خُلق آخر نحرص على تعزيزه وهو خُلق الالتزام بمعنى الانضباط والالتزام خُلق يشعر بالقوة ويدل على الإحساس بالمسئولية والجدية وقوة الإرادة والصبر، فإذا أضيف هذا إلى خُلق العدل فاجتمع العدل والالتزام في مجتمع حتى أصبح سمة بارزة فحدثني بعد ذلك عن الإنجاز والاتقان والنجاح وحدثني عن الأمن النفسي والاجتماعي والتنموي.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فنواصل اليوم -إن شاء الله تعالى- الحديث عن التغيير في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وقد كان الحديث الماضي عن تغيير الأخلاق وأن بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل إتمام مكارم الأخلاق، وأن الإسلام لما غيَّر أسوأ ما في أخلاق العرب وغيرهم واحتوى من الأخلاق فاضلها امتد الدين بفضل الله إلى مشارق الأرض ومغاربها وعاش الناس في بحبوحة من الأمر
بفضائل الأخلاق قبل السيف *** قد أسلموا من غير ما من خوف
وعدالة الإسلام أمنت القرى *** لا يرهبون أثارة من حيف
وقد تناولنا خلق العدل بالتحديد، وكيف أنه بالتأكد من الضرورة إذا أردنا العز والبقاء أن نصعد في مراتب خلق العدل؛ لأن العدل قوام بقاء وازدهار الأمم، والظلم وبخس الحقوق مؤذن بفسادها وخرابها كما قال ابن خلدون وغيره من العلماء، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يُروى أن الله –تعالى- ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"، ويقال: "الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
ولهذا لما شاع العدل إلى حد كبير في كثير من مجتمعات الغرب فيما بينهم أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم سيكونون أكثر الناس يوم القيامة تقوم الساعة والروم أكثر الناس.
وذكر الخصال التي أدت بهم لذلك مع كونهم مشركين ومختصر تلك الخصال العدل.
معاشر الإخوة: خُلق آخر نحرص على تعزيزه وهو خُلق الالتزام بمعنى الانضباط والالتزام خُلق يشعر بالقوة ويدل على الإحساس بالمسئولية والجدية وقوة الإرادة والصبر، فإذا أضيف هذا إلى خُلق العدل فاجتمع العدل والالتزام في مجتمع حتى أصبح سمة بارزة فحدثني بعد ذلك عن الإنجاز والاتقان والنجاح وحدثني عن الأمن النفسي والاجتماعي والتنموي.
الالتزام مع العدل، والالتزام لا يقصد به الحرفية الصماء لا، بل يلزم أن يكون الملتزم حرًّا في الاسترشاد والنقاش لا أن يكون كالآلة الجامدة يتبع الحرف خطا ونقطة دون سؤال ولذلك صح في مسلم وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دفع الراية إلى علي -رضي الله عنه- حين وجهه إلى خيبر وقال له: "امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك".
سار عليّ -رضي الله عنه- شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ فقال: يا رسول الله على ماذا أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".
فعلي -رضي الله عنه- هنا يضرب مثلاً في الالتزام لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "امضِ ولا تلتفت"، فمضى والتزم بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يلتفت، ولكنه لما ورد في ذهنه التساؤل وقف ليسترشد، فالقتال لابد أن يكون لغاية أراد أن يتأكد من الغاية من القتال، فوقف أيضًا ولم يلتفت، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجه إلى الإمام التزامًا بتوجيهه: "امض ولا تلتفت"، هذا هو الالتزام النَّشِط هذا هو الالتزام مع الوعي، ومعرفة المنفعة حتى يتقن المسلم تحقيقه.
ولذلك على سبيل المثال ليس الالتزام ساعات الحضور والانصراف مقصود بعينه لجميع المهام إلا من جهة الالتزام بالعقد والعهد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]، تعاقدوا معك على أن تحضر في هذا في هذا الوقت وأن تنصرف في هذا الوقت، فافعل ذلك التزامًا بالعقد، وإنما المقصود هو إشاعة روح الانضباط ومنع الفوضى ولاسيما إذا كان عدم الحضور في الوقت مؤثرًا سلبًا على سير العمل. وكذلك في غالب المهام، فينبغي معرفة الروح والجوهر قبل المظهر.
أيها الإخوة: إن الإسلام هو الدين الالتزام، وإنك لتجد روح ذلك في القرآن قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة:208].
ادخلوا في السلم كافة أي فيه كله، وليس بالتشهي فما أعجبكم أقمتموه وما لم يعجبكم اعرضتم عنه، لا، ويقول سبحانه آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يلتزم بالوحي التزامًا كاملاً دون أن يحيد ولو شيئًا قليلاً: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73- 75].
وقال سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]، ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
واستمع إلى الطريقة التي حثَّ عليها القرآن في الأخذ بالدين قال تعالى: (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ)، وقال تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)، وقال سبحانه: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12].
القرآن يدعو إلى الانضباط والالتزام وعدم الالتزام دليل اللامبالاة والاستهتار، وفي ذلك الخسران وضياع الأمم، ومن الأمور ما هو معلوم ومشهود، ويكفي في ذلك ما حصل في غزوة أُحد عندما لم يلتزم الرماة بأوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبقاء على الجبل مهما حصل حين أكد عليهم توكيدًا جازمًا، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبرحوا"، لا تتركوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، إن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم، لا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم".
هكذا أكد عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يلتزموا بأوامره -صلى الله عليه وسلم-، وأغراهم ما رأوه من هزيمة المشركين أول الأمر، فنزلوا من الجبل ابتغاء الغنائم فوقعت الهزيمة، وكسرت رَباعية النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كاد أن يُقتل عليه الصلاة والسلام.
وقُتل من الصحابة كبار أخيار؛ حمزة بن عبدالمطلب، مصعب بن عمير، سعد بن الربيع، عبدالله بن حرام، عمرو بن الجموح، عبدالله بن جحش، أنس بن النضر، وغيرهم، وكانت مصيبة بنص القرآن مصيبة قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ)، وأرجع القرآن تلك المصيبة إلى الإهمال إلى عدم الالتزام قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].
وأشار إلى معصية عدم الالتزام في آية أخرى فقال: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ)؛ إذ تقتلونهم وتستأصلونهم بإذنه (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران:152].
وقد غفر الله –عز وجل- لجميع الصحابة الذين فعلوا ذلك بعده، لكنه درس في الالتزام وأهمية الالتزام وأهمية طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك.
معاشر الإخوة: في الدين وفي العقل المجرد كذلك المجتمع الملتزم مجتمع ناجح، والمجتمع المفرط المهمل مجتمع فاشل، ولا نريد أن نشير إلى أمثلة بسيطة صارخة كضعف الالتزام في قيادة السيارة مثلاً وفي أداء الوظائف العامة ولا حتى في خلع الأحذية في أماكنها الصحيحة عند أبواب المساجد، الكلام في هذا يطول.
لكن نقول: إن علاج خلل الالتزام من جهتين، ذاتية وخارجية، أما الذاتية وهو أن يقتنع المسلم أينا كان موضعه بضرورة التغيير الذاتي حتى يحصل التغيير الرباني: (لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
أن يقتنع بذلك قناعة إيمانية في المقام الأول وقناعة واقعية مادية في المقام الثاني ثم إن الذي يريد أن يغير من طبيعته المهملة اللامبالية فلا يلتفت إلى المثبطين من أصحاب الأمس، بل لا ينظر إلى أيّ إنسان مهملاً كان أو ملتزمًا لأنه يعمل لإرضاء ربه، ومن ثم إرضاء لضميره قبل أي شيء، فالغربة في مجتمع معاكس لفكرك ومنهجك وسلوكك غربة صعبة جدًّا، لكنها غير مستحيلة، وليكن حديث الفسيلة أمام عينيك لا يغيب، ففي صحيح الجامع من حديث أنس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
فغرس الفسيلة لا علاقة له بزمن ولا حصاد ثمر، بل إن ثمر الفسيلة لن يُجنى قطعًا؛ لأن الساعة قريبة في مرأى العين وإنما الغرس مرتبط بحسن الأداء وبالثواب الأخروي فقط.
هذا الحديث يا إخوة كالمشعل في يد الغريب إذا صار في ظلام الغربة ينير له الطريق ويعينه على الصبر فسر في طريقك رغم الظلام فإن اليقين ينير الطريق.
فلا على المحسن الذي باشر التغير في نفسه من حياة التفريق والضياع إلى حياة الانضباط والالتزام لا عليه من إرجاف المرجفين وليصبر وليحتسب فإن الطريق طويل صعب. هذه هي الجهة الذاتية.
الجهة الثانية للعلاج الجهة الخارجية ويقصد بها البيئة المعينة على الالتزام البيئة بكل جوانبها الإدارية والثقافية والمادية والاجتماعية، ففي البيئة السليمة الملتزم المنضبط يحفز ويقدر، وفي البيئة المريضة يهمل ويساوى مع المهمل والمستهتر فريضة، وهذه الأمور لا يملك تغييرها إلا القائم على أمرها فإن تولاها بإتقان وعدل أفلح النتاج كما قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف:58].
وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ".
فالمولود يتشكل بحسب البيئة التي ترعاه ومع الوقت يصبح الالتزام سجية من سجاياه وكل راعٍ مسئول عن تحقيق هذا التغيير في نفسه وفي من هو مسئول عنهم.
في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"، وهكذا يتدرج الحديث في بيان المسئوليات ليلتزم الجميع كلٌ بحسب دائرة مسئولياته.
الحاصل أن الالتزام الذي هو قصر النفس على أداء مهامها وواجباتها أكمل أداء خُلق نادر في المجتمع ينبغي تشجيعه وتحفيزه ورعايته حتى يكون التغيير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فالخُلق الثالث بعد العدل والالتزام هو الصدق، والله المستعان، ابحث عن الصادق في هذا الزمان ونتحدث عنه بما نستقبل من أيام إن شاء الله تعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي