من عظم الله -تعالى- خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه حقا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور. من عظم الله -عز وجل- وصفه بما يستحق من الأوصاف، وأقر بأفعاله، ونسب النعم إليه دون سواه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]. من عظم الله -تعالى- قدم...
الحمد لله العليِ الأعلى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده ربي وأشكره على ما أعطى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى، اللهمّ صلِ وسلِم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء.
معاشر عمار بيت الله: اليوم لنا موعد مع الدرس السابع والأخير من آية الكرسي، ومع قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
إذا كان علم الله الذي وسع كل شيء، لا يحيط به ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف يحيط به العرافون والمنجمون الدجالون والكهنة المشعوذون، الذين أصبحوا يتفننون في معرفة المستقبل والحظ المنشود والاطلاع على الغيب، فطلعوا علينا عبر القنوات الفضائية بعدما كانوا يعتمدون أساليب بدائية، فترامى ضعاف الإيمان على أبوابهم، وصدقوهم في دعاويهم بأنهم يعلمون الغيب: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 65].
فعلى المؤمن أن يحذر من التطلع لما خص الله به نفسه من علم الغيب، فالمستقبل لا يعلمه ألا الله، والغيب من اختصاص الله -جل جلاله-، فلا يحملنك -أيها المسلم- شوقُك لمعرفة المستقبل والحظ المنشود، أو الغيب المستور أو رفع الحاضر المنكود أن تأتي هؤلاء العرافين الدجالين، أو الكهنة المشعوذين الذين يدعون علم الغيب فتصدقهم فيما يدعون، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيٍء لم تُقْبَلْ لهُ صلاةٌ أربعين ليلةً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافاً أو كاهناً، فسأله فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-".
فلا يحيط بعلم الله ولا يعلم الغيب إلا الله -جل وعلا- الذي وسع علمُه كل شيء، وأحاط كل شيء علما، فهو العالم الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم ما بين أيدي العباد وما خلفهم، يعلم ما يظهرون وما يسترون وما يخفون، ولا يحيطون بعلمه إلا بمشيئته وإرادته وبالمقدار من علمه الذي يريد، وفي الوقت الذي يريد والمكان الذي يريد: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59] فلا تقع قَطرة، ولا تُعقد نية، ولا تُقال كلمة، ولا تُخطى خطوة، ولا يُخط حرف إلا بعلمه. يعلم السرائر، ويطلع على الضمائر، وسع سمعه الأصوات، فلا يشغله صوت عن صوت، ولا تختلط عليه لغة بلغة، بل يسمع جميع الأصوات على اختلاف اللهجات واللغات: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة: 255].
عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله فأي ما أنزل الله عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي" ثم قال: "يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة".
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) فأي كرسيٍّ هذا الذي يسع السموات السبع والأرضين السبع؟! السموات السبع وما فيهن وما بينهن بالنسبة للكرسي إلا كحلقة أُلقيت في فلاة، أو كدرهم أُلقي في صحراء، وفضل العرش على الكرسي كفضل الصحراء على ذلك الدرهم أو تلك الحلقة.
فإذا كان كرسي الرحمن بهذه السعة فكيف تكون إذن عظمة العرش؟! وكيف تكون عظمةُ من خلق العرش ثم استوى عليه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طـه: 5]؟!
هنا يمتلئ القلب تعظيما لله -تعالى-، ويستشعر المسلم عظمة هذه الآية، فتهزه وتحرك جوارحه لما يقرأها، ولا يملك إلا أن يخشع قلبُه وتخضعَ جوارحُه تعظيماً وحباً ورهبةً لله العلي العظيم الذي أنزل أعظم آية وقال فيها: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) [البقرة: 255]، لا يُرهقه حفظهما ولا يُتعبه ولا يَصعُب عليه أمرهما، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو سبحانه و-تعالى- يحفظ السموات والأرض ويرعاهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القادر على كل شيء، الحي القيوم لا يعزب ولا يغيب عنه شيء (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) العلي لكمال قوته وقدرته وسلطانه وعظمته، العلي بذاته -جل وعلا- على جميع المخلوقات، العلي بعظيم الصفات، العليّ الذي قهر جميع المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت لقدرته الصعاب وذلت له الرقاب.
هو العظيم -سبحانه وتعالى- الكبير المتعال، الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، له العظمة في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته -جل وعلا-، عظيم في ملكه وخلقه، عظيم في حكمته ورحمته، عظيم في افتقار خلقه إليه وغناه هو عنهم، عظيم في تدبيره شؤونهم وما يحتاجونه، خضع كل شيء لأمره، ودان كل شيء لحكمه، والكل تحت سلطانه وعظمته، وكل شيء دونه فلا شيء أعظمَ منه، وكل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائلٌ إلا ملكه، روى أبو داود عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطوي اللَّهُ السمواتِ يومَ القيامةِ، ثمَّ يأخذُهُنَّ بيدِهِ اليُمنى، ثمَّ يقولُ: أَنا الملِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتَكَبِّرونَ؟ ثمَّ يطوي الأرضينَ، ثمَّ يأخذُهُنَّ بيدِهِ الأُخرى، ثمَّ يقولُ:أَنا الملِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتَكَبِّرونَ؟
معاشر الصالحين والصالحات: لو علم العباد ما لله من العظمة ما عصوه، ولو علم المحبون ما لله من الجمال والكمال ما أحبوا غيره، ولو عرف الفقراء غنى الرب -سبحانه وتعالى- ما رجوا سواه، فسبحانه -جل في علاه- هو سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين، سبحان من أحاط علمه بالكائنات، واطّلع على النيات: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12]، وأحصى كل شيء عدداً، يعلم ما في الضمير، فلم يغب عن علمه الفتيل ولا القطمير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
فهل عرفنا الله حق المعرفة؟! وهل قدرناه حق قدره؟! نشاهد إتقان صنعه في كل شيء، وننظر في هذا الكون الشاسع العظيم فلا نعظمه ونقدّره، يأتينا أمره فلا نطيع، يأتينا أمره فلا نطيع ونبصر آياته في الكون وفي أنفسنا فلا نشكر.
فكم من عاص لله في خلوته؟! وكم من جاحد لنعمه؟ وكم من مضيع لفرائضه وحقوقه؟ وكم من منتهك لمحارم الله وحدوده؟
فهل هذا هو حقُّ العلي العظيم علينا؟!
فنسألك اللهم أن تعفو عنا، وتغفر لنا، وتردنا إليك ردًّا جميلاً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الإيمان بعظمة الله -تعالى- له ثمار يجنيها المؤمن بالله -عز وجل-، وله آثار تدل على أن العبد معظم لله -تعالى-، فمن عظم الله -تعالى- خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه حقا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور.
من عظم الله -عز وجل- وصفه بما يستحق من الأوصاف، وأقر بأفعاله ونسب النعم إليه دون سواه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53].
من عظم الله -تعالى- قدم محبته -جل وعلا-، ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبة ما يحبه الله ورسوله على محبة نفسه وشهواته وأهله وولده وماله والناس أجمعين.
من عظم الله -تعالى- أكثر ذكره، فإن البشر لا يزالون يمدحون ويذكرون من يعظمون، فكيف يزعم زاعم أنه معظم لله -تعالى- وذكره لا يجري على لسانه إلا قليلا.
ومن عظم الله -تعالى- توكل عليه، واعتصم به، فما في قلبه من تعظيم الله -عز وجل-، أقوى وأمكن من المخلوقين مهما بلغت قوتهم وبأسهم وكثرتهم.
ومن عظم الله -تعالى- لم يُقدم على كلامه أي كلام، بل هو دائمُ النظرِ في كتاب الله العظيم، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا، فلا يهجر كتاب ربه -تبارك وتعالى-.
من عظم الله -تعالى- وقف عند حدوده، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، وعظم حرماته: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30].
من تأمل آية الكرسي، علم أنها قد جمعت أوجه العظمة للخالق سبحانه فاستحقت أن تكون أعظم آية في كلام الله -عز وجل-؛ لأنها دلت على عظمة العلي العظيم، من قرأها وتأملها وتدبرها ظهرت له عظمة المولى -جل جلاله-، وكان ذلك داعيًا له إلى الاستقامةِ على الهدى، والبعدِ عما يخالف شرع الله -تعالى-.
كان ذلك داعيًا لك -أيها المؤمن- أن تتيقن دائماً أن الله عليم بما تصنعُه جوارحك، وما تعزِم عليه في قرارة نفسك، أن الله عليم بأحوالك، سرِها وعلنِها، علما يحملك على التهيب من الإقدام والجرأة على حدود الله واقتحام حرماته حياءً منه سبحانه، علما يجعلك دائماً نزَّاعاً للطاعات، مسارعاً للخيرات، مبتعدا عن السيئات مراقباً لنفسك بنفسك، وحذرا من نفسك على نفسك، وبدوامك على ذلك والمجاهدة عليه، تترقى أيها المؤمن من درجة الإيمان، إلى مرتبة الإحسان وهي: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50 - 51].
وهكذا -معاشر عمار بيت الله- كان حديثنا عبر هذه الرحلة الإيمانية مع أعظم آية في كتاب الله، آية عظيمة في معناها ودلالتها وفضلها، هي آية الكرسي.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي