كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَة، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ...
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي أنار لنا طريق الحق فأخرجنا من الظلمات إلى النور، الحمد لله الذي جعلنا من أمة خير من أرسل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
معاشر -عمار بيت الله-: في الجمعة الماضية كان الحديث عن القرآن وبعض فضائله، وعن مكانة أهل القرآن ومنزلتهم عند الله، واليوم -بإذن الله- تتمة الحديث عن القرآن وحالنا مع القرآن.
فأقول -وبالله التوفيق-: الله الحليم الكريم أكرم أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخصها من بين الأمم بأن جعلها أفضلَ الأمم وخيرَها، وأكرمها بإنزال خير كُتبه على خير رسله، فقال سبحانه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16].
فالنور هو محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أنار الله وأظهر به الحقَّ، فهو نور لمن استنار به.
وَالكِتَابٌ المُبِين، هو القرآن: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) [المائدة: 16] أي طرق النجاة والسلامة، ومناهج الاستقامة.
(وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 16] ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أقوم وأبين المسالك، ويرشدهم إليها.
القرآن -معاشر أمة القرآن- أُنزله الله ليكون منهج حياة وهداية للناس عامة، ومرشدا إلى أقوم وأنجح سبيل، قال ربنا: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123 - 124].
فبقدر ما نقترب من القرآن ونلازمه قراءة وتدبرا وعملا، ننال من بركاته، ويفتح لنا من خيراته، وبقدر ما نبتعد عنه تحيط بنا الهموم والغموم، ومن تم تضيق الصدور وتخيم علينا الأحزان.. ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا".
فهو ربيع للقلوب، ونور للصدور، وجلاء للأحزان، ومُذهب للهموم والغموم.
القرآن هو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة.
واسمعوا لهذه الوصف العجيب من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو يصف القرآن: "كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَة، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) [الجن: 1]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" انتهى.
فإذا كان هذا أقل ما يقال في القرآن.
فما هو حالنا مع القرآن؟ وما منزلة القرآن في نفوسنا وحياتنا؟
الجواب تسمعونه حالا.
فالناس من خلال تعاملهم مع القرآن أصناف: فنصنف تكلمنا عنهم في الجمعة السابقة، يلازمون القرآن تلاوة وتدبرا وتعلما وتعليما وعملا، ودعوة وتطبيقا، وهؤلاء هم في أسمى وأرقى وأعلى وأشرف المنازل عند الله، ففضلهم ليس كفضل أحد، وعزهم ليس كعز أحد، رفعوا قدر القرآن فرفع الله قدرهم، وأثابهم المكانة الخاصة فهم أهل الله وخاصتُه.
وصنف يلازمون القرآن قراءة ولكن كما هو ملاحظ عند البعض منهم وإن لم أقل أكثر هذا الصنف همهم هو إنهاء الختمة، جل الاهتمام منكب على تقليب الصفحات، والسعي للوصول إلى نهاية المصحف.
والبعض لا يعرف القرآن ولا ينظر في القرآن إلا في رمضان، فإذا جاء رمضان وكان عنده مصحف في البيت أزال الغبار عنه من طول الهجران له، فتجده يقرأ ويجتهد ويسابق الشهر، فإذا انسلخ شهر رمضان، وضع المصحف وأحكم عليه الوَثاق.
ومنهم من لا يقرأ القرآن بالمرة.
وبعضهم لا يقرأه ولا يسمعه إلا في الصلوات.
وبعضهم لا يقرأه إلا مضطراً، ومنهم من يعطي أكثر اهتماماته في مطالعة الصحف والمجلات، ومشاهدة البرامج والمسلسلات، وسماع الأغاني والملهيات، ولا تجد لكتاب الله –تعالى- في أوقاته نصيباً.
بل نجد البعض قد أخرج القرآن عن رسالته وجلالته ووقاره وحوله إلى تمائم ورقى تعلق على الأجساد أو توضع في البيوت أو السيارات دفعًا للضرر والمصائب.
ومنهم من يستخدمه في الشعوذة والسحر.
ومنهم من اكتفى بتلاوته تباهياً وتفاخراً في المآتم وجعله وسيلة للتسول والتغني والتطريب والتنغيم.
وصنف يتعامل مع القرآن وكأنه ما أنزل إلا للأموات، وليس للأحياء، فلا تجدهم يلتفتون أو يستمعون للقرآن إلا في حالة موت أحدهم، فوقتها تصدح أجهزة التسجيل وتنطلق الحناجر بالتلاوة في البيوت وفي المقابر، ثم بعد ذلك بأيام معدودة يسدل الستار عن القرآن وكأن شيئا لم يحدث!
بل هناك من ينتسب لأمة القرآن وهو يُكذب بالقرآن ويصد عنه ويطعن فيه ويصف أحكامه بأنها لا تتلائم مع العصر الذي نعيش فيه.
الحمد لله، وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
القرآن -يا أمة القرآن- أقدسُ وأجل من أن يكون أحرفا تُردَّد دون فهم ولا تدبر، القرآن ما نزل ليكون آيات تُزخرِف المكاتب والصالونات، ولا ليُجعل في التمائم والسحر والشعوذة، وما نزل ليقرأ في المناسبات ولا في المقابر، وما نزل ليقرأ في الصلوات فقط ويُهجرَ خارجها، لا هذا ولا ذاك، بل هو كما قال ربنا: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
القرآن نزل ليخالط القلوب، نزل ليصنع رجالا وقد صنعهم، رجال انقادوا لربهم وقادوا البشرية إلى ما فيه خيرها ونفعها وصلاحها، أولئك الرجال سادوا الأمم وحكموها، ليس بقوتهم العسكرية ولا العددية ولا بغيرها من العوامل المادية، إنما سادوا وحكموا الأمم بقوتهم الإيمانية والأخلاقية، تلك القوة التي نمت وتغذت وترعرعت من نور القرآن العظيم الذي ملأ حياتهم فأيقنوا أنهم أمةٌ ذات رسالةٍ وهدف أسمى، أمةٌ اصطفاها الله -جل جلاله- ليس لنفسها خاصة وإنما لعامة الناس، ابتعثها الله لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أو كما قال ربعي بن عامر وهو يخاطب رستم قائد الفرس: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" فمن أي مدرسة تخرج هذا الرجل؟
إنها مدرسة القرآن الكريم التي صنعت هذا الرجل وهيأته، إنها المدرسة التي تخرج منها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وغيرُهم، كما تخرجت منها نساء مجاهدات صابرات، أمثال سمية أم عمار، ونسيبة بنت كعب، وصفية بنت عبد المطلب، وغيرهن كثيرات.
إنها مدرسة القرآن الكريم التي صنعت وهيأت رجالا ونساء، بل وأطفالا أخلصوا قلوبهم لله -تعالى-، فلم يكن فيها متسع لا لدنيا ولا لمنصب ولا لمال ولا لشهوة ولا لشهرة ولا لمصلحة.
إنه القرآن الذي غَيّرهم، ونقلهم من عُبّاد الحجر إلى قادة للبشر، من أمة لا يؤبه بها، ولا يُعتد حتى بوجودها أصلا، إلى أمة تسود البلاد والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبدا.
إنه القرآن كتاب ربنا، الذي أعزهم ورفع ذكرهم في الأولين والآخرين، وضمِن لهم الأمن والأمان والسعادة في دنياهم وأخراهم لما تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفقهوا أحكامه وشرائعه، ووقفوا عند حدوده، واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، فاختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهةُ الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة.
وما أحوج الأمةَ اليوم إلى رجال ونساء يصنعهم القرآن.
فما أحوج الأمةَ اليوم إلى أبطال يتربون على موائد القرآن، وفي رحاب القرآن، فهؤلاء هم أنفع للأمة وأصلح لها.
وليست الأمة في حاجة لأبطال المسلسلات ولا الأغاني ولا المباريات، فهؤلاء شؤم على الأمة.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل القرآن العظيم ربيعا قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
اللهم اجعله حجة لنا لا علينا، واجعلنا يا ربنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي