وأصحابه.
اللهم كما مننتَ على ذلك الجيل بنصرة دينك، فاجعل لنا من نصرته أوفر الحظ والنصيب.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي